نحو سياسة نفطيّة تقدمية |
لقد جابهت حكومة الثورة منذ 14 تموز 1958، قضية تحديد موقفها من شركات النفط العاملة في العراق. وكان الموقف الحكومي الاول يستهدف استمرار عملية انتاج النفط، وصيانة المنشآت النفطية «وحماية المصلحة الوطنية العليا» في النفط، كما جاء في بيان رئيس الوزراء المنشور في 23 /7 /1958. وبعد اشهر قليلة من قيام ثورة 14 تموز 1958، شرعت حكومة الثورة في مطالبة شركات النفط العاملة في العراق بتطبيق منهاج زيادة الانتاج، الذي سبق ان اتفقت على القيام به مع الحكومات السابقة، وبحل الخلافات التي كانت قائمة بين الحكومات الاخيرة وشركات النفط حول تطبيق امتيازات النفط القائمة. وقد كانت الخلافات المتعلقة بتطبيق امتيازات النفط الحالية محصورة في النقاط الاتية: أولاً- عناصر الكلفة: كان الاختلاف، منذ العهد السابق، ينصب على ما يأتي: الايجار المطلق: ويقصد به المبالغ التي دفعتها الشركات الى الحكومة قبل وصول الانتاج الحد الادنى والبالغ ما قيمته (200000) دينار سنوياً حتى استعيض عن الايجار المطلق (Dead Rent) بالعوائد المقطوعة (Royalty)، والتي كان لها حق اعتبارها من عناصر كلفة الانتاج سابقاً لامتياز 1952. ان الحكومة تطالب بعدم استقطاع ذلك والشركات كانت مصرة على استقطاعه. ويقدر المبلغ الذي لم تستقطعه الشركات (الموصل والبصرة) بحوالي (9977515) ديناراً. نفقات التحري والحفر: تعتبر الشركات جميع هذه النفقات جزءاً من كلفة الانتاج (وقد بلغت 2238387 ديناراً في عام 1955) وتطرحها جميعاً من قيمة الانتاج، بينما تطالب بالتمييز بين نفقات التحري والحفر للآبار المنتجة (والتي تتراوح بين الربع والخمسيّن 2 /5) عن تلك التي تصرف على الآبار غير المنتجة، وذلك بتوزيع الاولى على عمر البئر وطرح الثانية سنوياً. مصاريف مكتب الشركات في لندن ونفقات الدعاية: عارضت الحكومة حساب بعض الارقام عن المصروفات التي لا تتصل بانتاج النفط العراقي. ثانياً- تخفيض سعر تصدير نفط الفاو: كانت الشركات قد خفضت سعر تصدير نفط الفاو بمقدار خمسة سنتات للبرميل الواحد خلال المدة في شباط لغاية تشرين الثاني 1956. فاعترضت الحكومة على هذا التخفيض الانفرادي، وطلبت اعادة حساب حصتها على اساس السعر السابق. ثالثاً- تعيين مدير تنفيذي عراقي. رابعاً- ارتفاع كلفة انتاج شركة الموصل من (2.8) باون للطن في 1955 الى (3.5) باون للطن في 1957، مما سبب خسارة للشركة تقدر بحوالي مليون دينار. ومعارضة الحكومة تنصب على أساس أنها لا تسمح باستمرار الانتاج عند الخسارة. خامساً- تفسير الفقرة (ب – 5) من المادة 9 من امتياز 1952 التي تنص على تعديل كلفة الانتاج، إذا زادت أو قلت بمقدار يربو على (10 بالمئة) من الكلفة الأساسية التي تعدل (650) فلساً للطن الواحد. تعترض الحكومة على تطبيق الشركة للزيادة عند حساب حصة الحكومة قبل موافقتها على الكلفة الفعلية المحسوبة. لقد امتازت المرحلة بين الاتفاق على منهاج توسيع انتاج النفط وانهاء عقد شركة خانقين في 1 /1 /1959 واستئناف