تلميذي الذي ضاع مني في كلية التربية

في مثل هذه الأيام، وقبل ربع قرن من الزمان، كنا نتحدث في الدرس حين رفع يده، وكنت أظنه سؤالاً بريئاً لا يحمل على غير الضحك. لم أكن أوقن بعدُ أن للحرية قلباً ولساناً. لقد اخترت يا عزيزي عدوك المخطوء. قلتُ في نفسي إنها حكاية تستحق الإعدام. متى ننال حريتنا، وكرامتنا؟ أليس هذا ما قلته؟ لم تكن تدري أنني أتركها تسقط كل صباح من جيب سروالي المثقوب، ولا أرى أختها إلاّ في آخر الليل قبل أن أنام، مرسومة بدقة على المخدة مع صورة سعاد حسني تلوح بمنديلها الأخضر من شباك القناطر. قلتُ تعال لكي أدفع عن نفسي نذر هذا الإعدام الشتوي القريب. من هي حبيبتك في القسم، ما أسمها؟ فتح الفم بابتسامة مرسومة تتبرأ من الاسم. في اليوم التالي جاءني يحمل رواية كانت قد صدرت في بغداد حديثاً عن الأفعى لنيكوس كازنتزاكي. قال إنها لي. ثم تفرق الطلاب على ضوء الغيوم السود. اختصرت أمنا الرحيمة أمريكا السنين في ثلاثة أشهر، وعاد التلاميذ مبتسمين هذه المرة، فالمغامرة تستحق العيش حقاً. حينما سألت عنك أخبرني عبد الرزاق كشيش إنك كنت أول الثائرين في الناصرية، وأول المقتولين. بقيت أفعى اليوناني معي كل هذه السنين، أنقلها كالحاوي معي، من جيب إلى جيب حتى دخلت اليوم في طعامي. حاولت كثيراً تأملك وأنت تجري، ولكني لم أعثر على البندقية في يدك. لم أر منك غير الفم المفتوح. ربما كنت تحدث الثائرين عن جرح الصبي الغائر في الخاصرة.

لماذا لم أحضنك؟ لماذا لم أقل لك بأني أحبك؟

أين تسكن الآن، وهل جارك قاتل عتيق جاء من أبو غريب؟ هل تؤلمك عظامك المكسورة؟ وهل أعادوا لك الجمجمة، أم مازالوا ينتظرون الحساب الأخير؟

أريد للريح العراقية القادمة من أور أن تزيل كل الرمال من على قبرك لكي نرى ما خُطّ على جبهتك في ذلك اليوم. وأريد من مياه الفرات الراعفة أن تحيي في يدك اليمنى برعم الحلم، وفي يدك اليسرى صفحة الكتاب الأولى، نقرأ فيها من جديد، نحن العراقيين، كلمة العرفان.

هل تحبني حقاً؟

أنا لا أعرفك. هل اشتقت لرؤيتي؟

أنا مشتاقٌ لك.

نم بعباءتك السوداء، فالعراق غير العراق الذي تعرفه.