التاريخ صنيعة الانسان وليس صانعه | اكذوبة ارض الميعاد

قبل بضع سنوات قرأت نص المحاضرة التي القاها (أرييه الياف)، وهو رجل سياسة اسرائيلي كان يوما الامين العام لحزب (الما باي) حول استراتيجية اسرائيل في الثمانينات. وكان يتحدث الى جمهور اميركي. واستهل محاضرته بالحديث عن مفهوم "ارض الميعاد" فقال ساخراً: الحقيقة ان ارض الميعاد في العالم الجديد وليست في فلسطين. لكن خطأ حدث عندما ذهب سيدنا موسى الى ربه ليطلب منه معروفاً. وسأله الله ماذا يريد؟ فقال موسى اريد وطنا لشعبي. فطلب الله منه ان يختار الوطن الذي يريده، فوقف موسى امام خريطة العالم وراح يدرسها. ثم رأى كندا فأعجبته كثيراً. وكان موسى يتعثر في الكلام عند الاثارة، فلما اثارت كندا اعجابه اندفع قائلا: اريد كنـ ... كنـ... كنـ... ولم يستطع اكمال الكلمة، فظن الله سبحانه وتعالى ان موسى اراد ارض كنعان وطناً لليهود فقال: ارض كنعان لكم. وهكذا اصبحت فلسطين ارض الميعاد خطأ"..!!

ويدل تاريخ الحركة الصهيونية. بالرغم عن كل ما يناقض ذلك من دلالات، ان اليهود لا يعتبرون فلسطين ارض ميعادهم. فمثلاً، عندما سمح لليهود بالعودة الى فلسطين بعد انتهاء سبي بابل، اختار معظمهم البقاء في بلاد ما بين النهرين او الرحيل الى بلاد اخرى غير فلسطين التي اختار الذهاب اليها قليلون منهم. وفي فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، جذبت فلسطين نسبة صغيرة من مجموع اليهود الذين كانوا في تلك الفترة يتنقلون بين بلدان العالم، وحتى هؤلاء كانوا يذهبون اليها هرباً من اوروبا اكثر منهم رغبة بفلسطين... ويعرف الكل اليوم ان اكثر اليهود الذين يغادرون بلدان الشتات يفضلون الاستقرار خارج اسرائيل، بالاضافة الى ذلك، تجدر الاشارة الى ان الهجرة اليهودية من فلسطين المحتلة مستمرة ومتزايدة، والاحصائيات الاسرائيلية تعترف بنزوح اكثر من ثمانين الف يهودي عن فلسطين خلال السنوات العشر الماضية.

وهناك مسألة اخرى مهمة وهي ان نسبة كبيرة من اليهود النازحين عن اسرائيل. هم من مواليدها. وهذه ظاهرة حديثة نسبياً حيث ان النازحين كانوا في الماضي من المهاجرين المستوطنين الجدد الذين خاب ظنهم (بأرض الميعاد) فعادوا الى بلدانهم بعد مدة قصيرة.

ان هذه الحقائق كلها تفضح امرا عملت الصهيونية كل ما في وسعها لاخفائه مدة طويلة. وتعرّي اسطورة بذلت الصهيونية جهدها لترسيخها كحقيقة هامة في مجال الصراع العربي- الاسرائيلي ،

وهي ــ انه ليس لليهود وطن سوى اسرائيل وان ذلك يميز الاستيطان اليهودي في فلسطين عن غيره من الاستيطان الاوروبي في آسيا وافريقيا. واستعملت الصهيونية هذه الاسطورة لتبرير اغتصابها لفلسطين وانكارها حق الفلسطينيين في العودة. فقالت ان اليهود يختلفون اختلافاً جذرياً عن المستوطنين الفرنسيين في الجزائر، مثلا، او البريطانيين في كينيا او المستوطنين البرتغاليين في انغولا او اي مستوطنين آخرين في اي بلد في العالم. فهؤلاء لهم (وطن ام) يستطيعون العودة اليه اذا ارادوا او اذا فرضت ذلك عليهم ظروفهم بينما "اليهود" شعب يتيم ليس لهم (وطن ام) يأويهم.