المفاوضات في 15 /8 /1960 بمماطلة الشركات عن طريق ايداع حل هذه الخلافات الى ممثلي الشركات والحكومة من محامين ومحاسبين قانونيين غير مخولين بالبت في أمرها. كما اتصفت بجريان هذه المفاوضات بمعزل تام تقريباً عن الرأي العام الوطني والصحافة، وإهمال القوى السياسية لهذا الجانب الحيوي من الحياة العامة خلال هذه الفترة. كما اتصفت هذه المرحلة من المفاوضات بانفراد رئيس الوزراء ووزيري المالية والنفط في اجرائها من دون و?د مفاوض بالمعنى المعروف. وعلى الرغم من اشتداد الردة وسوء العلاقات بين الحكومة والقوى السياسية الوطنية، استطاعت الأخيرة عن طريق ما نشرته الصحافة الوطنية التأثير على مجرى المفاوضات التي قام بها الوفد المفاوض الذي تشكل وفاوض وفد الشركات في اجتماعات القصر الابيض التي دامت من 15 /8 /1960 حتى 29 /8 /1960، الأمر الذي دعا الشركات الى المطالبة بحصر المفاوضات برئيس الوزراء والوزراء المعنيين وشخصية سياسية اخرى. ان الضغط الشعبي أدى الى إدراج بعض المواضيع الرئيسية في بنود المفاوضات والتي يمكن اجمالها في ما يأتي: – تخلي الشركات عن الاراضي غير المستثمرة، بينما كانت المفاوضات السابقة تدور حول نسبة من الاراضي، يتفق الطرفان عليها وعلى طريق اختيارها. – تنازل الشركات عن الغاز الطبيعي الفائض عن حاجتها. – وجوب مساهمة العراق فعلاً في رأسمال الشركات بنسبة لا تقل عن 20 بالمئة من المجموع العام. – وجوب زيادة حصة العراق من ارباح النفط. – ضمان استخدام الناقلات العراقية في نقل النفط العراقي. – دفع العوائد بعملة قابلة لتحويل. لقد انقطعت المفاوضات مرتين في هذه المرحلة. الاولى في ايلول 1960 والثانية في 6 نيسان 1961، عدا التأجيل؛ فالانقطاع الاخير في 11 /10 /1961. وعليه، كانت هذه المرحلة تتصف كسابقتها بمماطلة الشركات في المفاوضات، مع فارق واحد، وهو ان هذه المماطلة اصبحت علنية ومكشوفة بالنسبة الى الرأي العام العراقي اكثر من أي وقت مضى. ان تعنت الشركات وانتهاجها مختلف اساليب المماطلة والضغط السياسي في المفاوضات يستحق الدراسة والتأمل. لأن هذه الاساليب التي تتبعها الشركات تجعل اسلوب المفاوضات اسلوباً غير فعال في تحقيق حقوق العراق في ثروته النفطية، بل أنها تثبت الجور والاجحاف اللذين تضمنتهما امتيازاتها المعقودة من قبل حكومات لم تمثل إرادة الشعب، بل كان يقودها صنائع شركات النفط العاملة في العراق، التي تمثل التجسيد العملي للاستعمار فيه. وعليه، اقتضت الظروف ان نبحث عن اسلوب جديد للخروج من المأزق النفطي الراهن. وتنصب هذه المحاولة على دراسة اقتراحين: احدهما يمثل اتجاه الحكومة وانصارها، والثاني يمثل اتجاه بعض الاطراف الوطنية المعارضة للحكومة، وذلك تمهيداً لطرح اقتراح نعتقد انه خير بديل للاقتراحين السابقين، وانه حل جدي وجذري للمأزق النفطي الراهن: يبدو من المعلومات المتوافرة أن الحكومة متجهة الى تشريع قانون تنتزع بموجبه الاراضي غير المستثمرة من مساحات الامتيازات النفطية للشركات العاملة في