السلام في لقطة

لو أنَّ رجلاً عادياً في هذه البلاد حمل سلاحه ووقف مسترخياً، كأنه يلقي تحيةً عابرة، ليُطلق رصاصة صغيرة في رأس رجل عادي آخر، فإن الرجلين، القاتل والضحية، كانا قبل ذلك مجرد فكرة في نشرة أخبار تلفزيونية، أو برنامج من رأس الساعة إلى رأسها.

لو أن عائلةً “عادية” لديها بيتٌ عادي، هاجمها مسلحون ينتمون إلى عائلة من ملة “عادية”، أو معادية بالفطرة، ولم يخرجوا قبل أن يقضوا على آخر الأنفاس، فإن مراسلين ومقدمي برامج ومصورين وضيوف، كانوا قبل ذلك بأيام، وربما ساعات، قد فتحوا فوهة عريضة تضخ الكلام فكرةً مبسطة تقول للناس، بشكل عادي، إن الكراهية، والقتل، خلاصة عصر ما بعد التلفزيون. 

أخيراً نعرف أن الرصاصة تمر، قبل حشو البنادق، بترددات الأقمار الصناعية.

الأمر غير العادي، أن يركض المصورون إلى موقع الحادث، يتلقطون ما يكفي لدقيقة ونصف الدقيقة تقريراً عن القاتل والقتيل، بلغة فخمة وقارئ يتلفز الحزن والغضب.. لا بأس بلقطة من ثانيتين للأسفلت المغسول بأثر الضحايا، مع لقطة خاطفة لأغلفة الرصاص وفي عمق الصورة أحذية رجال الشرطة تقفز فوق القصة، بينما على الشاشة خبير يبذل الجمل الشاحبة ذاتها متسائلاً، كيف تمكن القاتل من القتل؟ وكيف وصلت الضحية لهذا المستوى من نقص الحماية.

لقد خرج القاتل من شاشة “عادية”، وانتهى إليها. إن الأمر لا يكلف سوى جهاز إرسال.

في التلفزيون، عرفت أن نشرة الأخبار تتركب على وفق أولويات ومعايير محددة، لكن الهاجس الذي يسيطر على هذا التركيب هو استعداد المنتجي للحديث للجمهور عن الموت، دائما. 

كانت نشرة الأخبار تجهز تماماً، فيجدها المذيع كلمات تتحرك ببطء على شاشة القراءة الخاصة به، وبعد دقائق من البث المباشر تنفجر مفخخة في بغداد، فنتلاطم ما بين الطاولات والحواسيب لاستعجال “عاجل” الموت.

نحن، الصحفيون، اكتشفنا مع الوقت إن شهية الحديث عن الموت صارت “عادة”، ومن ثم أدخلناها في السياق الحقيقي لصناعة التلفزيون. كل شيء يأتي بعد الموت، حتى لو كان تقريراً تلفزيونياً عن إنشاء حديقة في بغداد.

الحق، إنني الآن لو فكرت ألف مرة قبل أن أُجهز نشرة أخبار لن أقتنع تماماً بوضع خبر مقتل العشرات من الناس في ختامها، ولن أدفع أدس بجملة قصيرة في الشاشة يقرأها الناس: “عاجل.. الوضع الأمني في العراق”.

نحن، الصحفيون، الأشخاص الذين جعلنا الحياة تبدو للناس حجيماً. فبينما نثرثر عن الموت بعد كل تفجير، كان الناس “العاديون” يغسلون الشوارع من الموت، وينثرون خطواتهم وبضاعتهم، وينتشرون سريعاً في المقاهي والمطاعم. 

نحن الصحفيون، المصدر الحقيقي الذي ألهم الناس بأفكار شاحبة عن الحياة.

لكن ما في اليد حيلة، فحقيقة تأثير التلفزيون في العراق تحمل الكثير من التناقضات. لقد تبجح العراقيون بالخيارات الوفيرة - وفيرة فوق العادة - للمشاهدة التلفزيونية. ووجد الجميع ضالته في صورة وصوت يمثلانه، ويقدمان لغة تحاكي الثقافة المكبوتة. إن التحول من قناة واحدة باسم “تلفزيون العراق العام”، إلى كل هذا التنوع كان علامةً صحية على حياة سياسية واجتماعية تسمح للجميع بالتعرف علي أدوات التعايش، أو في الأقل التعرف على ما لا نعرفه عن بعضنا. في الحقيقة إن وجود التلفزيون أمر حاسم من حياتنا المعاصرة.

هذا الافتراض “الديمقراطي” كان ينقصه الكثير من الفهم لتأثير التلفزيون، وكان من البداهة أن نخوض السنوات الأولى في التعلم، لكن التعلم من دون تأسيس سيصبح لاحقاً مثل السم في العسل.

ما الحاسم في علاقة العراقيين بالتلفزيون؟ فجأة تحولت الفرص التقليدية لتوظيف أفكار الناس وهوياتهم عبر صورة متحركة إلى بنادق شاركت في الحرب الأهلية في بغداد، وكان الناس يصمتون أمام التلفزيون، يحصلون على “تربية” قاتلة. 

إن العنف الذي رباه التلفزيون في عقول ملايين المشاهدين، كان لأن الأغلبية تحكمت بالبث الفضائي، وصارت الأقلية التي تشاهد عشرات المحطات تعيش بالضرورة حالة التلقي أيام تلفزيون “العراق العام”، وكان في متناولها خيارات ضئيلة: الصمت، أو الانصهار في صوت الأغلبية، وجعله منبراً بديلاً.

لقد تمددت الأغلبية التي تملك المال والشاشة والسلاح. ولا أحد، لا أحد على الإطلاق، يجاري تلك القوة.

إن نصاً تلفزيونياً عادياً، يبث في ساعة الذروة، يتلقاه مشاهدون عاديون، يتحدث عن طائفة ما، ليس بوصفها جماعة لها وجود في الرقعة الجغرافية، وأن لها خصائص ثقافية واجتماعية ما، بل يجري التعريف بها عبر مخاوفها من طائفة أخرى. يمكنك الآن تحويل القناة إلى نص تلفزيوني عادي آخر، يرد بالطريقة ذاتها. 

إن الجمهور الصامت، الخاضع لقوة التلفزيون، لا يمكنه الحوار بشكل حي إلا باستعارة طريقة التلفزيون: نحن نعيش مع الخوف من الآخر.

ليست المشكلة، أبداً، في ١٠٠٠ محطة فضائية تشغل الأثير العراقي، وتستقطب ملايين الناس، لكن مادة العنف والكراهية التي جهزها منتجو البث ومسيّروه لعقول الناس، لم تمر بشاشة محترفة، يقف عندها “حارس بوابة” يعرف كيف يضع السلام في لقطة.