مواقف سياسية

 

دائما تكافح الشعوب والبلدان وتستنفر كل مالديها من امكانات وقوى من أجل أن يحيا أبنائها حياة الاستقرار والرفاه، ومن أجل أن ينعم مواطنيها بالامن والامان، ومن أجل أن ينجح نظامها الاجتماعي القادر على خدمة الناس، أغلب شعوب العالم المتطورة، لم تستطيع الوصول الى مراتب المدنية المتقدمة، الا بعد أن دفعت فاتورة وضريبة التغيير والاصلاح، دفعتها من دماء أبنائها ومن قوت مواطنيها وسهر وتعب الذين جدّوا وضحّوا واستبسلوا دفاعا عن أرضهم وعرضهم ودينهم ووحدة بلدهم، وعرفوا كيف يستخدموا مكتسبات اللحظة التأريخية الحاسمة وتوظيفها لاقامة دعائم وأركان نظام مدني متطور وغير قابل للانهيار. انّ مقومات الاصلاح والتغيير عديدة، ولكنّ أبرزها وأكثرها أهمية، هي وجود القيادة المناسبة التي تتناسب وأهمية المرحلة من حيث الوعي والادراك والقدرة على القيادة والمواصلة، وأن تحظى تلك القيادة بالتفاف جماهيري وشعبي ومن جميع أطياف المجتمع، لابد أن تكون قيادة جماهيرية حتى تستطيع أن تؤثر في العمل الاصلاحي والتغيري وتترك بصمات واضحة في جميع أطوار وفصول عملية الانتقال، أما ثاني مقوم من مقومات وأركان الاصلاح هو وجود منهج ثقافي قادر على رفع المستوى الثقافي للمجتمع أثناء وخلال عملية الاصلاح بالشكل الذي يتناسب وخطورة المرحلة، الثقافة لا تأتي فقط بالمطالعة وانما عن طريق التجربة والممارسة والاحتكاك، كسياقة السيارة، لايمكن تعلمها فقط عن طريق القراءة، وانما لابد للمتعلم من ركوب الطرقات لمعرفة كيف يسوق، أما ثالث ركن من أركان الاصلاح والتغيير هو، ينبغي التخلص وبشكل تام من جميع مظاهر العهد القديم، المظاهر المادية والمعنوية، لانّه لا يمكن انشاء أو تأسيس بناء جديد على أسس خاوية متهرئة قابلة للعطب، لابد من تنظيف الاساس قبل البناء، والا سيقع السقف على الجميع، ولعل تجارب التأريخ القديم والحديث هي خير دليل على ذلك، فمثلا لنأخذ النازية، كانت النازية من أكثر أنظمة العالم الحديث فتكا ودمار وعدوانية، ولكن عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، باشرت الدول المنتصرة الى محاسبة جميع المسؤولين عن الحرب والابادة والقتل، وذلك عن طريق انشاء محكمة نورنبيرغ التي تعتبر أشهر محكمة في التأريخ المعاصر، تناولت محاكماتها في الفترة الأولى جميع مجرمي حرب القيادات النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، أما الفترة الثانية تناولت محاكمة جميع الاطباء الذين أجروا التجارب الطبية على البشر بصورة غير شرعية بالاضافة الى جميع العسكريين والاعلاميين والداعمين والمروجين للفكر النازي، كان مجرد أن ينطق المتهم بإسمه الكامل ويقول أنا نازي، كان يكفي هذا وحده أن يوضع رأس المتهم في المقصلة وعلى وجه السرعة، ولحد هذه اللحظة يعتقل الاشخاص لمجرد الاشتباه بعلاقتهم بالنازية رغم عدم وجود دليل جرمي على ذلك، حيث لم يشفع لهم لا كبر سنهم ولا النياشين والعلامات والشهادات التي يحملون، ومن هنا استطاعت ألمانيا أن تأسس لفكر جديد، واستطاعت أن تبني بلدا يعد من أكثر بلدان العالم تطورا وبناءا اليوم، حيث تعاملت بحزم وقوة مع القتلة والمجرمين وأصحاب السوابق، لم تستطع أن تنهض المانيا الا بعد أن طهرّت جميع مؤسسات الدولة والمجتمع من براثن الدكتاتورية النازية الفاشية، ومن جميع مخلفات العهد المباد وشفطت وطهّرت جميع المواطن البكتيرية، والا لما كان لها أن تنهض وتمارس عملها كدولة قوية ومتطورة، وهكذا هي بقية ثورات التحرير والتغيير والاصلاح في العالم.
