ظاهرة النفط الديّني

 

   لقد وظف النفط؛ _ بما هو ثروة عربية هائلة _ كسلاح للحرب، كشعار للنهضة والتنمية، كسلاح للمعركة، كوسيلة للتقدم، وهو ما تناولته الأنظمة العربية (الجملكية) المتعاقبة على سدة الحكم على فترات التاريخ العربي المعاصر، وهذا بالمرة هو توظيف جميل يضفي بداهة سليمة للتفكير العربي العِقلاني وقتئذ، ويحسب في سجل النضال العربي هذا من جانب؛ أو يدخل ضمن مسلمات “العصف الذهني” القابل لتوليد “الغدد الذهنية” لإفراز مزيد من المخيلات، والطروحات، والتصورات إزاء قضية (النفط) أو البترول كمفهوم متداول في دول “الوفرة النفطية”.

   وجمالية هذا التوظيف تكمن في قوة التلاعب في اللغة وديناميكية توظيف تلك المفاهيم والمصطلحات تساوقا مع الظواهر ومعطيات الأمر الواقع، لا في التعامل مع العدو العربي بشكل رسمي، إذ رفع شعار النفط سلاح المعركة مع الكيان الصهيوني لكن سرعان ما أصبح هذا السلاح بيد الكيان الصهيوني نفسه أستحوذ عليه، فصار بندقية محشوةٍ ببارود “أشكنازي” مصوب إلى فروات رؤوس العرب (بقدرة قادر), وليس هذا شأننا بالمرة؛ فنحن نتحدث عن سلاح أفتك وأخطر من السلاح الصهيوني المصوب (فرضٍ وشعيرة) إلى فروات رؤوسنا؛ والعاهة إننا نحن من يصوبه، ونحن من يقبض على زناد البندقية؛ ألا وهي “ظاهرة النفط الديني” أي إننا نتحدث عن ظاهرة إسلامية _ نفطية أو ما أسميناها ظاهرة (النفط الديني) أو (البترول الديني) _ كما يحلو للبعض لفظه ككلمة انكليزية ديكورية _? كفرضية لجدلية علاقة الانبعاث السياسي للإسلام المعاصر تحت طائلة الأموال العربية الهائلة والمتمثلة بالدرجة الأساس بمصطلح (النفط) الذي أصبح المغذي رقم واحد للجماعات الدينية الراديكالية والتي بدت تقضي على “ضدها النوعي” من أجل الوصول إلى أبار النفط العربي إن تطلب ذلك وهذا ما يبرر الصراع الذي تخوضه (داعش) الإجرامية في حربها في العراق وسوريا واليمن وليبيا وكل دول الوفرة النفطية التي ربما قد يطال هذا التمدد دول مجلس التعاون الخليجي العربي إن تحتوي تلك الدول هذا الخطر وتجفف منابعة بالقوة الناعمة والخشنة على حدٍ سواء.

   بمعنى أخر كيف ـصبح النفط سلاحاً دينياً يضعنا في علامة “الزائد” وهو يلف يدور ولا يجد ضحية أو صيداً جاهزاً غير الإنسان العربي في ظل تنامي الفكر الأصولي والحضور المميز للطائفية واخواتها وفكرها الأسود في الحقل العربي ؟؟

  أن أخطر الظواهر التاريخية والاجتماعية في تاريخ العرب هي ليست قضية الخمر، أو تفشي الفاحشة، أو تنامي ظاهرة الرذيلة، أو العري، أو نزع الحجاب أو لبس الجينز أو قصات الشعر الحديثة لدى الشباب، كل هذه _ برأينا _ ليست بمشكلة مستعصية، إذ يمكن معالجة تلك الظواهر الاجتماعية بقرار أو قانون معدل من الدولة أو ربما بخطبة جمعة في منبر لم تنتم لقائمة “مساجد ضِرار”؛ وفرض غرامات أو ضوابط وفق قانون ينظم ذلك.

 أما الخطر الفادح والمفجع هو الممازجة الفجة بين الدين والنفط وإيجاد علاقة فصيحة بلغة عربية طليقة بين الدين والنفط (المقدس والمال)؛ أو (المقدس والمدنس)، إذ لم يكن بحساباتنا _ وقتئذ _ بأن النفط ممكن أن يتحول إلى عقيدة أيديولوجية بنكهة “الغاز السام” أو بنكهة “الهيدروجين”، أو “باليورانيوم المنضب”، فاليوم يعيش العرب عصر وفرة “النفط الديني” بعد إن كان في مرحلة ما “النفط السياسي” عاملا وشغالا في المخيال السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ من خلال البروز السياسي والانبعاث الاجتماعي للظاهرة الإسلامية ودورها الفاعل في إعادة ترتيب سلم الهويات الداخلية، و”أشكلة” قضايا الأمة وزادت من حدة الخلافات دون أن تحل المشكلة التي جاءت من أجلها، لأنها بالحقيقة المثلى هي ليست أكثر من مشكلة لحل (!!)، وليس العكس صحيح بالمحضة؛ وهذه الأشكلة للظاهرة نابعة من ذاتها ومن أسلوبها وطبيعتها؛ خصوصا بعد التغذية الناجحة لها بأثداء البترول التي يغذيها بعض مالكي رؤوس الأموال وأصحاب المشاريع النفطية الهائلة.

