إعلان بلفور الحلقة 1: «إعلان بلفور» وليس «وعده».. مشروع طبخه طهاة صهاينة مستفيدين من قناعات ومصالح بريطانية

 ابدأ اليوم نشر سلسلة من ثلاث حلقات حول «إعلان بلفور»٬ بمناسبة ذكرى 100 عام عليه. وتقدم الحلقات الثلاث معلومات مثيرة عن خلفيات الإعلان الذي أسهم إسهاًما مباشرة في رسم سياسات العالم العربي المعاصرة. ولكن٬ بداية٬ لا بد من التوضيح بأن ترجمة كلمة DECLARATION الإنجليزية بالعربية هي «إشهار» أو «إعلان» وليست «وعًدا». وبين الوعد والإعلان مسافة شاسعة لا ينبغي الاستهانة بها٬ ومن ثم٬ فإهمالها أو ضياعها يفقد عالم اليقين التوثيقي أهم ركائزه٬ وعلينا التعرف على أصول المفردات ومعاني ترجمتها قبل حشرها ومن ثم تكرارها٬ لأن المعنى الصحيح هو وحده يورث القدرة على التأثير. والواقع أنه ينظر إلى الترجمة عندنا على أنها جزء من الحراك المعرفي٬ وإن كانت تعيش في مأزق ثقافي يترتب عليه تأصيل الخطأ٬ وهو ما يطلق عليه (الترجمة الخفية) Covert Translation التي لا تذكر الأصل فتكون قريبة إلى «ترجمة زائفة» Pseudo – translation وهي تعتمد على الاشتقاقات والمقاربات٬ فتغدو بعيدة عن المعنى المطلوب أصلاً٬ كما تتضح تلك الظاهرة أيًضا وبشكل واسع عند نقل الأسماء الأجنبية التي تضيع بين حروف تعطي نطًقا شاًذا يصعب فهمه لدى أصحابها يقود حتًما إلى اغتراب ثقافي وقطيعة تؤدي نتيجتها إلى ضياع المعنى. في مثل هذا الموقف يبرز بكل قوة المثل الإيطالي «المترجمون خونة» ٬Traduttore Traditore والمقصود بـ«الخيانة» هنا خيانة التعبير. عادة ما يكون اندلاع الحروب نذير شؤم حينما تحسم مصائر شعوب الدول المدحورة٬ بفرض شروط وأحكام وسياسات تطبق عليها قسًرا٬ مخلِّفة تغّيرات جوهرية تترك نتائجها آثاًرا عميقة تنقش في الوعي السياسي والاجتماعي فتغّير مجريات التاريخ لأمد طويل. ولا أكثر مما خلّفته الحرب العالمية الأولى منذ اندلاعها في منتصف ليل 4 أغسطس (آب) 1914 ­ بتوقيت العاصمة الألمانية برلين ­ حين وطأت جحافل الجيوش الألمانية أراضي بلجيكا المحايدة ثم هاجمت فرنسا٬ في عمليةُخطط لها قبل عقد من الزمن وتحديًدا عام ٬1906 ويومها أطلق عليها «خطة شليفتن» نسبة لاسم الجنرال الذي رسمها. حصل كل ذلك نتيجة طلقتين من مسدس إرهابي صربي لم يبلغ التاسعة عشر من عمره حين اغتال الأرشيدوق فرانز فرديناند ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر صبيحة 28 يونيو (حزيران) 1914 في مدينة سراييفو٬ معلنة اشتعال النار في كل أوروبا. ولم تتوقف ألسنة اللهب عند حدودها بل امتدت فبلغت بلاد العرب التي لم تخُب نيران حروبها إلى يومنا هذا٬ فباتت «بلقان القرن الـ21». وعلى حد قول برنار باجوليه٬ مدير الاستخبارات الفرنسية: «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة». غدا التركيز في بداية الحرب على بلجيكا في محنتها. وبقدر ما كان الرأي العام في بريطانيا قليل الاكتراث طوال أكثر من شهر بما كان يحدث في البلقان٬ فدنّو الحرب من أرضه في دولة ضمنت حيادها واستقلالها اتفاقية لندن عام ٬1839 جعلت من هربرت آسكويث٬ رئيس وزراء بريطانيا (1908 حتى 1916) وزعيم حزب الأحرار٬ بطلاً قومًيا خلال أيام بعدما كان مستقبله السياسي مهدًدا بالانهيار. فخطاب