نُصاب بالذهول عندما نرى عدسات التصوير تحوم حول بعض المسؤولين المتهمين بصفقات الفساد، ونخشى على مستقبلنا عندما نسمع الناس يتهكمون عليهم، ويرشقونهم بعبارات التوبيخ والتقريع، لكنهم يمضون في طريقهم بصلافة ما بعدها صلافة، ويواصلون سيرهم بقلوب ميتة، أليست هذه مفارقة تثير الدهشة في هذا الزمن العجيب ؟. ينبغي أن لا نتوقع من السياسي إلا أن يستحي من شعبه ويخجل من وطنه، فالسياسي النزيه هو الذي يخجل من عيوبه، لكنه ينبغي أن لا يخجل من إصلاحها. السياسيون يُعرفون بأفعالهم لا بأقوالهم، ويتألقون بمواقفهم الوطنية المشرفة، لا بفسادهم وصفقاتهم المريبة، أما إذا كانت شبهات الفساد تحوم حولهم، وتلاحقهم حيثما حطوا رحالهم، حتى لو لاذوا بالفرار نحو المنافي البعيدة، فهي عار وهوان لا يقبله، ولا يتقبله أي إنسان، فما بالك بالسياسي الذي يقامر بسمعته ؟، ثم يخسرها دفعة واحدة في مستنقعات الفساد ؟، وما بالك بالمسؤول الكبير، الذي يحاصره الناس بتعليقاتهم الجارحة، ويرشقونه بعباراتهم المهينة، وربما يشتمونه ويبصقون عليه، وينعتونه بأبشع النعوت والأوصاف، فيتحمل المهانة صاغراً ذليلاً، من دون أن يهتز طرفه، ومن دون أن ينفي التهمة عن نفسه ؟، وقديما قال المتنبي: مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الهَوَانُ عليهِ، ما لجُرْح بمَيّتٍ إيلامُ. أليست كرامة المسؤول الشريف فوق كل شيء، وفوق كل الاعتبارات ؟. قبل أعوام أقدم السياسي الفرنسي (لوران ديلاي) على شنق نفسه في ضواحي موسكو، بعدما حاصرته الصحف الباريسية بحملاتها التشهيرية، وأقدم (هاشيموتو فوكودا) مدير بلدية (كوبي) اليابانية، على شنق نفسه بسبب فشله في توفير مياه الشرب لمدينته التي ضربها الزلزال، وفي صباح اليوم التالي وجدوه مشنوقاً ومعلقاً بشجرة، وقد ترك رسالة يقول فيها: (إن المسؤول الذي يعجز عن توفير مياه الشرب لأبناء مدينته لا يستحق الحياة)، وهكذا انتحر (هاشيموتو) تضامناً مع أسر الضحايا، ولشعوره بالذنب والتقصير في حادثة طبيعية ساقتها الأقدار إلى مدينته. لم يكن طرفاً فيها، لكنه خجل من نفسه لأنه لم يقدر على تأمين مياه الشرب للعطشى، ولم يقدر على مواساتهم في هذه الفاجعة، ففضل الانتحار على طريقة الساموراي، واختار الموت بشرف لذنب لم يقترفه، لكن مشاعره الوطنية الصادقة، وانفعالاته الإنسانية المرهفة، هي التي رسمت له الطريق للالتحاق بالفرسان النبلاء. وعرض علينا التلفزيون قبل بضعة أيام فيلما وثائقيا لرجل يطلق النار على نفسه أمام حشد من رجال الإعلام، قالوا أنه كان وزيرا من وزراء أمريكا، والحقيقة أن الفيلم يعود إلى عام 1987، ويظهر فيه السيناتور (بود ديور Budd Dwyer) ممثلا عن ولاية بنسلفانيا، وهو يذود بالدفاع عن نفسه، فيعرض على الصحفيين قرار براءته من تهمة الرشوة الملفقة ضده، ثم يقف بثبات أمام عدسات التلفاز، معتذراً لأسرته. قال في كلمته المقتضبة: أنه جلب العار لولايته بهذه التهمة الباطلة، وهي وإن كانت باطلة وملفقة، فأنه يخجل من مواجهة الناس بعد الآن، ولا يجد بداً من الانتحار، وهكذا أخرج مسدسه الشخصي، وأطلق النار على نفسه، وسقط مضرجا بدمه دفاعاً عن سمعته وسمعة عائلته
|