   حيث أن الظاهرة الإسلامية ما كان لها أن تتدفق بهذه القوة المفرطة؛ وهذا الحجم الهائل والصعود السياسي والوصول إلى “سدات الحكم” واعتلاء منابر وعروش وقادة وجيوش، لو لم يوظف لها رأسمال خاص وثروة ومشاريع استثمارية وبنوك ومصارف (إسلامية) تحرم الربا وتحلل السرقات (!!) .. لعملية سير تلك الظاهرة بغية تحقيق مشروعها الخاص المتمثل بقيام “دولة دينية نفطية” على النمط الافغاني (الطالباني) أو العثماني (الرجل المريض) أو الإيراني (الفقيه)، بمعنى إن الظاهرة الإسلامية ما كان لها أن تنتشر بهذا الحجم وهذه القوة لو ظهرت في غير بيئة الخليج العربي، أو المنطقة الإقليمية بشكل عام؛ لو لم تكن تلك الدول تمتلك وفرة وثروة وأموال طائلة، فإنها لن تعني شيئا لو إنها قد ظهرت في الصومال أو أرتيريا أو جزر القمر، لكنها تدفقت؛ بقوة كالسيل؛ على شكل موجات تراتبيه مسترسلة بدءا من قيام الثروة الدينية في أيران، إلى انتصار طالبان، إلى احتلال العراق؛ إلى قيام ما يسمى “ثروات الخريف العربي” ذلك لأنها ظاهرة ولدت كأبنة شرعية لأم عربية رضعت النفط من أثداء الجزيرة حليبا طازجا كامل الدسم؛ وأكثر لأنها ولدت فوق منجم الآبار النفطية والمنابع الغنية بالذهب والفضة والمعادن، وفي رحم مناجم الوقود الباهظة الثمن،  فولدت الظاهرة الإسلامية معافاة وقوية البنية وسميكة الجسد ربيبة الأكتاف ترضع حليب أمومتها؛ ودليل ذلك هو نجاح الثورة الدينية في ايران أحد أبرز دول الأوبك؛ والتشدد الديني في السعودية ذات التدفق النفطي الهائل، ومن ثم الصحوة الدينية والصعود السياسي للحركات الإسلامية في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، أضف إلى ذلك الميليشيات الفاعلة في ليبيا بعد حكم القذافي أمثال (انصار الشريعة) وغيرها من الجماعات _ وليبيا دولة ذات حضور نفطي قوي _ والحال لا يختلف عليه في اليمن بحكم موقعها الجغرافي والاستراتيجي وقربه من منابع الثروة والشواطئ النفطية؛ كان صعود الظاهرة الإسلامية ومسمياتها وعناوينها قائم بسبب الضخ النفطي والإمكانيات المادية الهائلة للإسلاميين في دول النفط العربي؛ ودول النفط الإسلامي حتى.  أي إن الظاهرة الإسلامية هي أشبه بالطفل الوليد مستقبله مرتبط بأمه؛ فإذا كانت الأم متعافية وتمتاز بحليب كافٍ فسيكون الطفل معافى ومدلل ومتربي على النعيم والبركة، والعكس صحيح وسليم تماما؛ أي إذا كانت أمه ذو نهدان ضامران فاقدان للحليب فإنها ستعتمد على الحليب الاصطناعي فسيتربى تربية عليلة ويبقى جسده ضعيفا ونحيلا غير ذي مناعة معرض لأي خطرٍ طارئ أو مرضٍ مستعرض، والحال ينطبق على الظاهرة الإسلامية بالتمام والكمال؛ وبالوصف الأكيد والدقيق.

   إذ يقول روجية غاردوي إن منذ كذا سنة أصبح نفوذ العربية السعودية هو المصدر الهام والرئيس للأصولية الدينية في العالم العربي والإسلامي وذلك بفضل “قوتها النفطية”؛ إذ يلعب العامل الاقتصادي (الثرووي) دورا هاما في توجيه السياسات وليس في توجيه الديانات (!!)، على اعتبار إن الأصولية اليوم هي أصولية سياسية وليس دينية في أغلب جوانبها رغم (أسلمة عناوينها)؛ إلا إنها تبقى قضية أقرب للسياسة من الدين.

  أذن فالنفط لم يعد اقتصاديا فحسب، فهو انتقل على أكثر من موجة على مر التاريخ، “نفط عسكري”، “نفط سياسي”، و”نفط ديني” والأخير هو أخطر أنواع النفط في العالم، إذ كيف يجتمع النفط الحارق سريع الاشتعال بأيدٍ مراهقين ما زالت عقولهم طائشة ومخدره بأفيون (الدين) وفق الرؤية الماركسية؛ وبذأ فإن إن المشهد صعب تصوره أو الإحاطة به دون انفجار كارثة أو تحقيق أزمة فجة، وبالتالي فالظاهرة الإسلامية تعافت وتنامت في البلدان التي تشهد وفرة نفطية عالية ودخل فردي قوي، لكن هذه ليست نظرية ثابتة؛ فالتطرف والظاهرة الإسلامية _ أيضا _ نشأ في بيئة فقيرة كمصر أم الأصولية الدينية، وأم الجماعات الإسلامية المسلحة، وقد ينشأ في بيئات مختلفة تماما عما سبق ذكره أو الحديث عنه؛ لكن تبقى فرضيتنا “صائبة في بعض جوانبها” بأن “النفط الديني” اليوم هو سلاح رجال الدين و”شيوخ المودرن”، والقوة القاهرة بيد الجماعات المهزومة سياسيا، من أجل وصولها إلى السلطة والحكم باسم الدين؛ ولا أدري هل سيتحول النفط في عالمنا العربي إلى مقدس ومعصوم لا يجوز نقده أو رده أو إعادة تفسيره بعيون العصر وتطلعاته!!