الدولة العصرية وقمع الديمقراطية

 

في الوقت الذي بدأ الوعي الوطني يتبلور تدريجياً وببطء بالمفهوم الاقتصادي الاجتماعي لتاريخية المرحلة وتعقيداتها، وبدأت تتشكل طلائع قوى سياسية وفكرية تحاول أستيعاب (التخلف) سرعان ما رافقت ذلك في العديد من البلدان العربية، بشكل ملفت للنظر، سلسلة من العلميات والأحداث، شكلت عودة إلى الوراء وخطوات إلى الخلف، وهذه الخطوات (التراجعية) ساعدت على تفاقم أزمة التخلف من خلال (شبكة) من التشوهات الداخلية أحدثت صدوعاً هائلة في مسيرة التقدم. وقد تمثل جل ذلك في ظواهر سلبية متعددة، من أهمها:

أولاً: تتابع (الخلخلة) في الأنظمة السياسية وفي النمط السياسي، تمخض عنها كثير من الحالات، انقلابات عسكرية أو إدارية، بعض تلك الخلخلات كانت حركات وطنية ليست (مبرمجة) من الخارج ولكنها مندفعة بدوافع ذاتية أو مثالية دون أن تكون لديها رؤية واضحة، أو علمية لإدارة الدول الحديثة، أو لمجابهة القضايا التاريخية المعقدة كقضية التخلف والتقدم. ومن جهة أخرى فقد كانت الكثير من التغيرات والحركات مبرمجة ومدفوعة بقوى (خارجية) تحاول إعادة السيطرة الاستعمارية بأدوات وبوجوه جديدة. وبحكم تكوين العقليات والإدارات المنبثقة عن الانقلابات العسكرية أو العقليات المخططة لها – فإنها لم تكن على أستعداد لقبول مبدأ التعددية والاعتراف بالقوى السياسية الأخرى، واستطاعت (الأنظمة) الفردية الهيمنية، بقوة البطش وإغراء المال والسلطة، أن تشوه المفاهيم والقيم الاجتماعية وقواعد إدارة الدولة الحديثة، بل واستطاعت، أن ترسخ مفاهيم وممارسات سقيمة- وغير بنّاءة في علاقة (المواطن بالدولة). ربما كان أبرز ما فيها:

أ-تشويه منظومة القيم الوطنية النبيلة العالية وتحويلها إلى تطلعات فردية أو فئوية بالمنفعة الشخصية أو العائلية أو الجهوية المباشرة.

ب-زعزعة مفاهيم الولاء والإخلاص والمصداقية للتحول من الولاء للوطن والشعب والأمة لتصبح ولاء (للحكومة) ثم ولاء (للحاكم)، وأخيراً ولاءً لصاحب النفوذ المباشر سواء كان داخل الوطن أو خارجه.

ثانياً: تعميق الإنزلاق التدريجي المضطر ونحو الاعتماد على (الخارج)، وأصبحت هذه الاعتمادات والمساعدات والمساندات والأنضواءات الخارجية مهارة وثقافة سياسية قائمة بذاتها بل وتحولت إلى وسيلة لتغطية الإخفاقات الإدارية والسياسية والاقتصادية الناشئة عن سوء الحاكمية والانفراد بالسلطة. لقد ترتب على الاعتماد على الخارج، تكريس التوهم بإمكانية (القفز) نحو التنمية والتقدم من دون دعائم وطنية مستقرة تقوم على أساس المشاركة الوطنية الكاملة في إطار من الفهم العلمي لطبيعة المشكلة، وترتكز إلى (التعددية) وتداول السلطة وحسن الحاكمية.

ثالثاً: عدم الأعتراف بمبدأ تداول السلطة وبشكل ملفت للنظر في (المنطقة العربية) مما حرم الشعوب من الفرصة التاريخية للمشاركة والتغيير الإداري والإبداع والتمييز من خلال العملية الديمقراطية (الأفقية والعمودية). وهذا بدوره أدى إلى تضخم دور أجهزة الدولة وخاصة (الأمنية) منها وضغطها على المواطن وتهديده بحياته ومعاشه، وتخفيض سقوف الحريات السياسية والفكرية والإدارية والاقتصادية، بل والعلمية للمحافظة على السلطة، وهذا بدوره أوجد نوعاً من (العقم) أو الجذب والجمود في السياسة والاقتصاد والفكر والإدارة والأساليب، وأدى بالضرورة إلى تهميش العلم في صنع القرار.في هذا السياق المتشابك، المعقد، من نشاط قوى سياسية واجتماعية متضاربة المصالح والرؤى والأهداف، ممثلة بدول وأنظمة وأحزاب… وتشارك فيه جماهير بتكوينات فكرية وسياسية وانتماءات قومية وأثنية مختلفة. لا يمكن إلاّ أن يؤدي إلى اتساع واحترام (الصراع) على الجبهة (الأيديولوجية).. وأن يفرز ذلك تشوشاً والتباسات على صعيد الوعي الاجتماعي..

فالرأسمال (المعولم) يحاول أن يخفي أهدافه الحقيقية التي يسعى الوصول إليها عبر إستراتيجيته (الهجومية) لإعادة هيكلية النظم والمجتمعات والعلاقات الدولية وفق مصالحه، برفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. محاولاً عن هذا السبيل، أستغلال طموح وتطلعات الجماهير المشروعة التي عاشت طويلاً من مرارة واستبداد أنظمتها، ومن التخلف الذي فرض على مجتمعاتها على الصعد السياسية والتنموية جميعاً، من هنا ضرورة التمييز، وعدم الخلط بين الليبرالية عن طموحات ومواقف الجماهير الناتجة من دوافع وطنية أو قومية أو سياسية –اجتماعية، وحتى دينية وبين (ليبرالية العولمة) التي تستخدم غطاء تمويهياً لمشاريع الولايات المتحدة وغير من الدول الرأسمالية الكبرى، وتساهم الأنظمة العربية، من جهة ثانية، بدورها في محاولة خلق التشويش والألتباسات في الوعي الاجتماعي بطروحات تستهدف، بالدرجة الأولى، تطويق النهوض الجماهيري، وبصورة خاصة بعد (تفجير الربيع العربي)، وهي تركز بقوة خاصة، على أفتعال (تناقض مصطنع) بين المعتقدات الإيمانية للناس وبين الطروحات العلمية لمعالجة مشاكل المجتمع والدولة في البلدان العربية، لهذا هي شديدة التأكيد على ما تسميه الحفاظ على (خصوصية) مجتمعاتنا..! وهي بذلك تريد في الحقيقة، أبقاء التركيبة السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي تؤمن لها (التحكم) والأمتيازات بمنأى عن أي (تغيير أو إصلاح)، وهي قد تفسح في المجال (لبعض) التقدم التكنولوجي وبعض الإصلاحات الإدارية تحت (ضغط) مصالحه الخاصة أو ضغط العولمة ومتطلباتها..! لكنها تقف، من حيث المبدأ، ضد الحداثة، وتعارض بشراسة أي (تحديث في نظم الحكم): في الدستور وبناء الدولة العصرية، تقمع الديمقراطية أو تشوه ممارستها عن طريق (التزوير) والضغط المادي والمعنوي..! تستند في ذلك إلى المال وإلى الأطر والتكتلات الاجتماعية التقليدية (القبلية-العائلية-الطائفية-المذهبية).. مع السعي إلى تقييد أو محاربة الحياة الحزبية العصرية بمختلف الطرق والوسائل لمنع انتظام الجماهير في أطر نضالية تعبر عن إرادتها ومصالحها