العراق، والى تشريع قانون آخر يقضي بتأسيس شركة وطنية للنفط تقوم مباشرة، إنما بمنح امتيازات جديدة لشركات اجنبية، أو بعقد اتفاقيات تعاون نفطي مع الدول الصديقة لاستكشاف واستخراج ونقل وتسويق النفط خارج الحقول النفطية التي تستثمرها حالياً شركات النفط العاملة في العراق. لقد نادت الصحف الاستعمارية وعلى رأسها مجلة الايكونومست والفاينانشيل تايمز بقيام شركات النفط الحالية باستثمار هذه الاراضي غير المستثمرة على وفق شروط العراق. وهذا يعني ان تنطوي الامتيازات الجديدة لنفس شركات النفط القائمة على حق في المساهمة بـ (20 – 25) بالمئة من رؤوس الاموال التي ستستثمر في هذه الاراضي. وبذلك تزيد نسبة حصة العراق من عوائد النفط الى 60 بالمئة – 62.5 بالمئة. ان اتجاه الحكومة، على قدر ما هو واضح الآن يختلف عن هذه الدعوة، في كونه يحتفظ للحكومة بحق اختيار طرق أخرى، وجهات أخرى غير الشركات القائ?ة، لاستثمار الاراضي النفطية، المطلوب انتزاعها من شركات النفط الحالية. إلا أن جوهر الاتجاه الحكومي ينصب على صرف كفاح العراق شعبا وحكومة عن طريق مجابهة الحقول النفطية والشركات المستغلة لها وجها لوجه، الى طريق استكشاف واستخراج النفط من غير هذه الحقول، صرف الكفاح من مكسب أكيد الى مكسب مجهول. ولئن كان هناك ميزة لهذا الاتجاه فهي لا تعدو الاستخذاء امام مناورات وتسويفات شركات النفط والدوران في فلكها. كما يبدو مما نشرته صحف المعارضة أنها تميل الى اصدار تشريعات تتم بموجبها مساهمة العراق في رؤوس اموال الشركات عن طريق تأميم حصة فرنسا البالغة (23.75 بالمئة) من رؤوس اموال شركات النفط العاملة في العراق، واصدار تشريع يقضي بانتزاع جميع الاراضي غير المستثمرة من قبل شركات النفط واستثمارها من قبل شركة وطنية للنفط (1). ويختلف هذا الاقتراح عن اتجاه الحكومة في قضية تأميم حصة فرنسا التي لا تخلو من بعض المصاعب والمحاذير. إن تأميم حصة فرنسا قائم على اساس امكانية تجزئة الاستعمار، وفرضية أن مهاجمة احد اطرافه – فرنسا- سوف لا يؤدي الى دفاع الاطراف الاستعمارية الأخرى. هذا من ناحية المبدأ. أما من الناحية العملية، فمن الصعوبة بمكان تجزئة حصة فرنسا المؤممة وعزلها عن الاجزاء الاخرى غير المؤممة، بحيث يستطيع العراق ان يهيمن على حصة عضوية واحدة. كما أن هنالك صعوبات قانونية تتصل بقضية امكانية تأميم الجزء من دون أن يصار الى اعتبار هذا ال?مل خرقا لاحكام الامتيازات الثلاثة برمتها. ولشعار تأميم حصة فرنسا مزية سياسية، وهي الرابط الواضح بين قضية النفط العراقي وقضية استقلال الجزائر العربية. ان تحقيق المطالب الرئيسية التي رفعها الوفد العراقي المفاوض الى شركات النفط، يمكن ان يتم عن غير هذين الطريقين المذكورين في اعلاه: الطريق الحكومي وانصاره، وطريق جناح من اجنحة المعارضة، تحقيقا تطوريا يخلو من النواقص والصعوبات التي تعتور الطريقين المذكورين، وإن اشترك معهما في انطوائه على نفس الدرجة من المغامرة تقريبا. وخلاصة هذا الاقتراح هو تأميم شركة نفط البصرة فقط. لأن هذا السبيل يضمن جميع مطالب العراق بشكل عضوي، يمكنه من الهيمنة على جزء معين من صناعة النفط العراقية. ويمكنه من ان يتحول الى الاساس الاكيد للان?