الفوضى أم الاستقرار: الديكتاتورية والفوضى يسيران جنبًا إلى جنب |
ترجمة نضال عبدالرحمن سقوط الديكتاتورية ليس دائمًا أمرًا يبعث على البهجة، زميلتي كريستيان هوفمان نشرت مقالة في SPIEGEL International (ترجمتها إلى العربية صحيفة التقرير) قالت فيه إن مواطنو أي دولة حينما يتم تخييرهم بين الديكتاتورية والفوضى التي يخلفها سقوط النظام ؛ ستكون الديكتاتورية أهون الشرين حيث إنها توفر لهم ثباتًا في الحالة المعيشية دون تغييرات.
إنها أطروحة مغرية تم تجديدها مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، وأيضًا الربيع العربي ساهم في إعطاء أمل مبالغ به ناحية التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، هذه الفكرة المثالية سرعان ما خيبت آمال الكثيرين مما يسمون بأنصار الواقعية السياسية حيث ناقشوا هذا الموضوع مجددًا، وعلى الرغم من أن رسالتهم التي تدعوا إلى الاستقرار قد تبدو غير متعاطفة وحتى مثيرة للسخرية إلا أنها واقعية، لكن هل هي كذلك بالفعل؟
بعض أعضاء المجتمع الدولي يحاولون نشر مفهوم استقرار النظام الديكتاتوري عن طريق إبقاء ذكر الطاغية المخلوع بين الفينة والأخرى والتركيز على محاسنه، وما هذا إلا سراب!، فالخطأ هنا يقع بوصف الديكتاتورية بأنها مستقرة، ولو كانت كذلك لم يكن ليسقط الديكتاتور حسني مبارك في مصر أو معمر القذافي في ليبيا أو زين العابدين بن علي في تونس.
على خلاف ما يظنه البعض، إن مسار الانتفاضات العربية لا تدعم الرأي القائل بأن "الديكتاتورية هي البديل الأفضل للفوضى"، إنها تحكي قصة الأنظمة المدعومة من الغرب المتحججين بهذا الرأي بالذات ومن ثم سقوطهم بشكل فجائي وسريع؛ لأن الأساسات تم القضاء عليها بواسطة مشكلة عطالة الشباب وضعف الاقتصاد ووضع الدولة المتدهور.
هذه الأنظمة كانت عفنة من الداخل لوقت طويل، وقد سقطت بسبب مكرها وعدم قدرتها على تلبية حاجات المواطنين، هذه الحاجات ليست بالضرورة حرية التعبير عن الرأي والديمقراطية والتي تُصنف كحاجات ثانوية، بل حاجات أولية كالطعام والعمل والحياة الكريمة.
ليس هناك "ديكتاتورية كُفء" السؤال ليس إذا ما كانت الديمقراطية أفضل من الديكتاتورية أو فيما إذا كانت أفضل منها أخلاقيًا، لا يوجد أحد بجدية سيسأل سؤال كهذا، ومن ثم إنه لخطأ فادح مناقشة مسألة تماشي الديكتاتورية مع الاستقرار. الديمقراطيات عادة ما تكون أكثر استقرارًا على المدى الطويل من الديكتاتورية، في الواقع الديكتاتورية تظهر الاستقرار فقط حينما تكون قمعية بشدة أو قادرة على توفير عيشة الرخاء لفئة كبيرة من مواطنيهم، لكن أساس الحكم الديكتاتوري غير مستقر ولهذا يتمسك بالقوة، وعادة هذا الحكم يصنع أسباب انهياره بنفسه ثم في نهاية المطاف يسقط لفقدانه الشرعية الاجتماعية، وهذا سبب آخر لتصديق أن القول بأن الديكتاتورية أكثر دمارًا من الفوضى هو ادعاء مُضلل! الدول التي عمت فيها الفوضى وانهارت فيها أجهزة الدولة لم تكن فيها "ديكتاتورية كفء" إذا كان لهذه الكلمة معنى! في المقام الأول الدكتاتورية تخلق لنفسها ظروف لتهيئة الفوضى لاحقًا، كم هو سخيف تمنّي عودة نظام كان مسئولاً عن عدم الاستقرار أصلاً!
الرد الوحيد الذي تستخدمه الديكتاتورية في مواجهة الاستياءات الشعبية والتوترات القمعية والصراعات العرقية هو القمع، قساوة هذه الأنظمة في الحكم سيجعلها غير قادرة على احتواء الصراعات الداخلية في المجتمع، مما يعني أنه على الرغم من بقاء هذه الصراعات الاجتماعية والسياسية مقموعة إلا أنها ستسبب خلخلة أساسات الحكم الديكتاتوري على المدى البعيد.