وقد راجت هذه الفكرة وانتشرت في العالم الغربي لدرجة انه حتى المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني كثيرا ما يحجمون عن تأييد حقه في التحرير او العودة بحجة ان اليهود ليس لهم (وطن ام) يعودون اليه. وهذا هو سبب رئيسي من اسباب اقتصار تأييد حتى المتعاطفين مع الفلسطينيين على تأييدهم لاقامة دولة فلسطينية، وحتى انهم يترددون في تأييد حق اللاجئين في العودة الى فلسطين المحتلة سنة 1948 ولو كمواطنين "اسرائيليين".

والحقيقة هي ان "لليهود (وطن ام) او بالاصح عدد من تلك الاوطان، وهي البلدان التي اتوا منها فاكثرهم يستمرون في التمتع بجنسياتهم المختلفة، ولهم جميعا عائلات واقارب في بلد او اكثر من بلدان العالم ومن السهل جداً عليهم العودة لاوطانهم الاصلية واستئناف حياتهم فيها، وهو امر تثبته الهجرة المعاكسة كل يوم. فهي هجرة متواصلة، ولم تظهر اي عقبات في طريقها. فقد نزح الى امريكا اكثر من نصف مليون يهودي دون ان تعترض سبيل اي منهم عائقة. ويمكن القول ان هجرة اليهود من فلسطين المحتلة الى اوروبا وامريكا تتم بسهولة اكثر من عودة المستوطنين الاوروبيين الى اوطانهم الاصلية من البلدان الافريقية التي مرت بتجربة الاستعمار الاستيطاني، الامر الذي يفضح الاكذوبة الصهيونية القائلة بأن اليهود بلا اسرائيل طريد وشريد بلا وطن.

والمستوطنون اليهود في فلسطين المحتلة هم ادرى الناس بهذه الحقيقة. فمنذ اللحظات الاولى للاستيطان اليهودي في فلسطين حرصوا على الابقاء على صلاتهم بأوطانهم الاصلية. فاثناء الانتداب البريطاني على فلسطين، احجم معظم المستوطنين عن الحصول على الجنسية الفلسطينية بالرغم من التسهيلات التي كانت تمنحهم اياها حكومة الانتداب. وظلوا يحملون جنسيات بلادهم. حتى ان حاييم وايزمن، الذي اصبح اول رئيس لدولة اسرائيل، ظل يحمل جنسيته البريطانية. واستمر المستوطنون اليهود في المحافظة على جسورهم مع اوطانهم بعد قيام الدولة اليهودية.

والقلق الشديد الذي تبديه حكومة تل ابيب بسبب الهجرة المعاكسة لا ينبع فقط عن تخوفها من خسارتها للطاقات البشرية التي تفقدها. لكنها ايضاً تخشى انكشاف الاسطورة الصهيونية القائلة بان الاستيطان اليهودي في فلسطين فريد من نوعه ويختلف عن غيره من حالات الاستعمار الاستيطاني في العالم. لان انكشاف هذه الاسطورة يهدد بقاءها بازالة اضخم اكذوبة تستغل ضد حق الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة.

بقي القول ان العرب بمقدورهم تشجيع الهجرة المعاكسة وتصعيدها. فهي في الاساس ناجمة عن صعوبة الحياة في فلسطين المحتلة نتيجة للعزلة الاقليمية التي يعيشها الكيان الاسرائيلي الدخيل والمجابهة العربية له حتى ضمن محدوديتها المعروفة.

فمما لا شك فيه ان اسرائيل تفتقر الى الامكانيات المادية والبشرية اللازمة لضمان بقائها. واذا اقتنع المستوطنون بان الرفض العربي لاغتصاب فلسطين ليس نزوة عابرة بل وقفة تاريخية، لا بد وان يزداد الازدحام على الجسور التي تربطهم بأوطانهم الحقيقية، ولا بد لهم في النهاية من مواجهة حقيقية حاولوا تجاهلها وعملوا

على طمسها، وهي ان فلسطين قد ترضى بهم لاجئين وضيوفا ولكنها لا تقبلهم غزاة وسادة. وربما كان هذا الهدف هو اكثر الاهداف جدوى لأي جهد عربي في هذه المرحلة للتصدي للذين يحلمون بديمومة القرن التاسع عشر في الشرق الاوسط.

والمطلوب عربيا لخدمة هذا الهدف عدم التهاون سياسيا بالحق الوطني للشعب العربي الفلسطيني، وعدم التهاون في تنمية امكانيات الردع العربي للعدوانات الاسرائيلية والاخلاص في مساندة كل من يتعرض له وينهمك في مقاومته. فالتاريخ صنيعة الانسان وليس صانعه.