ما غاب عن العازفين

يجلس منير بشير ساخرا بطريقته الخاصة، من المبتدئين والمتوسطين والمتقدمين، ساخرا بطريقته حين يصغي طويلا والمتكلم يُنظّر يمينا وشمالا، ثم يرد عليه بجملة مختصرة من بضع كلمات، تجعل كل محفوظات هذا المتحدث تنكمش وتجف وتتسابق للعثور على أي مكان تختبئ فيه من وخز سخرية رجل يهزأ بكل موسيقي يلوك البكالوريوس والماجستير بلسانه في كل جلسة حديث، بمناسبة وبغير مناسب، رغم أنه يحمل بكالوريوس عراقيا وخمس شهادات دكتوراه من أفخم أكاديميات أوروبا في الموسيقى.

يجلس منير بنهاونده وحجازكاره ورسته، لا نهاوند العرب ولا حجازهم ولا رستهم، إنها أسماء مشتركة لمقامات مختلفة بينه وبينهم، الرست والسيكا والأوج والأوشار والرهاوي والسوزناك عند منير تختلف عن التي يمارسها حملة الشهادات من العازفين الذين لهم قنوات في يوتيوب، المقامات عنده كما يقول هو، عوالم، كل مقام عالم بحد ذاته، يختلف عن العالم الآخر، اما المقامات التي عند الآخرين فهي المقامات التي تقسم دراستها إلى دراسة مبتدئين ومستوى متوسط ومتقدم.

قليلة في الدنيا تلك الموسيقى التي حين تستمع إليها لا تستطيع أن تقوم بشيء آخر، تجبرك على الانصات، ونسيان وكل ما قيل عن العزف ومدارسه، يعلمك منير كيف أن جمال النغم أكبر من الكلمات والدروس. العلم مطلوب في كل شيء، وأولها الموسيقى، لكن الموسيقي العازف اختصاص، والباحث الموسيقي اختصاص آخر.

يستطيع أي عازف عود، في العراق وغيره، أن يتحصل على دراسة اكاديمية في الموسيقى كالتي نالها منير، بل وأرفع درجة، لكن أشك، ولشكي مبررات سأوردها، في قدرة كثير من الموجودين، تمنياتنا لهم بالتوفيق، على أن يعزفوا أربع نغمات كالتي تنطلق من أنامل هذا المتأله في النغمة، هو أو شقيقه جميل بشير، أو أستاذهما المعلم الأول الشريف محيي الدين حيدر، لذكرهم جميعا الخلود، لأن الموسيقى التي يقدمونها موسيقى حس، كما قال منير نفسه في واحد من أواخر لقاءاته التلفزيونية، التي طرح فيها أنضج أفكاره في الفن الموسيقي بعد ستين عاما بالضبط مع العود والتشيلو والمقامات، كان في هذا اللقاء شديد التمسك بأن الموسيقى حس، وعطاء حسي، قبل أن تكون مادة لفلسفة أرسطو وأدبيات شكسبير ومقولات فريدريك نيتشه، حاول بكل طريقة أن يخرج محاوريه من الحلقة الضيقة التي يفكرون ويناقشونه بها، إلى رحاب افكاره عن الموسيقى والتأمل، والتعبير، كانت محاولته هذه في إخراج محاوريه من عالمهم إلى عالمه، تشبه محاولاته على امتداد ستة عقود، لإخراج المستمعين إلى عزفه، من دائرة استماعهم البسيطة الساذجة التي تعلموها، إلى مساحات واسعة كان يجول فيها بعوده الفريد، وأوتاره العذبة في كل طبقاتها الصوتية بدأ من وتر القبادوكاه الذي يدوزنه على الفا أوكتاف أول، وصولا إلى الوتر الأول على الدو قرار أوكتاف أول، بديناميكية حركة ريشته، وبراعته في استخراج الأصوات المنخفضة والعالية تماشيا مع النسيج الداخلي للجملة الموسيقية، لأنه حين يؤلف موسيقاه ارتجالا، يبتغي من كل جملة معنى محددا تماما، إنه يبني انفعالاته الموسيقية بجمل سريعة متراشقة تتخللها هبطات في صوت النغمة.

أظن أن الموسيقى المنيرية، ستظل تحديا لعازفي العرب وغيرهم لأمد غير معلوم، كما ظل المتنبي تحديا لكل الشعراء على مدى ألف عام.