نشرة مدرسيّة أم "خمسين ألف" ! |
كنت من بين من رثي حال العراق ,حال عاصمته ,ممّا تشهده من ضمور "بصري" يكاد يوصلها للعمى معماريًّا ولونيًّا وبيئيًّا بعدما كان نموذج عالمي من "الكتلة" والانسجام ,متوارث على أيدي مهندسون معماريّون مثقّفون بأشراط الحداثة المتّصلة بالجذور ,منهم عالميّون ..فمع الأسف ,وبدعم ممّن تسلّطوا على مقدّرات البلد ,وببركات المشروع الأميركي في "خصْيَنة العالم" فقد العراق على أيديهم قيمه الفنّيّة الرصينة في بلد ابتكر أهلوه الأوّلون أولى إرهاصات الفنون بأشكالها الكتابيّة ـ الصوريّة لغاية "الأوت لاين" ..فالعاصمة بغداد تتعرّض اليوم للنحر بسكّين الحكم السياسي الديني المختلّ في عصر من أولى شروط ولوجه الفنون والعلوم ,فقذفوها وراء ظهورهم ,وسط نهريه العظيمين في لاحقة "هولاكيّة" غير مسبوقة من التخريب ,بعدما أكانت بغداد بالذات ,الائتمان عليها "مختبر" أو غرفة امتحان ثقافيّة وفنّيّة ,من النوع المخيف والمرعب ,يتهيّب دخولها كلّ من عزم شغل منصب أمينًا عامًا لها ..وبغداد قامة العلم وفقه الأبجديّة الفنّيّة للحياة ,بشواهد بسيطة نجت من عاتيات الزمن يتوضّح ذلك, لأثرها العميق في النفس ..هي أمّ منائر العلم ومساجد بحث مستمرّ عن الذات تليق بوحي متخيّل يهبط من السماء ..وهي أنظف بلاد العالم ,يشهد عليها سكّانها الثلاثون مليونًا زمن العبّاسيين برصافتها وحدها فقط, ألف حمّام ..بغداد ألواح الرخام والآجر و"الفشقي" و"الفرشي" وخشب "الجاوي" والصاج ,هي أرض "السندباد والسجّادة الطائرة ..بلاد البلّورة المسحورة تنقل بالصوت وبالصورة ..بغداد افتح يا سمسم ..تلك وغيرها ألهبت خيال العالم وعلى أساس "أفكارها" انطلقت لغة العلوم والتكنولوجيا وما وصل العالم إليه.. رسخت في ذاكر العالم.. فالألمان مثلًا ..عندما يذكر اسم بغداد أمام النخبة منهم تهتزّ مشاعرهم أكثر ممّا تهتزّ لذكر باريس ..فبغداد على صفحات "ورق الترمة" ذهبيّ الطابع والتأثير البصري نقش القصّاصون والورّاقين أحلامهم البغداديّة ..وعلى إيقاع ترف "البغددة" , بالملايين أغطسهنّ هولاكو بما حملنه بين مطويّاتهنّ من أثقال المداد, معبرًا للهاربين من سيوف التتار ما بين الرصافة و"الجسر" إن حرّ النحر .. ما أن وقع بصري على العملة العراقيّة الجديدة فئة "خمسين ألف" ,ولِهت بأضعاف ما ولهت له يوم اختزل العراق بشخص صدّام بعملة البلد الورقيّة رغم أنّ جميع ما أنشأ في عهد نظامه يتمتّع به لصوص العراق اليوم ساسة وقادة ومتنفّذين محسوبة على الدكتاتور.. عزّيت نفسي بعدها لما أوصلنا الحكم الديني السياسي إليه بعد أن لامست أصابع سحره العفن عملة البلد الورقيّة ,قلت: "الجماعة حائرون كما يبدو ,فاعتمدوا على أنفسهم في التصرّف بالبلد بعد أن ظنّوا أنّ الله تركهم بمنتصف الطريق وأشبعهم بصقًا "فهموها هكذا" كلّما تفيض العاصمة ..وسبب انهيار معنويّاتهم واضح على العملة النقديّة الأخيرة وعلى ساحات بغداد وحدائقها العامّة الّتي احتكروها جعلوا دخولها ما تعادل "أربعة يورو", ولكلّ فرد!, وبحيلة شرعيّة! بعدما كانت مجّانيّة .. يبدو كان يدور في تصوّر هؤلاء عندما كانت تجتمع بهم أولبرايت "لتحرير العراق من الاستعمار الإنكليزي" يتصوّرون ما أن يصلوا للسلطة حتّى تعمل أحلامهم تطبّق واقعًا على الأرض تلقائيًّا وب"البركة" دون الحاجة لاستخدام العقل ذلك إن كان لديهم مشروع أصلًا, "ذلك قبل تزويرهم الشهادات والعلوم المعرفيّة بقيادة فيلسوف العصر" قبل أن يصطدموا بجدران الحقيقة حين أخذوا يحاولون نطحها بالتزوير.. فبالتسبيح وبصلوات الاستسقاء وبالتمائم والصدح بالعزاء في الشوارع والأزقّة بالمكروفونات ليل نهار "وبالركض" وبالنوافل وبالأدعية وبكثرة التردّد على مكّة ,حجّ وعمرة ,وذلك: "لردّ الجميل لله على ومساعدته لهم للوصول للسلطة" ,طبعًا بأموال الشعب.. وسينصلح حال العراقيّين بظنّهم المختلّ وهم في اجتماع قمّ وشقلاوة "كأخوة كرد وعرب وأحزاب شيعيّة وسنّيّة" ستصلح العراق, وسيشبع الجياع وستنتهي البطالة وسيشفى المرضى وستعمّ النظافة وستنتشر العطور الفوّاحة وسيهابه الأعداء وسيخجل وسيستحي المنظّفون في دول الجوار وسيكون للعراقي بريق ذاتي يلمع لوحده وأحيانًا يشتعل وينطفئ كالنشرة الضوئيّة ,وهو يعبر الحدود لدول أخرى, "وصلها بالفعل وتؤدّى له التحيّة الآن" ,كما وعدوه! ,وستعمل مصانعه جميعًا وبأحسن ممّا كان ..وسيعود الدينار بثلاثة دولارات ونصف الدولار.. بين "البطّة" و "البيتنجانة" ينحصر الإبداع الفنّي بين طيّات ذهن مثل هؤلاء ..وكأنّهم يعترفون أنّ أشكالهم هم وصورهم أشياء تافهة ,هي أيضًا إلى زوال وليست فقط موروثات بغداد.. |