اطلعتُ بالمصادفة ،هذا اليوم، على مقالةٍ كتبها عبد الخالق كَيطان ، معاتباً فيها زميله الشاعر هاشم شفيق ،الذي كان قد نشر مقالة فيها كلمات مضمرة بمعنى معين حول جائزة عبد الوهاب البياتي، التي اسسها عام 1997 وخصصها لتشجيع وتمجيد الفعل الشعري للشعراء الشباب.
جاء في المقالة المذكورة : ((الشاعرالعراقي هاشم شفيق نشر في جريدة الحياة اللندنية مقالاً في ذكرى رحيل الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي.. وفي المقال ينسب شفيق سمعة البياتي لما أسماه: «جهاز إعلام تقوم دعائمه على وسائل ذاتية تتوافر فيه هو من دون غيره».. وبقدر ما أعتقد أن مثل هذا الرأي، وكنت سمعته وقرأته من غير شفيق أيضاً بعد رحيل البياتي، هو ملك لصاحبه، ولا أحبذ الخوض فيه، إلا أن ما يستفز حقاً هو جملة أخرى تمسني شخصياً.))
اكتفيت بقراءة مقالة السيد عبد الخالق كَيطان ولم أقرأ مقالة شفيق، لكني عرفت من سطور مقالة الأول أن محتوى مقالة الأخير ليست قويمة ، ربما تدنو من الاحتجاج أو الاستهانة بأهداف هذه الجائزة ، إذ كان فيها التقاط من نوع ما قابل لعدد من التفسيرات الخاطئة ، منها أن عبد الوهاب البياتي خصص هذه الجائزة كضربٍ من ضروبِ الدعاية لنفسهِ ولاستثارة بعض الأدباء والشعراء الشباب، الذين كانوا يجالسونه بمقهى (الفينيق) بعمان عاصمة الاردن، لنفس الغرض الدعائي، استناداً لما جاء نقلا عن مقالة عبد الخالق:(( يقول هاشم شفيق: وقد أسس البياتي جائزة باسمه أطلقها أثناء حياته، ونالها بضعة من الشعراء الشبان الذين كانوا يتحلقون حول مائدته في عمان ودمشق وبغداد، وطبع للفائزين مجموعات شعرية.. وأقول استفزتني هذه الجملة لأنني مشمول بها.. وبصوت عالٍ أقول: لي الشرف بأني حزت جائزة البياتي الشعرية عام 1998.. ولم أكن حينها من الشبان الذين كانوا يتحلقون حول مائدته في عمان ودمشق وبغداد)) ..
وجدتُ بعد هذه القراءة أن أدنو من هذه الجائزة دنواً كبيراً ، بالكتابة عمّا علق بذاكرتي عن معدن الجائزة والكيفية التي تألقت بها ، كنجمة لامعة في قلب الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، وكقضية هامة استأثرت بوجدانه.
كنتُ بالفعل واحداً ممن يجالس عبد الوهاب البياتي كثيراً بمقهى الفينيق أو غيره من الأماكن الاخرى بعمان ، وهي مقهى أثيرة لدى الشاعر العراقي، فقد كنا نلتقي يومياً تقريبا في مقهى (الفينيق) أو في مطعم (الياسمين) أو في بيتي بالشميساني.
ذات يوم من أيام ذلك الزمان قدمتُ له التهنئة الحارة بمناسبة فوزه بجائزة سلطان العويس كجزء من تقييم شعره وتثمينا لقيمته في الادب العربي الحديث. لكنه كعادته أبدى عدم مبالاته لمثل هذه التهنئة، مؤكدا عدم اكتراثه بالجوائز المالية، بالرغم من انني كنت اشعر في اعماقي ان سعادته بالجائزة كانت كبيرة لا استطيع وصفها في عينيه. وجدته في حالة ممتازة من السعادة إذ أنه استلم 50 الف دولار بيوم واحد وبصك واحد وهو مبلغ لم ينتقل ليديه من أية يد أو جهة اخرى من قبل.
الموقف الاخلاقي يفرض عليّ القول والتوضيح، لكي انزع عن عيون البعض حكايات (الدعاية البياتية..!) عمّا يتعلق بالجائزة المعلنة عام 1996 باسم (جائزة عبد الوهاب البياتي الشعرية) ، فقد قال لي: أن هذه الدولارات شيء جميل، لكنني لست محتاجاً لها ..لا ادري ماذا افعل بها . افكر منذ يومين بطريقة مفيدة للتصرف بها فهل لديك يا جاسم المطير أية فكرة عن أمكانية عملية للتصرف بها.
