رواتب و تقاعد العراقيين حقوق مكتسبة لا يجوز التلاعب بها

يدور جدل في الاوساط السياسية حول حق الحكومة في تخفيض رواتب الموظفين و المتقاعدين. بل أن الخبير القانوني طارق حرب أفتى بحق الحكومة " التلاعب" في رواتب الموظفين و على المتضرر اللجوء إلى القضاء. على اعتبار أنه لا يوجد قانون لتحديد الرواتب



للآسف هذه التوجهات بما فيها رأي الخبير القانوني تفتقد للسند القانوني و تسعى فقط للتبرير عجز الحكومة و تخبطها. الرواتب الوظيفية يحكمها قانون الخدمة المدنية العراقي و سلم الرواتب الذي يقوم على اساسين الخدمة المدنية و التحصيل الدراسي. فمن كان حاصلا على شهادات عليا و لديه خدمة يحصل على راتب أعلى. الراتب هو الأجر المالي لقاء عمل الموظف و اشغاله درجة وظيفية محددة. فسلم الرواتب هو سند قانوني لا يجوز للحكومة " التلاعب" أو " التحايل" عليه. الراتب يجب أن يكون مجزياُ و مناسباُ للخدمة المدنية المقدمة و بعكسه تتحمل الحكومة المسؤولية القانونية عن" السخرة" أو "العبودية" و هي جريمة من جرائم المحرمة دولياً بل و تؤدي إلى تحمل الدولة العراقية المسؤولية الدولية. فالسخرة و العبودية جريمة دولية يجوز مقاضاة الحكومة العراقية عنها دولياً. أما الدستور العراقي فقد نص في المادة 22 اولاً على" العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة" و تخفيض الرواتب يؤدي الى حرمان الموظفين من فرصة الحياة الكريمة بل و تعرضهم للذلة و المهانة. من ناحية أخرى العلاقة بين الموظف و الادارة الحكومية هي علاقة غير متكافئة. فالموظف لا يقف على قدم المساواة مع السلطة الادارية لديها الكثير من الصلاحيات منها معاقبة الموظف. لذا يجب تقديم مصلحة الموظف على مصلحة الادارة . إي مراعاة الطرف الأضعف في العلاقة و ليس تمكين الطرف الأقوى أكثر مما يستحق. كما لا يجوز مطالبة الطرف الضعيف باللجوء الى القضاء و تحمل مشقة رفع الدعوى و تكاليفها المالية بعد حرمان الطرف الضعيف من مصدر رزقه الاساسي.

و على فرض إنعدام القانون فواجب الحكومة ليس استغلال الفرصة للاضرار بالعراقيين و حرمانهم بل واجبها هو تقديم طلب للبرلمان لتشريع قانون بما يضمن للعراقيين حقوقهم. فالحكومة أمنية على مصالح ابناءها بل و أقسمت اليمين الدستورية على ذلك.



بل إن قيام الحكومة متعمدة بالمساس بحق الموظفين من خلال "التلاعب" بسلم الرواتب هو إجراء غير قانوني و غير دستوري فالإجراء غير قانوني لعدة اسباب منها



أولاً: الضرر فقد تضرر الموظفين سواء أكانوا جامعيين أم موظفين عاديين من سلم الرواتب الجديد و الضرر يثير المسؤولية تلقائيا.



ثانياً: التعمد فالحكومة العراقية تعمدت اصدار سلم الرواتب الجديد بدون الاخذ بنظر الاعتبار القوانين النافذة و حقوق الموظفين



ثالثاً سريان القانون بأثر رجعي: لقد قامت الحكومة بتطبيق سلم الرواتب الجديد بأثر رجعي مخالفة الدستور و القواعد العامة في تطبيق و تفسير القانون. فسلم الرواتب الجديد يسري على من تعيين بعد صدوره و ليس على من تعيين قبل صدوره. أنا اعلم ان الدستور ينص على أن القانون لا يسري بأثر رجعي إلآ لو نص القانون نفسه على ذلك. لكن المحكمة الاتحادية قضت و في أكثر من مناسبة بعدم دستورية الجزء الاخير من المادة في حالة تسببه بضرر لمن يطبق عليهم لأن الاصل هو عدم سريان القانون بأثر رجعي. و بعكسه يصبح التخبط سمة غالبة في الحياة العامة –مع علمي بأن التخبط هو واقع الحكومة الحالية-



كما إن الأثر او النتيجة القانونية لا تُلغى أو تبطل بإلغاء القانون بل هي باقية ببقاء اطرافها. فالنتيجة القانونية و هي الراتب قائمة و باقية بغض النظر عن إلغاء القانون الذي انتجها أول مرة. فمثلاً ثروة الشخص لا تزول بوفاته – فهو مُنتج الثروة- بل تنتقل الى ورثته. الحقوق التقاعدية لا تنقطع بوفاة المتقاعد الذي أدى الخدمة بل تنتقل الى ورثته و هكذا.



أما تخفيض الرواتب التقاعدية أو حرمان اصحابها منها فهو مُنتهى التعدي على الحقوق المدنية المكتسبة. فالتقاعد حق مكتسب لا يجوز المساس به أو التعرض له. للأسباب التالية:



أولاً قيام المتقاعد بتسديد الاستقطاع التقاعدي من راتبه و قيام الحكومة بتخفيض الراتب هو استيلاء على اموال المتقاعد بدون وجه حق. فالمال مال المتقاعد و ليس مال الحكومة.



