رؤية في تطوير الاداء الجامعي وتحقيق القيمة المضافة في التعليم |
ان الحديث عن اصلاح وتطوير التعليم العالي والبحث العلمي ، ينطوي على الرغبة في إرساء دعائم التطور والتحديث ، وتوفير مقومات الإبداع والإبتكار في عالم تتسارع فيه منتجات العقل البشري. إذ أن التغيرات العميقة التي لحقت بالنظام الدولي والإقليمي في المجالات المختلفة وضرورة ربط التعليم الجامعي بالاهتمامات والحاجات اليومية للمواطنين يتطلب إعادة النظر في وظائف الجامعات ، وكيفية توفير مخرجات ملائمة لسوق العمل ، والتأكيد على تطوير الاداء الجامعي ووضع مؤشرات للاداء تتفق مع تغير الادوار الاستراتيجية للتعليم الجامعي. فالمتتبع لأداء مؤسسات التعليم العالي في الآونة الأخيرة لابد وان يلحظ ذلك التدهور المضطرد في جودة الخدمات التي تقدمها ، ولعل ما يؤكد هذا التدهور التدني في درجات الاختبار والقصور في المهارات الأساسية للخريجين وتزايد معدلات التسرب وطول فترة المكوث (الرسوب لسنة او اكثر في اكثر من مرحلة دراسية واحياناً في المرحلة الدراسية الواحدة) واتساع الفجوة بين متطلبات سوق العمل وقدرات الخريجين. كل ذلك يؤكد ضرورة البحث عن حل أو معالجات جديدة وجدية يمكن ان تساعد مؤسسات التعليم العالي على النهوض وتخطي هذه الصعوبات ومعالجة حالة التدهور تلك. ولاشك ان الحاجة الى تطوير الاداء الجامعي تتطلب إدراك التغيير المطلوب في التعليم الجامعي في إطار المحاور الآتية: 1- سياسات التوسع في التعليم: إذ أن التعليم مفتاح الحراك الاجتماعي والفرصة الاقتصادية والرفاهية وتلبية حاجات الاقتصاد المتقدم وتوفير مقومات عملية تحديث المجتمع. 2- تحديث نظم واساليب الدراسة الجامعية: أثرت تكنولوجيا المعلومات بشكل جذري على نظم وأساليب التدريس الجامعي ، مما يحتم على الجامعات التحرك نحو مساعدة الطلاب على إكتساب مهارات التعلم وخاصة اساليب التعلم الذاتي ، والاهتمام بالتنمية المهنية لاعضاء الهيئة التدريسية لتحسين فاعلية وكفاية الطالب والجامعة. 3- توجيه البحث العلمي بالجامعات لخدمة المجتمع: في ضوء التغيرات والتحولات العالمية ، لابد وان تبذل الجامعات محاولات عديدة لربط البحث العلمي بقضايا المجتمع بأعتبارها مؤسسات تساعد في عملية صنع القرارات ، وتحليل السياسات وتكوين اتجاهات لدى الطلاب والباحثين نحو البحث والقدرة على حل المشكلات بأستخدام المعرفة المتاحة والقدرة على التعلم الذاتي. 4- الاتجاه الى جودة التعليم العالي: وهنا يقع على عاتق الجامعة اهمية تبني الاتجاه الذي يقضي بضرورة تقويم اداء الجامعات ووضع نظم للاعتماد وضمان الجودة والفاعلية في النظام الجامعي. لقد اصبح تطوير التعليم مسألة تحظى بأهتمام بالغ من جميع دول العالم وحتى الدول المتقدمة التي ترفع لواء الحضارة التقنية في عصرنا الحاضر ، إذ اصبح إصلاح التعليم العالي والإرتقاء بأداء مؤسساته الشغل الشاغل للولايات المتحدة الامريكية منذ صدور التقرير المشهور بعنوان "أمة في خطر" ، ولقد كان تطوير التعليم هو الشعار الذي تخوض تحته الاحزاب في بريطانيا الانتخابات ، وكذلك الحال في اليابان وفي المانيا ، ولاشك اننا أحوج منهم لإصلاح نظم تعليمنا وتطويرها. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكن أذ اصلاح نظم تعليمنا وتطويرها ؟ إن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب أولاً: أن تعي الجامعات العراقية طبيعة التحديات التي تواجهها وحجم خطورتها ، وثانياً: في ضوء ذلك يكون بالامكان صياغة آليات فاعلة لتطوير الاداء الجامعي تتفق مع طبيعة الادوار الاستراتيجية الجديدة لمؤسسات التعليم العالي. إذ تعد العولمة كظاهرة تجتاح العالم بمثابة المسار التاريخي الذي افرز مجموعة من التحولات المعرفية والاقتصادية والثقافية العملاقة ، والجامعة كمنظومة منفتحة على الآفاق الدولية الكبرى تأثرت بمجريات هذه الظاهرة. إذ تواجه الجامعات العراقية تحديات هائلة في عصر العولمة ومسؤوليات كبيرة تفوق طاقاتها المادية والاكاديمية بسبب اعداد الطلاب الهائلة ، بحيث انها تواجه انفجاراً بشرياً ضخماً ، فضلاً عن الانفجار المعرفي. وهذا يتطلب منها قدرة غير مسبوقة في التعامل معها ، وذلك من خلال زيادة عدد التدريسيين والبنى التحتية لسد الحاجة الماسة للنمو الكمي ( من دون الإخلال بالشروط والمعايير التي تضمن الجودة) ، وهي مسألة تتعلق بإمكانيات التمويل وتوفير الموارد البشرية كبديل افضل من انشاء جامعات جديدة التي يمكن ان تفتقر الى ادنى الاحتياجات المادية والبشرية ولا تتميز كثيراً عن المدارس الثانوية او المعاهد في افضل الاحوال. لذلك من الضروري إعادة النظر في سياسة انشاء جامعات جديدة والتريث في التوسع على حساب النوعية ، وهي طريقة اثبتت فشلها في بلدان مختلفة لعدم اهتمامها بالنوعية والتي لا تتحقق إلا بتوفير الكفاءات التدريسية والبنى التحتية المتطورة ، فضلاً عن ضرورة عصرنة النظام التعليمي في مختلف مستوياته من خلال العمل على تجديد مقرراته ومناهجه وإدخال التقنيات المعلوماتية الحديثة التي توجه الطالب نحو القراءة والاطلاع واستخدام المكتبة والانترنيت وتعليم الطالب كيف يفكر ، او بعبارة اخرى كيف يتقن الاسلوب العلمي في التفكير بدلاً من التلقين وإجترار المعلومات. لذا فأن المستقبل هو لاقتصاد المعرفة المدعوم بتكنولوجيا المعلومات والذي سيتطلب موارد بشرية مؤهلة تستمر في التعلم مدى الحياة لتطوير مهاراتها ، كي تواكب مستجدات سوق العمل المتجهة نحو المنافسة والعولمة. فقد اصبحت الميزة التنافسية لأي دولة هي المعرفة "التراكم المعرفي" ، وبذلك فأننا بحاجة الى معيار جديد الى جانب الناتج المحلي الاجمالي GDP والناتج القومي الاجمالي 1GNP ، وهو ما يمكن ان يطلق عليه بالرصيد المعرفي القومي National Knowledge Reserve مع ضرورة توافر اعداد متزايدة من المتميزين والعلماء. وعلى هذا الأساس نحتاج الى مقاييس ومعايير لرصد التطور النوعي ومدى ملائمة الخريجين لاحتياجات سوق العمل وجودة التدريب ، فعدد الخريجين ليس بالمؤشر الكافي لتأكيد فاعلية الجامعة في توفيرها لحاجات المجتمع من القوى العاملة ، والارقام بالتأكيد لا تدل على الرقي ، فعلى سبيل المثال في دراسة لليونسكو عام 2007 ظهر ان عدد الخريجين في (19) دولة نامية يفوق بكثير عدد الخريجين في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تم (30) دولة صناعية متطورة. ولما كانت الجامعات تمثل استثماراً يساعد على تحقيق اهداف المجتمع ، فهي ليست عبئاً على موارد الدولة ، وطالما كانت الجامعات تمثل آلية لتطوير المجتمع ليصبح مجتمعاً متقدماً حضارياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً ، فأن الامر يستحق أذن وقفة تقويمية من شأنها ان تعمل على الارتقاء بجودة الاداء الجامعي ، من خلال ايجاد آليات لتجويد وتجديد وتطوير الاداء الجامعي تشمل مفاصله كافة ، وعلى وفق الآتي: 1- تجديد الإطار