آسكويث في مجلس العموم يوم 16 أغسطس 1914 ­ حول دخول بريطانيا الحرب صًدا لغزو ألمانيا بلجيكا وتمزيق معاهدة حمايتها ­ جاء قوًيا لا يمكن لأحد الرد عليه إلا بالتأييد٬ مما جعل رئيس تحرير جريدة «التايمز» العريقة يكتب في أحد مقالاته بعد ثلاثة أسابيع٬ مبّيًنا ردود الفعل بتأييده في جميع الأوساط٬ إلى الاقتراح «بنشر تلك الكلمات وتعليقها في كل مدينة وقرية في جميع الجزر البريطانية». هكذا كانت أجواء الحرب مسيطرة على أفئدة الرأي العام٬ وهو مما دفع زعماء الحركة الصهيونية الوليدة من اليهود ­ مدعومة من أصحاب القرار والنفوذ البريطانيين – إلى استغلالها لتقديم برامجهم وطموحاتهم وتحقيقها على أرض الواقع «حينما تصمت المدافع٬ تطير الطيور بأرزاقها». * بدايات التحشيد الصهيوني ولقد كان المشهد ملائًما حين انهمرت المطالبات والمراسلات٬ مما حدا بهربرت صمويل٬ أحد الوزراء البريطانيين اليهود وأول وزير منهم ٬1915 ­ 1906 بإعداد تقرير بعنوان «عن مستقبل فلسطين» يرّكز فيه على التعرف على الصهيونية والفوائد الاستراتيجية التي ستجنيها بريطانيا عند انتصارها في الحرب واندحار الدولة العثمانية٬ وما يتبع انسحابها من الأقطار التي تحت هيمنتها بأن تجعل بريطانيا٬ فلسطين٬ تحت حمايتها٬ وأن تشجع المهاجرين اليهود على الاستقرار فيها حتى يشكلوا نسبة عالية من السكان٬ لضمان بقائها تحت هيمنة التاج البريطاني. وللعلم٬ بلف تعداد اليهود مع النازحين من روسيا وشرق أوروبا في فلسطين بداية القرن العشرين بحدود 55 ألف نسمة ­ وقد تكون في هذا الرقم مبالغة ­ بينما كان عدد السكان العرب أكثر من 660 ألف نسمة. وهذه الأرقام صّرح بها العضو المشارك في المؤتمر الصهيوني الثاني ليو موتزكين عام 1898 (راجع «كتاب إسرائيل وتاريخها» لمارتن غيلبرت ­ دبل دي ­ نيويورك 1998). كما قّدر جيمس آرثر بلفور٬ صاحب الإعلان الشهير٬ عدد السكان العرب فيها بـ700 ألف نسمة كما جاء في مذكرة له. وللتوضيح لم تكن هناك إحصائيات دقيقة إبان الحكم العثماني٬ ولكن كتاب «سكان فلسطين» لمؤلفه جاستن ماكارثي يذكر أن نسبة اليهود آنذاك بحدود 3 في المائة. وكانت تلك الأقلية تتوّزع بأعداد بسيطة في المدن فقط٬ ولا سيما القدس وطبرية وصفد. ومنهم بقايا هجرات «العالية الأولى» ٬1903 ­ 1882 التي عاد فهاجر منها نحو 70 في المائة إلى أميركا. ويذكر ديفيد بن غوريون في يومياته: «إن نصف المهاجرين ألقى نظرة واحدة على الوضع٬ ثم غادر إلى أوروبا بالسفينة نفسها»٬ حيث لم تكن فلسطين أرض اللبن والعسل حينذاك! وحسب يوسف حايم بيرنر في كتابه بالعبرية «ماييم لا باييم» (أي بين الماء والماء)٬ فإن «العائلة اليهودية المهاجرة تترك من أفرادها كبار السن والعجزة ومن لا قيمة لهم منهم (شمندريك) في فلسطين٬ وترحل إلى أميركا. كما حدا بأثرياء اليهود إغراء المهاجرين بالبقاء في فلسطين عبر تأسيس بنك لتمويل توطين المهاجرين تحت اسم «صندوق الاستيطان اليهودي»٬ من خلال توصية «المؤتمر الصهيوني الخامس» 1899. كذلك أسس في أواخر 1901 صندوق آخر باسم «الصندوق اليهودي الوطني» (كيرن كيمت). أيًضا٬ كان اليهود قبيل الهجرة الأولى يملكون نحو 10 آلاف دونم (أي ما يعادل 0.003 في المائة) من أرض فلسطين مقابل 26.3 مليون دونم