تاق النفطي الكامل. إن انتهاج اسلوب التأميم الجزئي هو في الحقيقة اقرار للمبادئ الرئيسية الثلاثة وهي: 1. المساهمة في رؤوس اموال الشركات. 2. انتزاع الاراضي غير المستثمرة والغاز الطبيعي انتزاعا عمليا قابلا لتحقيق منافع ملموسة. 3. زيادة نسبة حصة العراق من عوائد النفط، ولكنه طريق عضوي عملي، يمتاز عن الطريقين السابقين في الخصائص الاتية: اولا – يمثل رأس المال المدفوع لشركة نفط البصرة اقل من 20 بالمئة من رأس المال المدفوع لشركات النفط الثلاث ( العراق، والبصرة، والموصل ) التي يبلغ مجموع رساميلها المدفوعة (108.5) ملايين باون، بينما يبلغ رأسمال شركة نفط البصرة (12.4) مليون باون، اي اقل من 12 بالمئة. ثانيا – ان مساحة امتياز شركة نفط البصرة هي اقل بكثير من مجموع مساحة الاراضي غير المستثمرة. ثالثا – ان نسبة حصة العراق من نفط كركوك والموصل ستبقى على حالها أي (50 بالمئة). كما ستبقى مساحة هذين الامتيازين على حالهما أيضا. رابعا – ان المستلزمات الضرورية لإدارة انتاج حقول نفط البصرة هي لا تزيد على المستلزمات التي اقتضاها تعريق مصفى الدورة وشركة نفط خانقين من الناحيتين الادارية والفنية. خامسا – ان بلورة حقوق العراق وتجسيدها في منطقة واحدة الحدود، قريبة من الميناء، ومقتصرة على النقل البحري، تجعل المخاطرة في حدها الادنى . سادسا – ان نفس الصفة المذكورة في (خامسا) تمكن العراق من بناء الاساس البتروكيمياوي لتصنيع البلد بالاستناد الى حقول نفط البصرة. سابعا – ان تسويق انتاج نفط البصرة الحالي البالغ حوالي (10) ملايين طن سنويا مهمة غير مستحيلة، بالنظر الى حاجة الدول المنافسة لدول شركات النفط الاحتكارية السبع الكبار (ايطاليا والمانيا الغربية واليابان)، وتوافر ناقلات النفط لديها تجعل ذلك ممكنا، وبالنظر الى حاجة بعض الدول العربية والدول المحايدة النامية وخاصة الهند وسيلان. كما ان سوق العالم الاشتراكي من جهة اخرى بامكانه استيعاب هذه الكمية الضئيلة نسبة الى مجموع انتاجه واستهلاكه، ولاسيما سوق الصين الشعبية والمانيا الديمقراطية. ثامنا – ان المخاطر السياسية والاقتصادية والقانونية التي ينطوي عليها اقتراح انتزاع الاراضي غير المستثمرة كليا واستثمارها جديا عن طريق عقد اتفاقية تعاون نفطي مع المعسكر الاشتراكي – مخاطر سياسية واقتصادية وقانونية لا تقل، إن لم تزد، عن اقتراح التأميم الجزئي المتمثل في تأميم شركة نفط البصرة. (1) – راجع نص قانون تعيين مناطق الاستثمار لشركات النفط رقم (80) لسنة 1961 في الملاحق الاحصائية والقانونية لهذا الكتاب…ص(454 – 470) * المقالة هي القسم الثاني من الفصل الحادي عشر في كتاب د. محمد سلمان حسن «دراسات في الاقتصاد العراقي». تتوجه (الثقافة الجديدة) بالشكر الجزيل للاستاذ سلام كبة الذي تفضل مشكورا بإرسال هذه المادة
|