الفلسفي لإدارة الجامعة: وذلك من خلال توافر مقومات الادارة الحديثة للجامعة وعلى وفق الآتي: * ادارة حازمة ومنفتحة على التغيير وملتزمة برؤية ورسالة الجامعة. * منظومة قيم مبنية على الاخلاص في العمل والشفافية والعدالة وتكافؤ الفرص. * السعي نحو الابداع والتميز. * قيام الادارة الجامعية بدور فعال في تطوير وظائف الجامعة. * العناية والاهتمام بزبائن الجامعة والعمل على تحقيق رغباتهم وتزويدهم بالمعارف والمهارات اللازمة. * تطبيق ادارة الجودة الشاملة في جميع الخدمات والنشاطات التي تقدمها الجامعة. * اعتماد سياسة الاعلان في الصحف عن الحاجة لموظفين جدد واجراء التعيينات على اساس الخبرة والكفاءة. * تشجيع وتحفيز العاملين في الجامعة بهدف اكتشاف قدراتهم وتطوير خبراتهم. 2- التجديد في اهداف التعليم العالي ونمط العملية التعليمية: ان انخفاض الكفاءة التعليمية والتدريبية وزيادة الفاقد التربوي ، المرتبطة بنشوء الجامعات الحديثة تتطلب نهجاً تعليمياً مغايراً لما هو قائم حالياً ، لذا فأن نجاح قيادات التعليم الجامعي مرهون بمدى سعيها نحو التفكير والتخطيط لنظام تعليمي جامعي يعتمد على: * المنافسة البناءة بين الاقسام داخل الجامعة الواحدة وبين الجامعات المختلفة. * الادارة اللامركزية للجامعات والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها. * ادخال انظمة ادارية واكاديمية جديدة ملائمة لقبول التغيير المستمر. * التعاون الاكاديمي والعلمي بين الجامعات العراقية من جهة ، وبين الجامعات العربية والاجنبية من جهة اخرى. * تنمية مستوى كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية. * تطوير المناهج وطرائق التدريس ، فضلاً عن تعزيز المقررات ذات المضامين المتعددة والمعارف التكميلية. * تحقيق المعايير العالمية للاعتماد العام والخاص. * الحد من التوسع في البرامج الدراسية (التخصصات) الاقل طلباً في سوق العمل. 3- التجديد في الأدوار المطلوبة من الاستاذ الجامعي: ان التعليم العالي لا يزال في معظم الاحيان يعتمد على الإملاء والتلقين والحشو والحفظ بدلاً عن التحليل والتفسير والفهم والاستنتاج والاستنباط. لذا فأن تركيز الاستاذ الجامعي على كيفية تنمية التعليم الذاتي والتقويم الذاتي لدى الطلبة وكيفية اكتسابهم القدرة الابتكارية والتحكم في التغيير ، والرغبة والقدرة على تنمية شخصيته وبالتالي المجتمع ككل ، يعد الأساس في تقدم المجتمعات وتطورها ، إذ أن التفوق في المواد الدراسية بحد ذاتها قد لا تكون كافية لتكوين قيادات ونخب المستقبل ، بل ان القدرة على العمل خارج اطار التخصص وامتلاك المهارات الشاملة ستكون هي العوامل الحاسمة. لذا فأن تغيير الأدوار المناطة بأعضاء الهيئة التدريسية من مجرد ملقن الى قائد ومناقش للطلبة يعمل على اطلاق طاقاتهم الابتكارية ، يعد من ضمن اساسيات الارتقاء بجودة أداء الجامعات. وبالتأكيد ان تغيير دور الاستاذ الجامعي في الجامعات الحديثة يتطلب من القيادات الجامعية ان تعي اهمية تدريب اعضاء الهيئة التدريسية لتزويدهم بالمعارف الجديدة وتنظيم برامج هادفة لربط التدريسي بقطاعات الانتاج والخدمات ومجالات العمل التطبيقي ، وتنمية فرص البحث المشترك بين الاقسام والكليات ، فضلاً عن اهمية تحسين البيئة التعليمية وايجاد انظمة فاعلة لتقييم اعضاء الهيئة التدريسية. -4 التوجهات نحو البحث العلمي: لا تزال الدول النامية مجتمعة مسؤولة عما نسبته 10% من الانفاق