كان في تلك اللحظة يبالغ بأسلوبه الجميل الساخر من (الحياة بلا مال) ، أحياناً، أو بـ(مالٍ زائدٍ عن الحاجة ) في أحيان أخرى..!. ثم اخبرني أنه يفكّر في اقتراح حمودي الحارثي باستخدام المبلغ او جزء منه لشراء شقة في عمان لابنته.
كنا جالسين في بيتي بعمان . قدحتْ بذهني فكرة تخصيص جزء من المبلغ الحاصل عليه من جائزة سلطان العويس ، لمساعدة الشعراء الشباب على طبع ديوانهم الشعري من خلال جائزة شعرية سنوية . في الحال أبلغني أنه مقتنع بهذه الفكرة – الاقتراح ، طالبا مني كتابة تقديم الشرح الكفيل بكيفية تنفيذها. قدّمتُ له الشرح المفصل فوراً ،معلناً فوراً عن قبوله ، أيضاً.
بالمصادفة التقى باليوم التالي مع الصحفي ماجد صالح السامرائي القادم من بغداد إلى عمان وقد سأله عن رأيه في (فكرة الجائزة) فوجد تأييداً فورياً منه ،مثلما وجد تأييداً لها من اصدقائه الشعراء الشباب، هادي الحسيني، علي السوداني . كما حظيتْ الفكرة بتأييد تلفوني من الشاعر محمد مظلوم المقيم بدمشق، الذي كلفه لاحقا بدور في نشأة مستلزمات الجائزة والاعلان عنها وتكوينها وادارتها.
بعد عودته من احدى زياراته إلى بيروت أخبرني عن اتفاقه مع (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) لتكون هي الدار المسئولة عن طباعة ونشر الديوان الشعري الفائز بالجائزة. منها بالفعل تم إصدار ديوان الجائزة الفائز عام 1997 وقد أخبرني تلفونياً عن ذلك وأنا في هولندا.
صحيح جداً أن الشاعر عبد الوهاب البياتي يؤثر الركون إلى الدعاية لنفسه في كثير من مشاريعه وعلاقاته، كما قد يعتصم بوسائلها في بعض الحالات والاحيان ، لكنني اؤكد انني ما احسست بأي فعل أو نشاط من قبل عبد الوهاب البياتي في استغلال الجائزة المذكورة للدعاية لنفسه بالرغم من أن مثل هذه الدعاية مشروعة . فقد أعلن عن الجائزة في وقت لم يكن فيها بحاجة إلى أي شكل من اشكال الدعاية لنفسه أو لشعره، إذ كان قد بلغ يومها مركزاً عالياً في منصة الشعر العربي الحديث . لم تعد الدعاية همّاً من همومه ، فقد كان شعره مترجماً حتى ذلك الوقت إلى اللغات الانكليزية والفرنسية والتركية والاسبانية والروسية والدانماركية والجيكية والالمانية واليوغوسلافية والبولونية والصربية والكرواتية والهولندية والفارسية والالبانية .
كما كان عدنان حقي قد اصدر في بغداد عام 1974 كتاباً ضم شهادات ودراسات في شعر عبد الوهاب البياتي ضم أسماء 50 كاتباً عربياً واجنبياً. في عام 1975 نشرت صحيفة الكَارديان البريطانية مقالة لمحررها الأدبي في عددها 30 تموز 1975 اعتبر فيه البياتي افضل شاعر عربي بين الاحياء . كذلك فأن الكثير من الأدباء العراقيين والعرب أعدوا رسائل واطاريح لنيل شهادات الماجستير والدكتوراه في شعر البياتي. كل هذا يعني ، أولاً وقبل كل شيء، أن عبد الوهاب البياتي لم يكن بحاجة في عام 1997 إلى (دعاية) بواسطة خطوة بسيطة جداً بتأسيس جائزة البياتي.
أملي ان توفر هذه السطور مجالا مناسبا امام الشاعرين عبد الخالق كيطان وهاشم شفيق لمعرفة حقيقة جائزة عبد الوهاب البياتي للشعراء الشباب التي كنت قد نشرت مقالة عنها عام 1997 في جريدة الرأي الأردنية حال انشائها. ربما كنت الوحيد الذي كتب عن الجائزة في تلك الفترة. نشرت المقالة في كتابٍ أصدره عن البياتي الشاعر هادي الحسيني عام 1999 ضم أراءً مختلفة عن شعر البياتي . كان لهذا الكتاب أثر هام وكبير في التعبير عن حقيقة شخصية عبد الوهاب البياتي كشاعرٍ وإنسان، بأقلام 70 كاتب، من الشعراء والنقاد والصحفيين ، العرب والأجانب. .
ختاماً أقول أن شخصية الشاعر البياتي صاغها بنفسه ،منذ أيام شبابه، بكل حيوية وطموح، ليضع نفسه والشعر العراقي ،معاً، بمنزلة متقدمة في الساحة الشعرية، العربية والعالمية.
|