تغييب الأنسنة في الإعلام العراقي |
تبدأ نشرات الأخبار في الفضائيات المحلية العراقية، بخبر عن رئيس الحزب الذي يمول القناة، بينما قناة الدولة الرسمية تبدأها بخبر عن زيارة أو إستقبال لرئيس من الرئاسات الثلاث، وإذا أرادت ان تدخل عالم التشويق فأنها ستبث تقريراً عن قيام بلدية ما بصبغ أرصفة الشارع. الصحفي الذي يعمل منذ الصباح الباكر وكأنه موظف حكومي، يستقتل من أجل إرضاء رئيس التحرير بالحصول على خمس تصريحات من شخصيات سياسية، وتقرير عن جدول أعمال البرلمان، ثم يعود في اليوم التالي وهو يقرأ الصحيفة ويحاول الإحتفاظ بنسخ لأؤلئك الذين ساعدوه بتصريحاتهم وأنهى يومه السابق مثلما أراد مسؤوله في الصحيفة. لا يأبه الصحفي المنشغل بالحصول على "السبق" الصحفي من القوى السياسية العراقية لقضية الإنسان، بإعتباره بطل القصة أو الجزء المستهدف من كتابتها، فحرصه مشابه لحرص رئيسي التحرير ومجلس الإدارة بإيصال نسخ من الجريدة إلى الرئاسات الثلاث والدوائر الحكومية المهمة، في كل صباح، فهؤلاء هم الفئة المستهدفة أو الذين يجب أن نكتب عنهم!. غرف الأخبار العراقية تتكون من ثلاثة أجزاء: 1- أخبار رئيس الحزب. 2- المؤتمرات والمهرجانات والنشاطات التي تقوم بها بعض مؤسسات الدولة والمؤسسات الأخرى. 3- أخبار دولية مأخوذة من وكالات أنباء عالمية، حتى القصة الإنسانية وأن تواجدت فيها، فأنها لن تكون حاضرة في النشرة. تشترط الوسيلة الإعلامية على الصحفي رقماً لا يقل عن مادة صحفية يومية، سياسية، وإذا ما جاء المراسل أو المحرر بقصة إنسانية تختلف عن المطلوب منه، فأنه سيتعرض للتوبيخ أو الإنذار، ببساطة يوبخ لأنه كتب قصة عن الإنسان. في الصحافة العالمية التي يُمكن أن نطلق عليها مصطلح "مستقلة"، إكتسبت القضايا الإنسانية مساحة كبيرة واساسية، وأصبحت النشرات الإخبارية في الإعلام المرئي والمكتوب، زاخرة بالقصص الإنسانية، فكلما كان الصحفي حريص على تعريف الناس بحقوقها، كلما أنتج قصصاً صحفية أكثر جمالية وفائدة وتشويق ايضاً. يُمكن لأي صحفي في العراق أن يكتب يومياً عشرات القصص الإنسانية، فالإنتهاكات مستمرة لحقوق الانسان ومتراكمة وأدوات الصحفي موجودة، لكن هناك نسق حازم تسير عليه أغلب وسائل الإعلام وهي تعتقد أن دور الصحافة يكمن في لقاء السياسي وإجراء حوار معه، أو الحصول على تهديد من زعيم كتلة سياسية لكتلة أخرى، أو تصريح يتهم به نائب موتور وزير أو مسؤول آخر بالفساد من دون وجود أدلة. نستطيع القول، أن وسائل الإعلام العراقية أو بعضها، جزء من منظومة الترويج لخطاب الكراهية والتمييز، لكنها ترفض أن تكون جزء من إعلام ينشر ويعزز ثقافة حقوق الإنسان ويساعد المواطنين على فهم حقوقهم والكتابة عن ما يُمكنه أن يُساعدهم على تعزيز االإنتماء الإنساني، أكثر من أية إنتماءات أخرى، قد تخلق فجوة بين مجتمع وآخر. في بلد مثل العراق، لعبت وسائل الإعلام بكل تصنيفاتها دوراً اساسياً في اغفال "الأنسنة" في النشرات الإخبارية والبرامج التلفزيونية، وهي تنشغل ببث خطاب كراهية يلقيه سياسي يتسبب بأزمة سياسية تدفع طرف سياسي لزعزعة الأمن بسيارة مفخخة يذهب ضحيتها مدنيون عُزل، ثم نُعزز الإنتهاك بحق الضحايا ونحن نتجاهلهم، ونجعلهم رقم في خبر سريع يقرأه مذيع ملتهف للحديث مع ضيف سياسي سيبرز عضلاته أمام المشاهدين. أن تكتب تقريراً إنسانياً في الإسبوع، أهم من أن تكتب تقريراً سياسياً لا يعدو كونه ترويجاً من دون قصد لحزب أو شخصيات سياسية. نقل الحالة الإنسانية والكتابة عنها عملية ليست كافية، فبإمكان الصحفي الإستناد في قصته الصحفية إلى القوانين والاعتبارات الوطنية والمواثيق الدولية التي وقعت عليها دولته. مثال على ذلك، يُعتبر العراق من الدول الموقعة على إتفاقية حقوق الطفل في العشرين من تشرين الثاني / نوفمبر 1989، والتي تنص في المادة 16 - 2: "للطفل حق في أن يحميه القانون". لكن العراق لم يقر حتى الآن قانون حقوق الطفل الذي لا زال يتواجد على رفوف مجلسي شورى الدولة والنواب. هذا الأمر يُسهل على الصحفي معرفة أسباب إنتهاك حقوق الطفل، وأين الخلل في وجود مئات الأطفال في الشوارع، كما يُبين عدم إلتزام الدولة بالمواثيق والقوانين الدولية، التي وقعت عليها، بالإضافة إلى أنها وثيقة تسند القصة الصحفية. يُفترض بالصحفيين أن يكونوا مهتمين بحقوق الإنسان والتثقيف عليها، والإلتفات إلى القصص الإنسانية كإلتزام أخلاقي. على الأقل يُمكن لأي صحفي متابعة الأيام الدولية الخاصة بالأمم المتحدة، والتي يُمكنها أن تُساعده على أنتاج قصص صحفية مميزة تُنشر في أيامها العالمية. ما يؤسف في الإعلام العراقي أنه ما زال يحبو في مجال التخصص، ويعمل بطرق يصح القول عنها – فوضوية-، فما يشغل الغالبية العظمى صباح كل يوم قبل التوجه للعمل، متابعة الأخبار السياسية، كجزء من عملية المتابعة التي قد تخلق قصة يرضى عنها رئيس التحرير، بينما الإنسان، يبقى مُغيباً. |