العراق.. حرب أهلية أو تقسيم |
قبل عشرة أعوام، وتحديدا في 20 مارس 2003، أضاءت طائرات الشبح وصواريخ كروز سماء بغداد في ما يشبه الاستعراض غير العادي للألعاب النارية. وفي الوقت نفسه، كانت القوات الأميركية والبريطانية تستعد للزحف على جنوب العراق من الكويت ودول خليجية أخرى. وبعد ثلاثة أسابيع، وتحديدا في 9 ابريل 2003، وبمساعدة قوات المارينز الأميركية، تمكن حشد من العراقيين من إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، مما اعتبر وقتذاك إعلانا بسقوط النظام رسميا. وبعد أسابيع قليلة من ذاك الحدث المجلجل، ظهر الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش على متن حاملة الطائرات ابراهام لينكولن، وهو يرتدي زي قادة السلاح الجوي الأميركي، ليعلن: "انجاز المهمة". لكن هذا الإعلان الشهير (أو السيئ السمعة) لم يكن أكثر من مجرد غطرسة امبريالية. فبعد عامين ونصف العام على ما اصطلح على تسميته بـ"عملية تحرير العراق"، والتي استمرت ثماني سنوات ونصف السنة، حذر الجنرال الأميركي المتقاعد ريتشارد أودوم من أن هذه العملية ستكون "الكارثة الإستراتيجية الأكبر في التاريخ الأميركي". ويتفق كثيرون اليوم مع تقييم أودوم، لاسيما إذا ما قارنا بين ما تم إنجازه والأهداف الأصلية التي أعلنت لتبرير غزو العراق. فتلك الأهداف لم تكن فقط - كما قيل - من أجل تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، والتي تبين أنه لم يكن لها وجود أصلا. فهذا كان التبرير الرسمي في ذلك الوقت. صحيح أن النظام العراقي كان يمتلك في وقت ما أسلحة دمار شامل، وصحيح أنه سعى لتطوير برنامجه النووي، لكن الصحيح أيضا أن هناك تأكيدات على أن ذاك النظام تخلى عن تلك المشاريع وأنه لم يكن لديه أي منها عندما كان يتم التخطيط لغزو البلاد. واليوم هناك ثمة شكوك حول أن إدارة بوش كانت تعرف ذلك في واقع الأمر، أو أنها كانت لديها شكوك قوية في ذلك طوال الوقت. والأمر نفسه ينطبق على التبرير الرسمي الثاني لغزو العراق، ألا وهو "معاقبة صدام حسين على تعاونه مع تنظيم القاعدة في تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001"، وقد تبين أنه لم تكن للرجل أي صلة بهذه الهجمات ولا حتى بتنظيم القاعدة من أساسه. ومع ذلك، أصرت إدارة بوش في المضي كذبة أخرى على أن صدام كان متورطا مع "القاعدة". أهداف بعيدة المدى الهدف الأميركي لغزو العراق كان أبعد بكثير من أسلحة الدمار الشامل ومن الإرهاب. كانت العملية عبارة عن طموح جامح أساسه "جنون العظمة". وكانت العملية ايضا من "بنات أفكار" المحافظين الجدد الذين أحاط الرئيس بوش نفسه بهم. وهكذا كانت صلاتهم (المحافظين الجدد) الشخصية والمهنية والايديولوجية بإسرائيل من أهداف إسرائيل في العراق، أهدافاً أميركية. ما سعى إليه المحافظون الجدد لم يكن أقل من تغيير كامل لمنطقة الشرق الأوسط، استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً ودينياً وثقافياً، وزعموا أن الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون والتعددية ورأسمالية السوق ستحل محل الاستبداد والتطرف والظلم الاجتماعي والفساد والجمود الاقتصادي. وسعوا