ثانيا أثراء الحكومة بلا سبب على حساب المتقاعد فالحكومة باستيلائها على رواتب المتقاعدين تكسب فوائد مالية دون سند قانوني يؤهلها لذلك.



أما الاحتجاج بالمادة (78 ) و التي تنص على أن "رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، يقوم بإدارة مجلس الوزراء، ويترأس اجتماعاته، وله الحق بإقالة الوزراء، بموافقة مجلس النواب." فهي حجة باطلة قانونا. فالمسؤولية عن تنفيذ السياسة العامة لا تعني تخويل رئيس الوزراء صلاحيات اصدار قرارات لها قوة القانون. و بعكسه لنص الدستور على أنه المسؤول التنفيذي و التشريعي. بل أن عبارة التنفيذ تعني ببساطة تطبيق ما شُرع و ليس التشريع. علماً أن التشريع القانوني من صلاحيات البرلمان حصراً بل أن الدستور أكد على مبدأ الفصل بين السلطات كأساس لممارسة الحكم في العراق كما جاء في المادة لمادة 47 و التي تنص على" تتكون السلطات الاتحادية، من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على اساس مبدأ الفصل بين السلطات." إن إي قرارات تشريعية صدرت طبقا لهذه المادة هي باطلة.



و للأنصاف فأنا لست من مؤيدي حرمان المسؤولين المتقاعدين من رواتبهم للأسباب الاتية:



أولا: الحرمان يخلق سابقة قانونية خطيرة تقضي بحرمان من أدى خدمة عامة من استحقاقه دون وجه حق. بمعنى أننا نفتح باب الحرمان على مصرعيه و نخول الحكومة الحق في حرمان من تشاء دون وجه حق. و الدليل أن اصلاحات العبادي بدأت بحرمان المسؤولين و انتهت بحرمان الموظفين العاديين.



ثانيا: الحرمان يشجع على الفساد فالمسؤول يعلم انه عند خروجه من المنصب سوف لا يجد مصدر رزق و بالتالي يكون لديه دافع للاستيلاء على المال العام و هنا أذكر أن أمين الصندوق في المصارف العراقية كان يتمتع بحق الحصول على 13 راتبا في السنة نظراً لاحتكاكه المباشر مع الاموال.



ثالثا: الخطورة فقد تعرض الكثير من المسؤولين لمحاولات اغتيال بل ان بعضهم قضى نحبه أو خسر أهله كونهم كانوا افراد حمايته و بالتالي حرمانهم من التقاعد هو انكار لما تعرضوا له و احتقار لتضحياتهم. فضلا عن حرمان عوائلهم من المعيل و من مصدر الزرق. أذكر هنا المرحومة عقيلة الهاشمي ، المرحوم سليم عز الدين و غيرهم. فلا يبدو من الانصاف القول هؤلاء لايسحقون تقاعد و لن تقدم الحكومة تقاعد لذويهم



أن الحل ببساطة هو كما فعلت الكويت وغيرها من الدول حيث يحصل كل الكويتيين مسؤولين أو غير مسؤولين على 80% من راتبهم و ومخصصاتهم بل ان الحكومة تزيد 10% كل سنة على التقاعد كغلاء معيشة. العراق دولة غنية و ليس فقيرة علما ان لبنان يزيد نسبة 10% كل سنة و يمنح رواتب تقاعدية للبنانين مسوؤلين و غير مسؤولين وبشكل مجزي. الأردن ، مصر ( على فقرها و ديونها) سوريا، قطر، البحرين، السعودية . بل غانا و جنوب افريقيا تدفع رواتب و تقاعد لكل ابناءها مسؤولين و غير مسؤولين. أن تصوير العراق على أنه دولة عاجزة و فقيرة و بالتالي لابد من حرمان ابناءه من حقوقهم هو تصور غير قانوني و بل و مثير للتسأل فأين ذهبت ميزانية العراق لعام 2015 و البالغة 105 مليار. فميزانية الاردن مثلا هي 11 مليار دولار تكيفهم رواتب و تقاعد لكل الاردنيين مسؤولين و غير مسؤولين و أمن و كهرباء وصحة وماء. الاردن يدفع رواتب و تقاعد بميزانية هي أقل من عشر ميزانية العراق! في حين العراق عاجز عن دفع رواتب لابناءه؟ هل هذه هي الاستشارة التي حصلت عليها حكومة العبادي؟



إن تقديم الاستشارة القانونية واجب يجب أن يؤدي بأمانة و إخلاص. المشورة القانونية ليست تحايل على القوانين و تطويعها لخدمة المسؤول تبريراً لأعماله و تصرفاته. كما أن تطويع القوانين و التحايل عليها لــــــن يُنهي الأزمة بدليل أن التظاهرات و الانتقادات لأداء حكومة العبادي يزداد يوماً بعد يوم.



يبدو لي أن رئيس الوزراء العبادي يعاني و بشكل كبير من نقص في الخبراء القانونيين و الاداريين و الاقتصاديين حيث يبدو أن هؤلاء الخبراء يجتهدون في استعداء الجميع. فسياسات العبادي المتخبطة تسببت في فقدانه لتعاطف الشارع العراقي و شركاءه في العملية السياسية على حدٍ سواء. فحكومة العبادي تلاحق الناس في ارزاقها بطريقة مستفزة و مسيئة فالرواتب و التقاعد ليست منحة تتمن الحكومة بها على من تشاء. بل هي حقوق مكتسبة يتمتع بها الناس في كل انحاء العالم. و العراق شأنه شأن إي دولة في العالم يقدم رواتب و تقاعد لكل ابناءه فهذا أبسط واجبات الحكومة.