ما بين علي و عيسى |
ان تشكل شخصية المرء لا علاقة له بالجهود المسرحية التي يبذلها البعض ليبدو مختلفاً عن سائر الناس، مع ذلك فهو يبرزه ويميزه عن غيره نظرا لأنه يهيء فرصة الظهور والنشاط لتلك الخصائص التي ينفرد بها دون سواه. الشخص، إذ يركز على مهمته تلك، يغلب ألا يكترث لأمور أخرى يهتم بها من حوله الناس. يبدو غيره بالقياس الى ما يحققه من فردية(عاديين) بالأرقام أو قد يبدو(شاذا) بينهم لأن التنظيم السائد للأمور لا يتفق معه بطريقة أو أخرى، في الوقت نفسه نجد كل اهتمامه ينصب على ما يحاول تحقيقه لا على محاولة(الاختلاف)على العرف المألوف.
هناك جوانب ينبغي ملاحظتها:
الأول: كل اهتمام حقيقي يسير بعادات الملاحظة يشكل اتجاهاً معيناً. لعل في حياة الإمام علي والسيد المسيح(عليهما السلام) مثالا على ذلك. فقد ألهبهما التحمس لأمور خالفا فيها المقاييس السائدة في عصريهما بدرجة جعلتهما يرون ما لا يراه الآخرون. لم ينظروا الى العالم بأعين القياصرة، القساوسة، الرياضيين، الفنانين.
رأى عيسى النبي ملكوت الله في حبة خردل، أسنان كلب ميت، بيمنا الإمام علي في نملة لا أسلبها جلب شعيرة، جمجمة متفسخة.
نظر السيد المسيح الى بعض الصيادين، المساكين، الجدع، العرج، العمى(بطرس/ يعقوب/ يوحنا)رأى فيهم أناسا حملة رسالة لا يقلون في أهميتهم وإنسانيتهم عن سائر الناس، بينما علي رأى(بلال/ سلمان/عمار/ أبي ذر/صهيب)اما أخ لك في الدين أو نضير لك في الخلق.
بعين ملؤها العطف والمحبة نظر المسيح الى شاب غني، لم يغبطه على غناه، إنما رثى لما سوف يلقاه من صعوبة في تقديم المهم على ما هو اقل منه أهمية وشأنا، بينما علي رأى في ملكية الشاب حلالها حساب وحرامها عقاب، استبشار الوارث أو الحادث.أكل عيسى ما خشن من العود البري، عاريا إلا من السترة، اما علي اكتفى من دنياه بطمرية ومن طعامه بقرصيه الأخشن، ملبسه سمل قطيفة. قال عيسى:(من ضربك على خدك الأيمن أعطيه الأيسر)، شعار علي(إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه).
ينظر عيسى الى وجه أحد من الناس لم يكن يركز انتباهه على الأضواء والظلال على نحو ما يفعل المصور الفوتوغرافي، كانت دائرة اهتمامه تتصل بأعمق جوانب الحياة كمعلم ومرب، يتأمله علي، مسكين ابن ادم(تؤلمه البقة، تقتله الشرقة، تنتنه العرقة).الثاني: أن في القدرة تكمن أوثق الدلائل على صدق فكرة المرء عن نفسه أو زيفها. الذي يحاول يوما بعد آخر أن يفتعل شخصية ليست له، لا بد أن يكون في غمرة القلق مدفوعا ومسوقا لا ملبيا ومقبلا، بينما الشخص الذي يقبل على عمله في حرية، حماسة كلما سنحت له فرصة العمل إنما يبرهن أنه صاحب العمل، صانعه، مصدره.الثالث: أن من جوانب عملية النمو السليم قدرة المرء على إحلال التنظيم الذاتي للنفس محل التنظيم المفروض عليها من الخارج. الذي لا يكترث لشيء خارج نفسه لا يشعر بدافع نحو التحرر من التواكل، الركود، او البذل. قال علي:(من كان همه ما يدخل بطنه كانت قيمته ما يخرج منها).
الرابع: أن دائرة اهتمام المرء ومدى إخلاصه لموضوعه يحددان المصادر التي يشتق منها أنسه، سعادته، قوته، يقول علي:(لا تزيدني كثرة الناس إلا وحشة)، الدنيا طريقها موحش طويل، (ليكن متاعك منها حسو الطائر). هؤلاء يبحثون بين الأحياء من يشاركونهم في طعامهم وسمرهم كذلك يبحثون عنهم بين من طواهم الموت يجدون فيهم الشهود اللذين لم يجردوا الحياة من زينتها بل ارتداء فكرة الحب. إنها(الرسالة)التي تطبع شخصية الفرد بسمة معينة قد تكون غاية في التواضع. فحيث تكون الأبوة مثلا(رسالة)لا يعمد الأب الى فرض مطامحه، معاييره، رجولته، قسوته، على طفله، قال علي:(لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم). كذلك رب العمل التشريعي، السياسي، الإداري، التربوي، حيث تصبح إدارة العمل(رسالة)فان ذلك يتجلى في الطريقة التي ينظر صاحب العمل الى عماله. قال عيسى وهو ينظر الى الناس الذين تجمعوا على بغي يريدون رجمها:(من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).
الخامس: قال عيسى: من أنصاري الى الله؟. قال(الحواريون) نحن، طبقوا أسلوبه في النظر الى الأشياء، بقدر ما فعلوا ذلك تمكنوا من تغيير العالم الذي يعيشون فيه الى الآن.
|