إلى ترويج مبررات من قبيل أنه بسبب هذه العلل أصبح الشرق الأوسط خطراً، ليس على دوله فحسب، بل على العالم أجمع بسبب إرهابهم وكراهيتهم لإسرائيل والولايات المتحدة. وذهبوا إلى أن الديموقراطيات الحقيقية حين تتبنى القيم الأساسية الغربية، سوف تصبح تلقائياً، أعضاء في المجتمع الدولي وتتمتع بالأهلية وتتخذ مواقف بناءة وترتبط بعلاقات صداقة مع الولايات المتحدة. ولعل من المهم في هذه النظرية تحديداً، فكرة أنه بما أن الديموقراطية تنحو، بالضرورة، نحو السلام وحسن الجوار أكثر مما هي الحال بالنسبة للأنظمة السلطوية، فإن الدول العربية المتحولة حديثاً إلى الديموقراطية سوف تسهم بشكل كبير، في تحقيق تسوية سلمية للصراع العربي - الإسرائيلي. نقطة ارتكاز وفي سياق هذا الترتيب الكبير للأمور، فإن العراق، على الرغم من أهميته، لم يشكل سوى الخطوة الأولى في الخطة الإسرائيلية - الأميركية الكبرى. فهذا البلد الكبير والغني بالنفط والموارد الطبيعية المتعددة، والذي يحتل موقعاً جغرافياً مهماً، سيكون نقطة الارتكاز "لإعادة رسم" المنطقة بأسرها، و"النموذج" لباقي الأنظمة العربية التي ستعمل واشنطن بعد العراق على "إصلاحها" من الداخل إذا كان ممكناً، أو إسقاطها إن لم يكن ذلك ممكناً. وهناك أهداف أخرى في تلك الخطة الأكبر مثل مواصلة الحرب العالمية التي أعلنها بوش في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الإرهاب، ومحاربة واستئصال الدولة الأخرى غير العربية العضو في "محور الشر"، أي إيران، العدو اللدود لإسرائيل والولايات المتحدة، في سياق السباق على الهيمنة الاستراتيجية في الشرق الأوسط. وما أن استكملت جيوش "التحرير" الغربية احتلال العراق، حتى بدأت الأمور تسير في اتجاه خاطئ. يقول الصحافي البريطاني جوناثان ستيل في كتابه بعنوان "الهزيمة"، إن "العملية بأكملها كانت، في الواقع، محكومة بالفشل حتى قبل أن تبدأ". وقد أكدت ذلك حقيقة غزو العراق. وربما يكون هناك شعور بالامتنان للولايات المتحدة والغرب لقيامها بإسقاط نظام صدام، إلا أن العراقيين، شأنهم شأن معظم العرب، ومن واقع تجارب التاريخ، يشعرون بكراهية عميقة لأي غزو أجنبي من أي نوع كان. وعلى أي حال، سرعان ما أوضح الأميركيون أن مصالحهم لم تكن "إصلاحية" و"خيرية"، بل إمبريالية كلاسيكية وتجارية، أيضاً، فقد أرادو - ضمن أمور أخرى - الاحتفاظ بقواعد عسكرية دائمة في العراق وعقود نفطية تعطي أفضلية عُليا للأميركيين. وحتى حركة المقاومة العراقية، التي كان بروزها أمراً حتمياً وحقاً بديهياً، تعاملت معها القوات الأميركية بوحشية لا متناهية، وقد استخدم الجنود الأميركيون لقمعها القوة النارية بكثافة ومن دون تمييز بين مدني ومسلح، وهذا ما فاقم من نقمة العراقيين على الغزو، وزاد في الوقت نفسه من فشل العملية برمتها. لقد خسر الأميركيون 4500 جندي مقابل أكثر من مائة ألف قتيل عراقي (ويقول البعض إن الرقم يتجاوز الـ 6000 ألف قتيل) معظمهم من المدنيين، وتشريد أكثر من مليوني عراقي داخل البلاد ومثلهم خارجها. وحتى لو نجح الأميركيون، في خضم هذه الحرب والاضطرابات، في بناء ديموقراطية ليبرالية على النمط الغربي