يملكها العرب مسيحيين ومسلمين. ولكن في نهايتها ارتفعت ملكية اليهود إلى 400 ألف دونم (1.6 في المائة)٬ وبلغ تعدادهم 55 ألف نسمة. وكانت غالبية الأراضي مسجلة بأسماء منظمات ومؤسسات أجنبية تتمتع برعاية قناصل الدول الأوروبية الكبرى. * حزب الأحرار البريطاني رافق التقرير الآنف الذكر الذي قّدمه الوزير هربرت صمويل ­ وعلى منواله حملة إعلامية بدأتها جريدة «مانشستر غارديان» الليبرالية («الغارديان» حالًيا) المملوكة والمدارة من قبل تشارلز برستويك (سي بي) سكوت٬ الصحافي المشهور المقّرب من حزب الأحرار (الليبرالي) وزعيمه ديفيد لويد جورج٬ ذي الميول الصهيونية٬ الذي تولى رئاسة الوزراء في نهاية عام ٬1916 واستمرت وزارته حتى عام 1922. وأسهمت علاقة سكوت بلويد جورج في فتح أبواب أصحاب القرار والتواصل مع زعماء الحركة الصهيونية مثل الدكتور حاييم وايزمن٬ الذي أصبح بعدها من المقّربين من لويد جورج٬ ومن ثم جاءت علاقته الراسخة مع بلفور الذي تسلم وزارة الخارجية٬ كما سيأتي ذلك لاحًقا. وكانت «الغارديان» تستكتب وتستقطب أقلاًما صحافية مؤّثرة من اليهود ومؤيديهم من الصهاينة مثل هربرت بوثام الذي كان يكتب مقالات تهيئ الرأي العام لمؤازرة المشروع الصهيوني باستيطان فلسطين. ومنها «مذكرة حول السياسة البريطانية» أثارت الانتباه والجدل عام ٬1915 بالإضافة إلى افتتاحيات الجريدة التي كان يكتبها الصحافي والكاتب اليهودي هاري ساخر٬ وهو من جملة من أسهموا بوضع مسّودة صياغة «إعلان بلفور» قبل تقديمها في يوليو (تموز) 1917. وكان ساخر هذا همزة الوصل بين سكوت ووايزمن٬ وكذلك مع مجموعة ما أطلق عليها «مدرسة يهود مانشستر الصهيونية» ذات التأثير القوي. وكان محّرك المجموعة الديناميكي حاييم وايزمن بمعّية ليون سايمون وسايمون ماركس وإسرائيل سيف وناحوم سوكولوف وآحاد حاعام٬ على الرغم من قلة أعداد مؤيدي الحركة الصهيونية من اليهود٬ الذين ما كانوا يتعدون 10 آلاف عضو من مجموع الجالية اليهودية المقيمة في بريطانيا البالغ عددها 300 ألف نسمة. وتوّزع هؤلاء في المدن الكبرى٬ مثل لندن التي تؤوي معظمها٬ بالإضافة إلى مانشستر وليفربول وليدز وبرمنغهام. ومنهم من الجيل الأول للمهاجرين الروس الذي فروا منها نتيجة موجات العنف التي أطلق عليها اليهود الأوروبيون (الأشكيناز) اسم «بوغروم» (أي مجازر ما بعد اغتيال قيصر روسيا الإسكندر الثاني عام 1881). ما لاُينكر تاريخًيا أن التأثير اليهودي الأقوى جاء من العوائل الثرية التي كان يطلق عليها «أبناء العمومة» التي تمتعت بوجود مالي وصناعي لا يستهان به جعلها مقبولة للطبقة الأرستقراطية البريطانية وتتزاوج معها أحياًنا٬ ومنها روتشيلد ومونتيفيوري وصامويل مونتيغيو وموكاتا وكوهين وغولدسميث وساسون وغيرهم. كذلك كان للصحافة والصحافيين اليهود٬ وخصوًصا الصهيونيين منهم٬ واضح الأثر في جميع ما يكتب وما ينشر. ولا يمكن أن يجهل دور أقدم جريدة يهودية في العالم ولسان حال الطائفة في أنحاء الإمبراطورية البريطانية منذ صدورها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1841 وهي «الجويش كرونيكل» JEWISH CHRONICLE الأسبوعية٬ وخصوًصا بعدما تولى تحريرها ليوبولد غرينبرغ من عام 1907 حتى وفاته عام 1931. إذ أفاض