كان حزب البعث المنحل والذي حكم العراق لفترة خمسة وثلاثيين سنة، كان مسؤولا عن ثلاثة حروب خارجية، ومدان بعمليات هلكوست شعبانية ضد أبناء شعبه واعدامات واغتيالات وتصفيات على الانتماء الفكري والعقائدي تقدّر بثلاث ملايين ضحية، ولكن لم يحاكم من قيادة النظام والمسؤولين عن الجرائم سوى عشرات، ولم ينفّذ حكم الاعدام الا بقلة قليلة منهم، أين ذهب بقية المجرمين؟ أين الذين كانوا ينفذون الاعدامات والاعتقالات من منتسبي جهاز الامن والمخابرات والاستخبارات ؟ أين كتّاب التقارير المميتة من منتسبي الفرق الحزبية ومن تعاون معهم؟ أين القادة العسكريين والضباط المسؤولين عن اقتحام وتدمير مدن العراق الجنوبية والشمالية في حرب الانتفاضة الشعبانية؟ أين كوادر الامن الخاص والحمايات الرئاسية؟ أين فدائيوا صدام المسؤولين عن أبشع جرائم التأريخ؟ هل يعقل أن الجميع تبّخر ولم يبقى منهم سوى عدد قليل، منهم من أعدم ومنهم ينتظر، أنا أتكلم عن المسؤولين عن دماء العراقيين الذين أغلوا في الجريمة وأدينوا بالدليل الواضح، يقول سيد البلغاء علي بن أبي طالب (ع)، فوالله لو يصيبوا من الناس الا رجلا واحدا متعمدين لقتله بلا جرم جرّه، لحلّ لى قتل ذلك الجيش".
انّ حكومتنا الرشيدة لم تكتفي فقط بغض النظر عن المجرمين وعدم محاسبتهم، بل سارعت الى تكريمهم عن طريق اعطائهم الرواتب والوظائف المميّزة والسكن وحقوق التقاعد، حكومتنا الرشيدة تركت المناضلين والشرفاء والسالمين والمبعدين عن ديارهم بالقوة والغير قادرين على الرجوع الى بلدانهم بسبب العوز والفاقة، تركت الذين عملوا وجاهدوا وساعدوا على التأسيس لاسقاط الدكتاتورية الفاشية في العراق. ومن موقع الوطنية والخوف على العراق، نقول انّ النهج الحالي سيعّرض الدولة العراقية الفتية للانهيار لا سامح الله، على أصحاب القرار أن يعملوا على تنظيف أجهزة الدولة من جميع المجرمين والفاسدين والقتلة وأصحاب الفكر الصدامي الشرير، وابعاد أصحاب الولاءات الخارجية، هل نسينا ان صدام كان يبعد من الوظيفة والمنفعة كل شخص له قرابة من الدرجة الثالثة أو الرابعة بأي متهم ينتسب الى أي تنظيم حزبي محظور بالمفهوم الصدامي. ولكي تستمر الاغلبية في الحكم ولكي يستمر النظام الديمقراطي الجديد في العراق ، على الساسة العراقيين، أن يعيدوا النظر في حساباتهم قبل فوات الاوان ويسارعوا الى عملية اصلاح كبرى، مادتها الاساسية هم أبناء العراق البررة من المظلومين والمضطهدين والمبعدين، والا لا يمكن للدولة أن تستمر مع هذا النزيف الامني وا لمؤسساتي الداخلي، ينبغي عليهم التعّلم من تجارب البلدان الاخرى ومن عبر ودروس التأريخ حتى تكون قراراتهم صائبة ونافعة للعراق وللعملية الديمقراطية الجديدة، ومميتة للخونة والمتربصين والحاقدين على العراق وشعبه.