جلست بجوارى فى مكان عام، وأطلقت كلمات الترحيب المعتادة هنا بين الناس فى اللقاءات العابرة. ثم نظرت إلى ولدى وابنتى، وسألت: من أين أنتم؟ أجبت، فلم تنتظر طويلا لتعرفنا بنفسها وتحكى حكاية تنوع خلفيتها هى. قالت إنها أمريكية من أصول يابانية وإفريقية. لا تعرف عن هوية الأم البيولوجية ولا عن الأب البيولوجى سوى كونهما من الأمريكيين ذوى الأصول الإفريقية، ولم يكن لهما دور فى حياتها بعد الميلاد غير وضعها فى ملجأ لرعاية الأطفال الرضع بعد ميلادها بأيام قليلة. سألتها المزيد من التفاصيل، فقالت إن أسرة يابانية أمريكية تبنتها وأن العجز البيولوجى عن الإنجاب لم يكن سبب التبنى. لها أخت ولدت بيولوجيا لأمها وأبيها قبل تبنيها هى بعدة سنوات. الامتناع الطوعى عن الإنجاب نظير تبنى أطفال لا أسر لهم والتحرر من اختزال الأسرة فى المكون البيولوجى وعلاقات الدم المباشرة مثلا السببان الرئيسيان، وجاء من بعدهما رغبة الأم والأب فى التمرد على المحيط الاجتماعى المحافظ لليابانيين الأمريكيين فى سبعينيات القرن العشرين. سألتنى هى إن كان من بين أولادى من جاء إلى الأسرة بالتبنى، فأجبت نافيا وشارحا أن ظروف حياتى لم تقارب بينى وبين التفكير فى التبنى. سألتنى هى إن كانت عوامل دينية أو ثقافية مؤثرة فى بلادى قد حالت بينى وبين التفكير فى الأمر، فقلت ربما، ووظفت عبارة «لست متأكدا» لكى لا أغلق باب الحوار أو أصدر إليها ألما إنسانيا لا مبرر له. قالت إن من بين أصدقائها المقربين مصرية أمريكية تعيش فى الولايات المتحدة منذ سنوات طفولتها الأولى. ثم سردت الكثير من التفاصيل عن حياة صديقتها التى قررت هى وزوجها المصرى الأمريكى أيضا الامتناع الطوعى عن الإنجاب وتبنى طفلين من أصول إفريقية، وعن المعاناة البالغة التى تعرضت لها الصديقة بسبب رفض أهلها لقرار التبنى. واصلت السرد، فصديقتها لم تتنازل عن رغبتها والأهل لم يتراجعوا عن الرفض الذى وظفت تعاليم الدين وعوامل الثقافة لتعليله. واجهتنى مجددا: ألست إذن من بلاد تختزل بها الأسرة فى المكون البيولوجى، ويظل بها تبنى الأطفال ظاهرة استثنائية لا يرغب بها غير القليل؟ لم أنكر، فقط أعدت على مسامع السيدة اللطيفة والصريحة كون ظروفى الشخصية لم تحملنى على التفكير فى الأمر. كانت قد انتهت من تناول الطعام الذى جاءت به إلى المكان العام، فنهضت لتغادره. ودعت أولادى، وودعتنى بكلمات الشكر المعتادة هنا بعد الحوارات العابرة. غير أن حوارنا لم يكن عابرا أبدا. هل نحن فى بلادنا عاجزون بالفعل عن تجاوز التعريف البيولوجى الضيق للأسرة؟ هل يدفعنا الهوس بعلاقات الدم إلى رفض التبنى والامتناع عن تحمل مسئولية أطفال لا أسر لهم، على الرغم من تفاقم ظاهرة أطفال الشوارع التى لا يتحدث عنها علنا هذه الأيام غير أبواق «الحلول العسكرية لكل الأزمات؟» ما هى معدلات تبنى الأطفال فى مصر اليوم، وهل تتحرك صعودا أم هبوطا؟ كيف يتعامل مجتمعنا مع الأطفال المتبنين؟ هل يواجهون الرفض فى بعض الشرائح الاجتماعية، بينما يقبلون فى غيرها؟ هل يدينهم البعض مسبقا دون ذنب ارتكبوه، بينما يقبلهم ويرفض انتهاك إنسانيتهم البعض الآخر؟ لماذا يغيب النقاش العام عن مسألة التبنى، وما هو هنا دور الخوف من سطوة محتكرى الحديث باسم الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد؟ أين ومتى تم تجاوز اختزال الأسرة فى المكون البيولوجى، وهل للتنوع العرقى فى بلدان كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وبعض البلدان الأوروبية وللاعتياد على الأسر ذات الأعراق المتداخلة علاقة بذلك؟ بعيدا عن القضايا الكبرى والشعارات الرنانة، ألا تختبر فى أمر كتبنى الأطفال إنسانيتهم فى الغرب التى نتهكم عليها يوميا وإنسانيتنا التى نتشدق بها يوميا؟ لم يكن أبدا حوارا عابرا.
|