عليها غرينبرغ الصبغة الصهيونية لقربه من المفكر الصهيوني الأبرز ثيودور هرتزل وممثله في بريطانيا. كذلك كان غرينبرغ على علاقة وطيدة بالساسة البريطانيين٬ ومنهم جوزيف تشمبرلين٬ وزير المستعمرات عام ٬1902 الذي قدم لهرتزل عرَضي العريش ثم أوغندا وطًنا لليهود وممثله في بريطانيا. كذلك كان غرينبرغ على علاقة وطيدة بالساسة البريطانيين٬ ومنهم جوزيف تشمبرلين٬ وزير المستعمرات عام ٬1902 الذي قدم لهرتزل عرَضي العريش ثم أوغندا وطًنا لليهود. وعلى الرغم من أن توزيع الجريدة كان بحدود 50 ألف نسخة٬ فإن اختراقها بلغ 250 ألف قارئ٬ مما حدا بالحكومة البريطانية أن تؤجل الكشف لإعلان بلفور والرسالة الموجهة إلى اللورد روتشيلد بتاريخ 2 نوفمبر ٬1917 الذي صادف موعد صدورها الأسبوعي٬ حتى 9 نوفمبر٬ معطية لها الأولوية والسبق الصحافي٬ حينما بّشرت اليهود في العالم بافتتاحية عنوانها «انتصار اليهود المؤّزر». * الأسباب الحقيقية لـ«الإعلان» لا أحد يعرف الأسباب الحقيقية التي أدت إلى «إعلان بلفور»٬ إذ أُهرقت بحار من الحبر وعلت جبال من الورق لكتابة نظريات واجتهادات ضاعت كما تغور سيول المزن في الصحارى الظمأى. ولكن بعد فترة خمود الحرب العالمية الأولى٬ ظهرت دوافع الإعلان على حقيقتها٬ وهو أنه جزء من مشروع خداع استراتيجي استيطاني هو ما كان يعتقده كل من عرب فلسطين وبعض سكانها القدماء من اليهود (يشوف) YISHUV. وهذا ما أيده أيًضا رئيس دولة إسرائيل إسحاق نافون (1983 – 1978) في مذكراته «كل الطريق» ­ وأصله من يهود إسبانيا الذين هربوا إلى إسطنبول بعد اندحار العرب٬ ومنها إلى القدس قبل مدة طويلة ­ إذ يقول في معرض كلامه عن العلاقة بين العرب واليهود: «إن أباه كان صديًقا حميًما لجاره العربي المسلم (الحاج علي)٬ وكانا مًعا يلعنان الاحتلال ثم الانتداب متمثلاً بعدوهما المشترك.. بريطانيا». بات ما دّبره البريطانيون يعطي أجوبة ذلك اللغز٬ فالمخّططات عادة ما تليها المؤامرات حتى تصبح أمًرا واقًعا٬ ولو أن اختلاق الأساطير هي الحالة الغالبة على العنصر البشري من الاستشهاد بالحقائق ودقتها. وحًقا٬ لم تتمكن الإدارة المدنية لبريطانيا المفروضة عام 1920 ولا جيشها إقناع أهل البلاد الأصليين بتقّبلها٬ رغم الوعود والإغراءات ثم الضغوط والانصياع للأمر الواقع. فهل كانت تلك المحاولات جزًءا من تقليل الضغط السياسي والاجتماعي والديموغرافي لهجرة اليهود الكبرى من روسيا وبولندا 1905 ­ 1881 بعد زيادة حملات الإبادة والتهجير بأعداد غير مسبوقة٬ واختيار البعض بريطانيا بتشجيع من الحركة الصهيونية؟ هذا الأمر أّدى إلى ازدياد مشاعر اللاسامية في بلد صغير الرقعة الجغرافية وآثارها على التركيبة السكانية من طبقات فقيرة مسحوقة لا تربطها ببريطانيا أي وشائج على الإطلاق ديًنا ولغًة وانتماًء٬ حتى وصل إلى حد لا يمكن السكوت عنه٬ وهو ما دعا إلى تشكيل جهة حكومية للنظر في الأمر عام 1902 أطلق عليها «اللجنة الملكية للحد من الهجرة الأجنبية»٬ وإن كان المقصود منها هي الهجرة اليهودية. المسيرة انطلقت بدراسة ونقاشات مستفيضة في البرلمان٬ وعلى الرغم من تدخل المتنفذين من اليهود٬ خصوصا الناشطين في الحركة الصهيونية الجديدة وعلى رأسهم زعيمها ومؤسسها هرتزل٬ الذي زار