وقابلة للحياة، فإن هذه الديموقراطية لم تكن لتكون يوما طيّعة وصديقة للولايات المتحدة كما توقعوا. وبالطبع هم فشلوا أيضا في ذلك. وفي الواقع، وبدلاً من أن يصبح العراق نموذجاً يحتذى من قبل الدول العربية الأخرى، فقد أصبح رمزاً لكل ما ثار العراقيون من أجل التخلص منه. فقد أجهض الأميركيون بأيديهم حملتهم لـ"دمقرطة" العراق، أولاً من خلال عجزهم والأخطاء التي ارتكبوها والغطرسة التي مارسوها في هذا البلد. وثانياً، بسبب تجاهلهم أو اخفاقهم في التعامل مع الأمراض المجتمعية التي نشأت عن ثلاثين عاماً من طغيان "البعث" وسوء حكمه للعراقيين. فالأميركيون لم يتداركوا أن صدام حسين بنى طغيانه على الطائفية، أخطر الأمراض التي فتكت بالمجتمع العراقي. فصدام الذي كان يدعي العلمانية اعتمد على التضامن القبلي وتواطؤ الأقلية السنية التي لا تتجاوز 10 - 15 في المائة من إجمالي السكان، في ممارسة قمعه واضطهاده ضد الأغلبية الشيعية والأكراد. وبعد تلك التجربة، فإن أي تجربة ديموقراطية جديدة في العراق لا بد أن تضمن لكل من مكونات الشعب العراقي ممثليه فيها. لكن نظام المحاصصة الطائفية والإثنية في اقتسام السلطة الذي فرضه الأميركيون لم يؤدِ إلا الى حرب أهلية سنية - شيعية مدمرة. مستنقع وقد كتب جوناثان ستيل في كتابه قول إن "ذلك شكل، انهياراً لمشروع المحافظين الجدد في صورة صارخة. فتطلعاتهم الامبريالية لخلق عراق ديموقراطي ومستقر ويحكمه سياسيون علمانيون يرتبطون بعلاقات صداقة مع واشنطن، كان مآلها الفشل". وهكذا، كانت أولوية الأولويات للرئيس بوش، هي إخراج أميركا من هذا المستنقع وبطريقة تخفي الهزيمة والفشل الذريع الذي مني به. لقد نجح الاميركيون من خلال زيادة عدد القوات في نهاية عهد بوش، في تخفيف حدة تلك الحرب الأهلية وإعطاء النظام السياسي في بغداد نجاحا ولو ظاهريا. انسحاب مهين ومع ذلك، كان النظام في بغداد تحت غطاء سطحي من الديموقراطية، يقترب شيئاً فشيئا مما كان يفعله صدام. فهو نظام طائفي شيعي الصبغة. وبالاضافة الى ذلك، فعلى العكس من نظام صدام حسين، فإن أركان هذا النظام من لم يسعوا لإخفاء هذه الصبغة ولسان حالهم يقول "لقد جاء الدور علينا كي نحكم" ويتباهون بذلك. ولم يكتف رئيس الوزراء نوري المالكي بالممارسات الطائفية الصارخة، بل أصبح كما كان صدام يركز السلطات الدكتاتورية في يده. ولم يتمكن الأميركيون من الانسحاب من العراق إلا في ديسمبر 2011 في ظل حكم الرئيس باراك أوباما، حين انتقل آخر 500 جندي الى الكويت تحت جنح الظلام بطريقة مهينة على العكس من الطريقة التي سلطت عليها الأضواء أثناء دخولهم الى العراق قبل 8 سنوات ونصف السنة. ومع ذلك، أعلن أوباما أن المهمة أخيراً قد انجزت، وأن الولايات المتحدة تترك خلفها "دولة مستقرة وذات سيادة ويمكنها الاعتماد على نفسها"! كذبة كبيرة وكانت تلك في نهاية عملية تحرير العراق "كذبة كبيرة، مثل بقية التحذيرات البعيدة عن المعقول التي أطلقتها إدارة بوش بشأن "الغيمة النووية" فوق سماء أميركا، لدى بدء الحملة العسكرية ضد العراق. وما حدث منذ ذلك الحين، أكد تلك الأكاذيب: فالانسحاب الأميركي من العراق حدث في أوج الربيع