الكلي عالمياً على البحث والتطوير ، بينما ينسب الى الدول الاعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ما نسبته 85% ، وذلك على وفق ما جاء في تقرير العلوم العالمي الذي اعدته اليونسكو لسنة 2006. وفيما تنفق الدول الاوربية ما بين 2%-3% من الناتج المحلي الاجمالي على البحث العلمي والتطوير ، فأن دول الجنوب لا تنفق إلا كسراً صغيرا من هذا الرقم ، فعلى سبيل المثال في امريكا اللاتينية وافريقيا بلغت نسبة الاستثمار 0.4% ، وانفقت بلدان العالم العربي على البحث العلمي ما يقارب 0.8% من الدخل الاجمالي العربي ، في الوقت الذي تنفق فيه اليابان ما يعادل 4% من الناتج المحلي الاجمالي على البحث العلمي. وهنا تبرز اهمية التوجه نحو بناء القدرات العلمية وتقوية البنى التحتية وتطوير الموارد البشرية ، من خلال إيلاء البحث العلمي الأولوية القصوى إذا ما اريد الأرتقاء بجودة أداء الجامعات. -5 تجديد العلاقة مع الطالب الجامعي وتغيير أدواره: ان الطالب والاستاذ الجامعي واصحاب العمل هم زبائن الجامعة واللاعبين الأساسيين في مؤسسات التعليم العالي ، فهي تستقي منهم المواصفات التي تحولها الى مقاييس تنتج وفقها ، فكل منتج خالٍ من هذه المعايير محكوم عليه بالفشل لانه لا يحمل مواصفات الجودة في نظر مشتريه. ولهذا تتسابق الجامعات المتقدمة اليوم الى الظفر بأكبر عدد من الزبائن الحاليين والمرتقبين ، مع بذل الجهد في الحفاظ على الزبائن الحاليين. ويتحقق لها ذلك من خلال اقامة علاقات حوار تفاعلية معهم ، وتتوطد هذه العلاقة بالتأكيد من خلال الاهتمام بالطلبة المتفوقين والمبدعين ، وتسهيل التفاعل الاكاديمي للطلبة في الجامعات واكساب الطلبة مهارات فنية وتقنية تسهل انخراطهم في سوق العمل بعد التخرج. فضلاً عن اهمية اعتماد الجامعة للهياكل التعليمية المرنة التي تعمل على تحسين مستوى المعارف للطلبة. ومن خلال اكتساب الطالب الاستقلالية الابتكارية والقدرة على الابداع ، والرغبة في التعلم والقدرة على المشاركة في تنمية المجتمع ، فأن دور الطالب سوف يتغير بالتأكيد من مجرد متلقي ومشارك (مشاركة محدودة) يتلخص دوره في حفظ المعلومات ، الى مشارك فاعل وخلاق قادر على التفاعل مع تكنولوجيا العصر ويمتلك من المهارات ما يؤهله لان يكون قائداً للمستقبل. من هنا يتضح ان الحديث عن اصلاح التعليم العالي والبحث العلمي وجودة اداء مؤسسات التعليم العالي ينطوي على الكثير من القضايا الشائكة التي توجه مسيرتها ، فما زالت ادارة التعليم الجامعي على ما كانت عليه من بيروقراطية ولا زالت مركزية القرار تحد من تطوره ، فضلاً عن التحديات الكثيرة التي تعاني منها وهي العولمة وشحة الموارد وهجرة العقول. ولا نبالغ ان قلنا ان التعليم الجامعي-لأي بلد كان- يساهم في عملية التنمية المستدامة بجميع ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ويعد من اهم الاستثمارات المستدامة والذي لا يمكن ان يتحقق إلا بتظافر جهود جميع العاملين في الجامعة ومشاركة فاعلة من جانب الطلبة ومن جانب الخريجين وسوق العمل والمجتمع من اجل تحقيق معادلة فاعلية التعليم العالي. ويورد تقرير استراتيجية تطوير التعليم العالي ما نصه: " ان مستقبل اي مجتمع في المدى القريب والبعيد يتوقف على التعليم العالي بأعتباره السبيل الى اعداد القوى البشرية المتخصصة ومجال توليد الفكر واعداد الباحثين والقادة في مجالات العمل والانتاج واداة تجديد الثقافة". |