لا يوجد شيء اسمه دكتاتور محب للخير، في الأنظمة الاستبدادية النظام والجيش والاقتصاد يتحدون سويًا لتكوين زمرة من السلطة تقوم بدورها في تعزيز المحسوبية والفساد، هذا النظام الأشبه بالمافيا بين القادة سيكون مثل إشعال الفتيل لثورة المواطنين عليهم، حتى الصين تعاني من هذه الآثار الجانبية التي تهدد داخل الحزب الشيوعي من قبل نظام الحكم.
تغيير النظام من الداخل مقابل التغيير من الخارج عندما يسقط أحد الأنظمة فمن الطبيعي أن تأتي خلفه الفوضى وهذا ليس له شأن بالديمقراطية، لكنه مجرد أمر منطقي الحدوث، من الواضح أن الاستقرار أفضل من عدم الاستقرار، لكن السؤال الوجيه هنا كيف نصنع الاستقرار؟ بالتأكيد ليس عن طريق تفجير الغرب للديكتاتوريات ومحوها من الوجود، فقد تعلمنا درسًا من مأساة حرب العراق 2003م، بأن الديمقراطية لا يمكن فرضها من الخارج ولا حتى عن طريق دعم استقرارية النظام الديكتاتوري الزائف كما أوضحت نتائج الربيع العربي، أيضًا الربيع العربي أظهر أن اتخاذ القرارات حول مصير بلد معين لا يقررها الغرب بل أهل البلد نفسه.
في هذه المسألة من المهم جدًا التمييز بين تغيير الأنظمة من الخارج، وتغييرها من الداخل، فلا جدال الآن أن الولايات المتحدة اقترفت خطأً عندما خلعت صدام حسين، لكن لا توجد مقارنة بين هذا الموضوع وبين الانتفاضات العربية التي جاءت من الداخل.
لم يكن الغرب مسئولًا عن خلع حسني مبارك أو بن علي، ولم يكن مسئولاً عن قيام الثورات في ليبيا وسوريا، في تونس ومصر حاولت الولايات المتحدة وفرنسا دعم الدكتاتوريين في بادئ الأمر لكنهم سرعان ما أذعنوا، الغرب لم يتدخل إلا في ليبيا حينما هدد معمر القذافي بارتكاب مجزرة في بنغازي، وفي نفس الأثناء حاولوا مطالبة بشار الأسد بالتنحي لكنه لم يفعل حتى الآن.
من المثير للاهتمام أن عدم الاستقرار في العالم ينبع من البلدان التي حكمتها الأنظمة الاستبدادية لعقود أو لازالت تحت حكمها إلى هذا اليوم.
تغير التدخلات الإرهاب الإسلامي أصبح مصدر القلق الأول للعالم، والذي ظهر أيضًا بسبب قمع الحكومات العربية المدعومة من قبل الغرب، فمعظم مرتكبي كارثة11 سبتمبر كانوا من السعودية، وحتى نظام الأسد القمعي ساهم في ظهور جهاديين مقاتلين في أوائل عام 2000م، والتبرعات التي ساهمت في بناء المليشيات الجهادية في سوريا وجعلها تتولى مناصبها الحالية جاءت من مواطني الدول ذات النظام القمعي مثل السعودية وقطر، ولم يكن محض مصادفة أن تكون الأزمة العالمية الثانية هي روسيا ذات النظام الاستبدادي بتصرفات عدوانية خلقت أزمة أوكرانيا، وعلى ما يبدو أن هذا العنف جاء من واقع عدم استقرار النظام داخليًا.
الأزمة الحالية في العالم العربي ليست التدخل الساذج للغرب، بل على العكس، إن آثار الغزو على أفغانستان والعراق أعطت الغرب درسًا، فقد أصبحت الولايات المتحدة بقيادة باراك أوباما تتجنب أي تدخلات عسكرية في السنوات الأخيرة، وإذا حصل ذلك فهو لأجل الامتثال للأمم المتحدة واتباعًا للقول المأثور "مسئولية الحماية"، في سوريا لم يقوموا بأي تدخل إلا مؤخرًا، وهذا يجعل الحكومات الغربية معرضة للاتهام بالتراخي في ردع تصرفات الأسد الوحشية، ومن السخف أيضًا اتهامهم بالعكس، إذن ما الهدف خلف إطلاق تحذيرات قبل إسقاط أي طاغية؟ إذا شملنا الناس أنفسهم الذين ثاروا ضد الطغاة، فإن التحذير أتى كنصيحة أبوية تقول: "فكر جيًدا قبل أن تضغط على زناد إطلاق الفوضى عن طريق الإطاحة بديكتاتورك".
