خيبات إسماعيل زاير |
مزج إسماعيل زاير التكرار والوصف ، واشتغل على نصه بوظيفة الرصد مزج إسماعيل زاير التكرار والوصف ، واشتغل على نصه بوظيفة الرصد التي تمثلها العيون المتعددة التي وزعها هنا وهناك، فاستحالت أبياته أو فقراته ( لاندري هل هي قصائد نثر، أم خواطر شعرية) ، استخدم الزمان والمكان والظرف والتأنيث للدلالة على مراقبة الأشياء والأحداث ، بل حتى الظواهر ليعكس من خلالها حبكة ما أراد لفقراته وتصوير مجريات الأحداث عبر أبياته ، ( إن افترضنا) قصائد ،(وهذه ليس انتقاصا بقدر ماهي للاستفسار). عيونه التي وزع وظائفها على فقراته الخمسة دارت عليها كل أركان السرد ، وأوقف عليها حبكته ليصور تقلبات الحياة وأحوالها، وما يختلج بنفسه من مشاعر ليكمل أبياته التي تناثرت كلماتها بين التوصيف والوصف ، والغائب والحاضر، والأشياء والأركان ، وكل شيء محسوس أو ملموس. داخل زاير في مطلع عينه الحائرة مابين التمني والوصف ، حتى استحال ما كتب من خاطرة الى شيء يشبه التغني بمباهج الحياة التي يصورها منظرا خلابا احتوته لوحة مرسومة علقت على جدران متحف ، فلا هي أعانتنا عن الوصف ، ولا أوصلت لنا الفكرة. أضاعنا زاير ببكائيته الوصفية على الراحلين بندم ما أبدى عليهم من الحزن ، حتى ضاع هو في موقفه ومكانه أهو (خلفهم، أو خلفنا، أم خلف الصورة التي رسمها) باعتبار (تاء التأنيث) في الكلمة الأولى التي استخدمها تدل على ما وصف ، لكن هل قصد بوصفه أنثى أم ما فسرناه نحن ( لوحة) .استخدم عناصر السرد بشكل مبعثر لا يوحي بأن الفكرة كانت مركزة عنده ، بل على العكس ينم عن عشوائية تفكيره عامة، لذلك جاءت أولى خواطره مبعثرة لا تتصف والمعنى الشعري الذي أراد لها، أو حتى الوصفي باعتبار ما كتب يدخل إن أردنا تصنيفه في باب الوصف. عين حائرة عين على الأفق البعيد .. إنما عين على الينابيع.. عين على المتع الهاربة . على الندامى الراحلون خلفها ، خلفنا ، خلفهم ، يبدو السحاب مؤجل .. والعشب الأصفر متأهب . ما من شمس على الطاولات المهيأة، ما من بلل على الأرض. كمن يقول : ما لها وامضة تلك السماء دون مطر برقها تنبؤ بأفاعيل ذئب متوحد عين على الحزن الذي ينام اليوم ويوقظني فجر غد ، وأخرى على النبتة إذ ينعشها البرد والمياه وصوت العنادل قبل أن تتلقفها يد الشمس. وفي الوقت الذي تناول في الثانية حزناً يرقبه بحواسه ، جاء على التكرار لتكريس صورة ما بدء في الأولى ( عين حائرة) لتأكيد مفهوم الوصف في بقايا ما كتب ، ليخرج من إطار الصورة التي رسمها بندم هناك ، ليأتي ويكرر (العنادل) كدالة على استمرارية الأفق الذي بنى عليه كلامه ( شعره) ، استخدم الظروف (الزمان والمكان) بكثرة مفرطة حتى ليظن القارىء بان زاير اعتمد على هذين الظرفين ليزيل الالتباس في متون نصوصه ، إلا إنها جاءت للدلالة وللضرورة ، دَاخل الماضي كثيرا باستذكار ات زجها في متون أبياته ليضفي عليها بريق هذا الماضي الذي يتغنى به ، وليقارن بينه وبين الحاضر المجهول بوصفه ( تضاريس) واستخدام المفردة يبين غموضها باعتبارها ( مجهول) ، دَاخل كل ذلك مع الأمنيات التي جاء بها عبر (الرغبة) برسم مستقبل مغاير لما هو واقع لكن لا مجال كما ذكر فالوقت (لا يعينها)، وهنا كرس زاير الانهزامية في نصه ، وهي صفة غير محببة يلجأ لها آي شاعر حين لا يجد بداً من توصيف المستقبل المجهول بدقة توصل الى هذه الصفة. الوقت على الحزن الذي ينام اليوم عين ، وأخرى على زهرة القلب ، ينعشها ، هي أيضا ، البرد والمياه وصوت العنادل .. ويجعلها قلق العابرين تنتفض هلعاً. عين على الماضي يقلب تضاريس القادم كالضباب وشرر الخيبات المخبأة . ترغب أن تخط عليها ما تريد من مسارات دون أن يتطفل عليها أشباح الذاكرة ولكن الوقت لا يعينها. عين على الوقت الذي يتسلل مثل ماء الينابيع من يد غافل يفحص احتمالات الظمأ. إلا أن زاير جسد وصفاً دقيقاً شفافاً جداً في ( عين الخسارات) أبدع فيه أيما إبداع حين ركز على الوصف دون سواه ليعبر عما يجول في خاطره لتجسيد الواقع ، ورغم استخدامه للماضي أيضا لرسم المتوقع ، إلا انه أجاد في تركيز اهتمام القارىء على شفافية الصورة التي رسمها عبر ( زنبقته) التي جاء بها ليبني محور خساراته على تقلبات تفتحها ، ومن ثم انتقاله مابين مراحل تطور نموها ، وهو يرمز لتقلبات الحياة ودوراتها ، وصولا الى ذبولها وتعثرها. وصف الخسارة وتناوله يفسر التشتت الذهني الذي أراد الإشارة إليه زاير بأبياته ، لينقل صورة مجتمع كامل يحمل سمة ذلك الوصف اليوم، ركز على الرمزية ليصل الى ما يريد عبر الوصف الذي اعتمده في ( خسارته ) والتي عبر عنها بتقلبات أطوار الزنبقة ، ولازمه (الوصف) ليخرج منه بحصيلة اكتمال الصورة مابين ماضيها والحاضر ، وتجسيد الأتي من الزمن عبر تلك التقلبات التي تمثل دورة الحياة . عين على الخسارات عين على الزنبقة إذ تتفتح ، تقف ثم ترتدي الربيع .. فتتلقى فجأةً نذير الهياج وتذبل قبل ان يسمع احد أنينها عين على زنبقتي التي تتلكأ عند الغدير الوسنان وتتعثر بالسفا سف ، تتلفت بخفة ولا تراني فتعود الى غياهب الأفق. عين ترى ما الذي تبدد أمس وضاع من بين يديها .. فتنغمس صامتةً في ظلام الأحزان. عين على الخسارات كلها تتكدس بمحاذاة القلب ، تجهض شهوات الحصى والمياه والمجرى. وفي استمرارية ما أسلفنا من تاطير فقرات زاير الشعرية بالوصف وتقلبات الزمن ، واستخدامه الماضي بتركيز يقفز لنا في فقرته الشعرية الرابعة ( النديم) ليجسد الضياع كصفة طاغية على أبياته بشكل عام ، فقد استخدم مفردات محددة دالة بعينها تؤكد بأن زاير أراد المعنى الضمني للضياع الحاصل مثل ( النسيان، يبغتنا، ألتائهن لأي عناوين، يسرقهم ، وحيدا، حائرين، يغادرني)، هذا الكم الدال على معنى محدد لا يحتمل التأويل أراد منه إسماعيل زاير تحديد معنى ما ذكرنا دون سواها، وناقض به ما سبق من تفتح للزنابق في فقرته التي سبقت ( والتفتح ) نقيض الضياع ، ما يعني أن زاير كان مشتت في استخدام المفردات ، كما أنه كان بعيداً عن وحدة الموضوع ، أو أنه أراد أن يوصل للقارئ فكرة عدم وحدة الهدف من النص قد تأتي أكلها في بعض الأحيان ، واراه قد اخفق في هذا ، لكن الحكم يبقى للقارئ أولاً وأخيراً . النديم عين على القادم قبل أن يبغتنا ، أنا ونديمي الصوت ، وعين على المركب التائه حاملاً رسائل النسيان .. لأي عناوين ترى سيبعثها ؟ عين على الساهرين يسرقهم النعاس من على منصة الحكمة، ويلقيهم في أسرة النعاس اللعين حيث يتركوني وحيداً. عين على السمار إذ وزعهم الضجر على مفازات نائية ، فانصرفوا الى الآفاق حائرين لمن وأين يلقون ما جمعوا من لعنات.. عين على جفلة القادم لحظة ميلاده ، محكوم بنا والبراءة بين يديه. عين على النديم إذ تتوقف مقدرة اشتهائه .. فيتركني أتلعثم بالكلام قبل أن يغادرنـي . في الأخيرة ( القراصنة) نقول أمتعنا زاير فيها ، لما جاء عليه من الوصف الذي ضمنه كل فقراته ، واعتمد عليه كركيزة لبناء أبياته ، فتوج خيباته بإبداع جميل أجاد فيه وصف الصورة التي رسمها بدلالة مكنوناتها، فعبرَ من الجمود لتأويل المعاني التي لم يبقي على شكلها كما هو، بل ذهب لبدائل ما يريد من حروف يبني بها جمله القصيرة التي جاءت معبرة عن حالة بذاتها، كرسها في فقرته أو قصيدته النثرية القصيرة. هو أبدع ترتيب ( العيون) التي تترقب صوره الشعرية ، وتقلب فيما بينها بسلاسة ممتعة ، لم نجدها في الأربعة اللواتي سبقن الأخيرة ، فختم وأجاد ، إلا أن أجمل ما في متن هذه الخسارة الأخيرة ما قال فيها:( عين على المدينة التي تقسو على حماماتها)، وهي صورة شعرية رائعة احتوت كل الرومانسية التي يتغنى بها الشعر والشعراء، ليرسم صورة الألم عبر تلك الحروف تجسيداً لما ضمنه من عنوان لنصوصه ( الخيبات) ، كل ما كتب زاير جميل ، كي لا تحسب علينا إننا نقلل من مجهود الشاعر ، إلا أن التحليل يخضع للتجريد والدراسة دون عاطفة ، رغم الإحساس الذي تتضمنه النصوص . القراصنة عين على الغبار البرتقالي يتسقط وضوحنا قبل أن يغمرنا بردائه الشاسع عند بوابات الخمول عين على المدينة التي تقسو على حماماتها فتحرمها متعة الهبوط على ظلال النخيل وتلهب قوائمها على إسفلت الشوارع. عيون تتكاثر فيما لم يعد ثمة شيء نفعله سوى أن نستكين وندلج الى بوابة النسيان المتأهبة. إسماعيل زاير قدم نصا طغىت عليه الظرفية المفرطة في الاستخدام ، ربما فرضتها لحظة ما كان يشعر به الكاتب حينها، وهذه إن صحت تؤخذ على إسماعيل ولا تحسب له ، ذلك أن الشاعر يجب أن يمتلك إحساس مرهف ، لكن لا يطغى على نصه أنه ضَمن أحاسيسه بإفراط بعيداً عن إحساس القارئ ، أجاد بالوصف وخرج منه بحصيلة ممتعة في بعض الفقرات ، لكنه كان جامداً في فقرات أخرى ، فليس كل الوصف ممتع على طول النص ، خرج عن عناصر السرد في أكثر من مكان ، وأجاد في استخدامها أخرى ، وكان موضوعيا جداً في اختيار العنوان الرئيسي فهو جاذب وصادم وقوي ، كما في العناوين الفرعية التي كانت في صيرورتها دالة واضحة على معنى ما أراد . بقي شيء نريد أن نعرفه عن زاير؟ هل هو ( إسماعيل زاير) رئيس تحرير (الصباح الجديد الغراء) ، أم زاير أخر طرق باب الشعر عبر خيباته ، فأبدع وأخفق ، وأصاب وأخطأ ، وأمتع وشتت . |