لندن ثانية مرتين في صيف وخريف عام 1902 بعدما كان قدم للمرة الأولى عام 1896 من أجل الدعوة إلى المؤتمر الصهيوني الأول بسويسرا. ولقد التقى هرتزل مع «اللجنة» ووزير المستعمرات جوزيف تشمبرلين الذي عرض عليه مشروع توطين اليهود في العريش بسيناء (كانت مصر آنذاك تحت الحماية البريطانية) كما عرضت إحدى مستعمرات بريطانيا في شرق أفريقيا (أوغندا) لاستيعاب مليون مهاجر يهودي وجعلها وطًنا قومًيا لليهود تحت الحماية البريطانية. وتقّبل هرتزل الفكرة وعرضها على «المؤتمر الصهيوني السادس» في مدينة بازل السويسرية (23 أغسطس «آب» عام 1903) ففازت بقبوله بأصوات بلغ عددها ٬295 أما المعارضون فكان عدد أصواتهم 178 والممتنعون 99 صوًتا٬ وكان معظم المعارضين من الصهاينة الروس المّصرين على النص التوراتي «إذا نسيتك يا أورشليم٬ شلت يميني». ويومها أجابهم هرتزل بأنه سيكون «مثل موسى الذي قاد شعبه إلى هدفهم عبر انعطاف مؤقت (٬«(NACHTASYL لكن المشروع مات مع موت صاحبه في 3 يوليو 1904. * نكسة «قانون الأجانب» وكي لا نعود إلى الاشتباك القديم٬ فإن السرد يختبئ وراء تلك الفترة التي امتدت مدة قاربت ثلاث سنوات حين صدر قانون تحديد الهجرة٬ ثم تسفير من لم تنطبق عليهم شروط قبول الاستيطان الذي لاقى رفض واستهجان مؤيدي الحركة الصهيونية. وأطلق عليه «قانون الأجانب»ALIENS ACT يوليو 1905. وما يستحق الذكر أنه خلال تلك المدة التي استغرقها قانون المنع٬ قال بلفور (رئيس الوزراء في حينها)٬ في خطاب مسهب له في مجلس العموم بتاريخ 10 يوليو (تموز) ٬1905 قبل الموافقة على صدور القانون٬ معبًرا عن الاستياء لما وصلت إليه الأمور: «إنها مصيبة لا يظاهرها شك قد وقعت على البلاد نتيجة موجة أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود». هذه الألفاظ النارية التحريضية أطلقها أكبر مسؤول سياسي في البلاد ورئيس وزرائها قبل أن ينقلب رأًسا على عقب بعد عقد ونيف٬ ويمنحَمن منعهم من الاستقرار في بلاده حق الاستيلاء على بلاد غيره. ولكن المصالح اليهودية البريطانية آنذاك لم تغفل عن مخاطر ما تمّخضت عنه تلك الأحداث٬ فأصدرت مجموعة من كبار المتنفذين فيها عبر «كتاب اليهود السنوي» عام ٬1905 مذّكرة موقعة من 25 شخصية بارزة من ضمنها ليوبولد روتشيلد وكلود مونتفيوري وفيليب ماغنوس وروبرت كوهين وأوزموند دافيغدور ­ غولدسميث٬ تقول فيها: «إننا نأسف لما يحدث من تراكم المخاطر التي يثيرها بعض المثقفين اليهود (الصهيونيين) التي تشجع على الاعتقاد بما يلي: (أ) التفرد والانعزال عن بقية المواطنين البريطانيين. (ب) تحطيم الأسس السابقة المؤدية إلى الانصهار في المجتمع مثلما وضعه على سبيل المثال اللورد ماكولي في خطابه بمجلس العموم عام ٬1883 والذي أكد فيه رفع الحيف عن حقوق اليهود. (ج) رفع سقف التأجيج والكراهية بين طبقات المجتمع وأطيافه ومضارها خاصة بالنسبة إلى الطبقة العاملة المهاجرة من اليهود٬ مما يؤثر على مقاييس الوطنية لليهود الإنجليز. ثم زاد على هذا التصريح الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية هيرمان آدلر الذي أيد ما سبق بقوله: «منذ تحطيم الهيكل وانتشار اليهود في العالم٬ فإنهم (اليهود) لا يشكلون أمة بل نحن طائفة دينية» (المرجع – «الجويش كرونيكل»23 ٬ أبريل «نيسان» 1909). ولإعطاء فكرة عن ازدياد أعداد اليهود في بريطانيا نتيجة هجرتهم إليها٬ فإن الأرقام تقول إن عددهم عام 1880 كان بين 30 و40 ألف نسمة٬ وهم اليهود المستقرون فيها٬ والمتأقلمون مع سكانها٬ حتى يصعب التفريق بينهم لإقامتهم الطويلة ولعدة أجيال. وقبل أفول القرن الـ19 ابتدأت الهجرة اليهودية بأعداد كبيرة فاقت 100 ألف نسمة٬ وما إن حل القرن الـ20 وبحسب تحديد إحصاء عام 1901 حتى أصبح عددهم 300 ألف نسمة معظمهم من يهود روسيا وشرق أوروبا ووسطها٬ من أصل مجموع سكان بريطانيا البالغ نحو 40 مليون نسمة. * تشرشل ووايزمن.. والآسيتون * يذكر لويد جورج في مذكراته «ذاكرة الحرب» أن «إعلان بلفور كان مكافأة د. وايزمن على جهوده لاختراع ساعدنا على الانتصار في الحرب٬ وترك بصمة دائمة على خريطة العالم». وتكرر ذكر هذه الرواية مرات كثيرة٬ وقبلها البعض بأنها سبب يمكن الارتكاز عليه٬ لكنها حًقا من بنات أفكار لويد جورج٬ لأن وايزمن نفسه قال: «كان بودي أن تكون الأمور بتلك السهولة٬ لكنني لن أنسى الصعوبات التي زاملت مسار الإعداد من كٍد وعمٍل شاق٬ والخيبة أحيانا. فالتاريخ لاُيكتب بفرك مصابيح علاء الدين» (راجع مذكرات وايزمن «التجربة والخطأ»). ولكن مما لا شك فيه أن اكتشاف وايزمن الكيماوي ساعد الحركة الصهيونية على فتح أبواب مكاتب أصحاب القرار والمجتمع البريطاني المحافظ والمصّر على التقاليد على الرغم من صعوبتها. إذ كان وايزمن في نظرة ذلك المجتمع مجّرد مهاجر يهودي أجنبي٬ وإن كانت بعض العوائل اليهودية المتنفذة تنظر إليه بالمعيار نفسه. إلا أن هذا الحال تغير فجأة عندما جاء اختراع ليمنح وايزمن فرصة العمر٬ ويدفعه بقوة إلى دائرة الضوء وصنع القرار في عام ٬1915 الذي كان من أقسى أعوام الحرب التي عاشتها بريطانيا في مجهودها الحربي٬ سواء كان ذلك على الجبهة الغربية (في إيبر ونوشاتيل)٬ أو جبهات الشرق الأوسط٬ وتحديًدا نكسة حصار الكوت (في العراق) وفشل حملة الدردنيل (في تركيا). هكذا كانت الصورة قاتمة عندما قابل وينستون تشرشل٬ وزير البحرية حينذاك٬ وايزمن يوم 15 أبريل من ذلك العام. وجاء ذلك الاجتماع بعد نجاح تجارب وايزمن في إنتاج سائل الآسيتون المستخدم في صناعة المتفجرات بواسطة تخمير فضلات تصنيع الخمور٬ بدلاً من الطريقة الطويلة والمكلفة لتقطير الأخشاب. ويومذاك بادره تشرشل بضرورة إنتاج 30 ألف طن منه٬ وأمر بتهيئة كل ما يحتاجه للإسراع بتوريده. لقد كان الآسيتون العنصر الأهم لقلب موازين القوى وكانت الصناعة العسكرية بأمس الحاجة له٬ لإنتاج قنابل متطّورة عديمة الضوء والدخان. وبدأ العمل بالفعل في يوليو ٬1915 وبحلول يناير (كانون الثاني) 1916 أمكن توفير المادة المطلوبة. وعلى الأثر٬ انتدب وايزمن للعمل في وزارة الحرب البريطانية في لندن٬ تارًكا عمله الأكاديمي بجامعة مانشستر. وهكذا فاز وايزمن بحظوة كبيرة وكثرت علاقاته٬ وأصبح مستشاًرا متخصًصا ذا نفوذ مّكنه من اجتياز جميع المعوقات٬ فكتب إلى زوجة اللورد جيمس روتشيلد الذي غدا من أقطاب الحركة الصهيونية البريطانية حينها عن اختراعه يقول: «سيفيد قضيتنا في فلسطين٬ وأرجو أن يساعد الحظ النجمة اليهودية» (راجع: مراسلات وايزمن 18 يوليو 1915)