دروس التاريخ أولئك الذين اقتحموا سجن الباستيل عام 1789م، والثوار الذين أعدموا الملك لويس السادس عشر، بالتأكيد لم يكونوا يكترثون لأي اعتبارات، الثورة الفرنسية تبعتها فوضى أيضًا جعلتها تقضي سنوات عجاف من الإرهاب، ومن ثم بعد 6 عقود ظهرت الديموقراطية الفرنسية! هل عندها كان من الأجدر نصح الفرنسيين بعدم القيام بالثورة؟!
من النادر أن يتم السيطرة على الثورات من الخارج لأن سببها أتى من الداخل، في القرن الثامن عشر انطلقت الثورة الفرنسية بسبب الأزمة الاقتصادية والتوتر الاجتماعي بين الأراضي، لو كان هناك محللون جيوسياسيون كانوا سيتشاءمون ناحية الثورة الفرنسية وإعدام الملك وسيحذرون من عواقب وخيمة تضر بالاستقرار الأوروبي، وأشك بأن الفرنسيين كانوا سيستمعون لهم.
أحيانًا يسقط ديكتاتور ويجر خلفه فوضى لأشهر ومن ثم ديكتاتور آخر مثل مصر، وبالنسبة لأولئك الذين يؤيدون الاستقرار سيكون هذا خيارًا مرغوبًا، لكن الحال في مصر يعتبر مجرد حالة استثنائية، وعلى الرغم من أن المصريين خابت آمالهم تجاه الانتخابات الديمقراطية إلا أنهم رحبوا بإعادة تأسيس نظام عسكري ديكتاتوري بقيادة عبد الفتاح السيسي، وهذه الخطوة على الأغلب ستوفر وقتًا للنظام.
جميع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي قادت لخلع حسني مبارك، ستستمر وقريبًا ستقود إلى تجدد الاحتجاجات والعنف، الفكرة التي عرضتها زميلتي في المقال، بأن الانقلاب العسكري على نظام الأسد سيمهد الطريق للاستقرار هي فكرة خاطئة فالصراعات التي نشبت بالفعل لا يمكن حلها عن طريق استبدال هيكل مستبد بآخر.
مثال مُقنع عندما اندلعت الحرب في يوغسلافيا السابقة أصبح البعض يشعر بالحنين للرئيس الديكتاتور السابق "تيتو" معتقدين أنه تمكن من الحفاظ على تماسك دولة متعددة الأعراق، ولكنهم خاطئون مثل أولئك الذين يعتقدون أن الصراع المذهبي بين العلويين والشيعة في جانب واحد وبين السنة في جانب آخر أشعل الفتيل في سوريا، الدكتاتورية بإمكانها تجميد هذا النوع من الصراعات لعقود حتى وإن تفاقمت قبل أن تخرج للسطح، الأزمة التي كانت في يوغسلافيا تعاني منها سوريا الآن، الأمر أشبه بطنجرة الضغط حالما يُكسر الختم المتحكم، سينفجر البخار.
ماذا نتعلم من هذا الأمر؟ أن فكرة تعزيز الديكتاتورية للاستقرار هي مجرد خرافة، والفوضى غالبًا هي تابعة للنظام الديكتاتوري، الناس بأنفسهم لهم أحقية القرار ما إذا كانوا يريدون الانتفاض ضد الديكتاتورية أم لا، والسؤال الجيد للغرب هو متى يجب أن يتدخلوا في الثورات؟ لا يمكن الإجابة عليه أن تكون عن طريق الاستجابة للاستجداءات لصالح أو ضد الديكتاتور، يمكن أن يتقرر عن طريق النظر إلى حالة تلو الأخرى، كل واحدة على حدة .
كل أمة يجب أن تعرف أن إنشاء الديمقراطية بشكل فعلي يتطلب وقتًا حتى تأخذ مجراها، حتى الشعوب التي لها تاريخ في الاستبداد بإمكانهم صنع ديمقراطية مستقرة لأنفسهم، مثل الألمان الذين لهم تاريخ طويل في الطغيان البشع، هم الآن مثال ممتاز على الديمقراطية، وهذا أفضل رد لمن يقول إن هناك ثقافات لا تلائمها الديمقراطية.
|