في خضم الحديث عن الازمة الاوكرانية او أي ازمة اخرى تهدد الامن في القارة الاوروبية يتردد كثيرا اسم “منظمة الامن والتعاون في اوروبا”، هناك من يطالب بإرسال مراقبين من قبل تلك المنظمة، وهناك من يدعو الى تفعيلها والالتزام ببنودها وهناك من يدعو الى موقف حازم من قبل اعضائها تجاه ما يحصل هنا او هناك... فما هي هذه المنظمة ؟ كيف ومتى تأسست؟ للإجابة عن ذلك السؤال لابد من العودة الى النصف الثاني من القرن العشرين، بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ومن يقف الى جنبها من كبار اوروبا من جهة وبين الاتحاد السوفيتي ومناطق نفوذه في شرق اوروبا من جهة ثانية فإنه كلما اتسعت رقعة الحرب الباردة وازدادت مضاعفاتها السلبية احسّت العديد من البلدان الاوروبية وخصوصا الواقعة منها على خطوط التماس بين المعسكرين احسّت خطورة الموقف ومضاعفات ذلك التصعيد السياسي على الامن الاقليمي والسلم الدولي.. ذلك ما دفعها لتفعيل الجهد الدبلوماسي من اجل ترطيب الاجواء بين مختلف الاطراف وتقليل حجم المخاطر التي تهدد امن اوروبا. في هذا الاطار وقبل تسعة وثلاثين عاما ولدت اتفاقية هلسنكي او ما يعرف بـ “المستند الاخير لهلسنكي” والتي تشكل الاساس الطبيعي لولادة “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا- OSCE” اذ تحولت اتفاقية هلسنكي ومنذ عام 1990 الى منظمة الامن والتعاون في اوروبا، التي يقع مقرها الرئيسي في العاصمة النمساوية فيينا.
الحرب الباردة والصراع المشحون بين الشرق والغرب جعل البلدان الاسكندنافية في فوهة المدفع لأنها تمثل نقطة تماس جغرافية بين الجبهتين ولهذا فإن الاسكندنافيين كانوا مندفعين بشكل واضح لمناصرة هذه الفكرة ومن هنا كانت فنلندا بحراكها الدبلوماسي المحايد هي المكان المناسب لتلك المهمة الدبلوماسية.. فالفنلنديون عانوا مرارة ذلك الصراع… كما عانوا قبل ذلك من تبعات الحرب العالمية الثانية وما خلفه لهم الصراع بين الالمان والسوفيت.
ولدت اتفاقيات هلسنكي بعد سلسلة من المؤتمرات التي عقدت في العاصمة الفنلندية هلسنكي منذ عام 1972 على مستوى السفراء، ثم وزراء الخارجية، ثم بعد ذلك انعقاد قمة الزعماء الذين مثلوا 35 دولة في الفترة “الحادي والثلاثين من تموز- الاول من آب عام 1975” على قاعة “فنلانديا تالو” والتي شهدت توقيع اتفاقية هلسنكي في 1/8/1975. وبحضور اشهر زعماء العالم، الرئيس الامريكي فورد، الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، زعماء الاتحاد السوفيتي ورؤساء بقية البلدان الكبرى في العالم، كان هدف المنظمة في المقام الأول منع نشوب الصراعات، إدارة الأزمات بطريقة سلمية، وإعادة تأهيل ما دمرته الحروب.
الاتفاقية نجحت الى حد ما في تخفيف حدة التوتر الدولي بين المعسكر الشرقي والغربي لان المنظمة كانت تضم مختلف اطراف الحرب الباردة. حيث يصل عدد اعضائها الى 56 دولة، اضافة الى أحد عشر شريكا متعاونا ومساهما في تحقيق اهداف تلك المنظمة. كما انها من الاتفاقيات النادرة التي تلم شتات كلا معسكري اوروبا الشرقي والغربي.
اتفاقية هلسنكي دخلت مرحلة جديدة في قمتها الثانية التي عقدت في باريس- تشرين الثاني عام 1990 أي بعد خمسة عشر عاما على ولادتها، حيث اعلن من هناك نهاية الحرب الباردة، وفي ذات القمة منحت الاتفاقية افقا مؤسساتيا جديدا اكثر نضوجا مما سبق وبما يتناسب مع التطورات الجديدة التي حصلت في اوروبا والعالم. حيث تحول شكل واسم الاتفاقية، من اتفاقية هلسنكي الى مسمّى “منظمة الامن والتعاون في اوروبا”، كما اعلن ايضا في قمة باريس عن هيكيلة جديدة للمنظمة، فأسست أمانة للمؤتمر في العاصمة التشيكية براغ، ومركزًا لفض النزاعات في فيينا بالنمسا، ومكتبًا في وارسو ببولندا لمراقبة الانتخابات في البلاد الأوروبية. ووقعت البلدان المشاركة على ما سمّي حينها بـ “ميثاق باريس لأوروبا الجديدة”.
بعد قمة باريس عقدت المنظمة خمس قمم لاحقة كانت كالتالي: في هلسنكي عام 1992، في بودابست عام 1994، لشبونة عام 1996، اسطنبول عام 1999، في الأستانا 1- 2 كانون الاول عام 2010.
كل قمة من القمم السابقة تضيف مزيدا من التنضيج لاتفاقيات هلسنكي او منظمة الامن والتعاون في اوروبا، التي تعد اكبر منظمة للأمن الاقليمي في العالم حيث تشمل معظم بلدان اوروبا اضافة الى امريكا وكندا وبعض الشركاء في منطقة اسيا الوسطى، ولذلك فأن القارة الاوروبية ورغم كلما حصل فيها من نزاع في منطقة البلقان تبقى هي المنطقة الاكثر استقرارا امنيا، اقتصاديا ورفاهية على مستوى العالم، وذلك يعود في جزء كبير منه الى الجهود التي تبذلها المنظمة المذكورة، هذا لا يعني نسيان الخروقات الامنية الكبيرة التي حصلت في لندن او مدريد او حتى البلدان الاسكندنافية. لكن ذلك لا يمثلا فشلا للمعاهدات والاتفاقيات الامنية في اوروبا إذ ان خروقات من ذلك القبيل من المستحيل تجنبها تماما ولا يوجد بلد في العالم محصن بشكل نهائي عن الهجمات الارهابية، غير أن نسبة هذه الهجمات ومدى تأثيرها هو المعيار الاهم في الحكم على استقرار المؤشر الامني في القارة العجوز. لكن الاعتداءات الارهابية التي حدثت في النروج وما يخطط له اليمين المسيحي المتطرف تشكل تحديا جديدا للتعاون الامني في اوروبا.. بحاجة الى معالجات من نوع آخر.
|