العربي، الذي شكل عملية تحول حقيقي في المنطقة على نطاق واسع، كما تخيل المحافظون الجدد، وصرخة من أجل "الحرية والديموقراطية"، وكانت أحداث الربيع العربي منسجمة مع ما زعم المحافطون الجدد أنهم يريدون تحقيقه في المنطقة العربية. ولكن لسوء الحظ، لم تفض الأحداث الى ذلك المصير، ولو في سوريا على الأقل، التي تشهد حربا أهلية طائفية تمزقها. وهكذا، فبدلا من العراق، التي أراده الأميركيون نموذجا يساعد سوريا والدول العربية الأخرى في التقدم على طريق الإصلاح والتنوير، فان سوريا، وقوى خارجية أخرى تدفع العراق اليوم الى الوراء، حيث العذابات والاضطرابات التي يحاول العراق التخلص منها، دون جدوى. هذه الصراعات، ولاسيما تلك الدائرة في سوريا، تهدد بقاء العراق كدولة. فالأغلبية السنية تحتل العمود الفقري للانتفاضة ضد نظام بشار الأسد، وكلما أحرزت هذه الانتفاضة تقدما، حصل سنة العراق على التشجيع والدعم للمضي قدما في انتفاضتهم ضد حكومة المالكي، والتي بدأت تكتسب زخما متزايدا في محافظة الأنبار والمناطق الأخرى ذات الغالبية السنية. فهم يحاولون أن ينتزعوا من نظام المالكي الشيعي الصبغة في أساسه، ما يعتقدون أنه نصيب مستحق للسنة في حكم البلاد. وإذا رفض المالكي منحهم هذا الحق - وهو الأمر المرجح - فإن الأمور ستسير في الغالب في أحد اتجاهين: الأول، عودة الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد خلال عامي 2006 و2007. والثاني تقسيم العراق، بحيث ينفصل الأكراد في كيان وحدهم، والسنة في كيان وحدهم، في حين يقيم الشيعة كيانا مرتبطا بايران بقوة. وكما كانت الحال بالنسبة إلى "الحرب العالمية على الإرهاب" التي قادت الأميركيين الى العراق، فانه في الواقع، لم يكن ثمة وجود لشيء اسمه "القاعدة" العراقي لدى وصولهم الى هذا البلد. ولكن، كما قال أحد المحللين في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية ذات يوم، إن مسؤولي إدارة بوش - بزعمهم أن العراق كانت له صلات مع تنظيم القاعدة، خلقوا مثل هذه الصلات بالفعل. والآن، يبدو أن هناك تحالفا سلفيا جهاديا عبر الحدود ينظر الى سوريا والعراق كمسرح واحد لعملياته. أرادوا الديموقراطية للعرب ليصالحوهم مع إسرائيل بالنسبة إلى الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، فان "دمقرطة" العالم العربي لا يمكن أن تقنع الفلسطيني بالتصالح مع إسرائيل، كما افترض المحافظون الجدد. فقد ظنوا أن القوة والخوف وحدهما يمكن أن يدفعا الفلسطيني للاستسلام مع الضربة القوية التي وجهتها الولايات المتحدة لبغداد، والتي أضعفت، أو قضت على أي دعم عربي لهم. هذا هو مفهوم "المحافظين الجدد" للسلام. ولكن الواقع، أنه حتى بعد تلك الضربة القوية، لم يخش العراقيون من أي عقوبات أميركية جراء مواقف يتخذونها تجاه فلسطين. حتى أن المالكي نفسه، وبعد أن نصّبه الأميركيون رئيسا للوزراء عام 2006، زار واشنطن وفاجأ أعضاء الكونغرس حين شرح لهم سبب دعم بلاده لحزب الله الذي يضعه الأميركيون في درجة سوء تنظيم القاعدة، وربما أسوأ، وهذا ما برز بوضوح أثناء "الحرب العدوانية" التي شنتها إسرائيل ضد لبنان في يوليو 2006 وبعدها وحتى اليوم.
|