تكملة لمقالاتنا السابقة تحت نفس العنوان، نتناول المحور الخامس في الحروب الشاذة التي تعيشها مهنة المحاماة، وهو:المحامي الذي ينجو بمُوكِّله من العقاب مُقابل الحصول على «المال الوفير»: تُعدُّ مهنة المحاماة من أشرف المهن وأنبلها وأكثرها قُدسيَّة، فهي تتشارك المسؤوليَّة مع الجهات القضائيَّة الأخرى لتحقيق العدالة من خلال جهود المحامين الذين يحاولون الوصول إلى الحقيقة وإعلاء صوت الحق، عبر إيصال صوت مُوكِّليهم إلى الجهات القضائيَّة، إلى جانب توفير كافَّة حقوقهم التي كفلها لهم النظام، في الوقت الذي لابُدَّ فيه أن يكون المُحامي، بمثابة المُتحدِّث الرسمي لمُوكِّله في جميع مراحل التحقيقات ووصولاً إلى مرحلة النطق بالحكم.واثباتا لما تقدم، يجب أدراج نص في مشروع قانون المحاماة الجديد وضمن أولويات واجبات المحامي، يلتزم المحامي فيه بمراعاة الأسس الصحيحة التي تبنى عليها الدعوى التي يروم التوكل فيها وعليه، تجنب المحاذير التي يجب تضمينها في نصوص القانون الجديد والتي يجب على المحامي الانتباه لها وتنفيذها والتي تجعله يفكر مليا قبل التوكل عن المتهم المذنب، تتمحور في الاتي:أولا/ الوازع الديني، يجب ان يكون حاضرا في ذهنية المحام، بحيث لا يكون مدافعاً عن مجرمين وقتلة، مخالفي الشرع والقانون وهذا ينسجم مع مبادئ ومصادر الدستور النافذ.أنَّ ترافع المحامي عن مُوِّكله يجب أن يكون وِفق المعايير المهنيَّة والأحكام الشرعيَّة، والمحامي إن كان يعلم يقيناً أنَّه يُساعد المُتَّهم القاتل او الإرهابي وغيره، فإنَّه من الناحية الشرعيَّة يأثم، كما أنَّ القانون يُجرِّم هذا الفعل، خاصَّةً عندما يشتمل ذلك على صناعة إفادات كاذبة او تزييف ورقة رسمية او عادية او مُستند أو تزويره أو تحضير بعض الأدلة غير الصحيحة أو المغالبة في ايهام وتضليل القضاء او سرقة أوراق من الدعوى خلسة وغيرها، ومن يُمارس هذا الفعل فإنَّه يعبِّر بذلك عن سوء سلوكه وعدم احترامه للمهنة، وعلى المُحامي مُساعدة مُوكِّله والدفاع عنه في حال كان الدافع لذلك مُتابعة إجراءات المُحاكمة ومُراعاةً لظروفه والنظر في بعض الظروف المُحيطة بالقضيَّة، إلى جانب وجود بعض الأسباب التي أدَّت إلى اتّهامه ودخوله غمار هذه القضيَّة.ثانيا/ أسباب نظامية تتعلَّق بنظام المحاماة، حيث أنَّ نظام المُحاماة في العراق، يجب ان يتفرَّد عن جميع أنظمة المحاماة في العالم بان يكون نظاما حذرا وينبَّه من الترافع في القضايا التي يثبت للمحامي فيها خطأ أو ارتكاب مُوكِّله للجريمة، لاسيما ان النصوص الحالية، تخلوا من أي موانع ومحددات صريحة.ثالثا/ سببٌ مهني، فالمحامي يبحث عن القضية التي يستطيع عبرها الحصول على حكم يحقِّق النفع لموكِّله وليس حُكماً يخسر فيه الدعوى، مما يؤثر سلبا على سمعته كمحامي ناجح.رابعا/ ان الدستور والقانون، كفلتا للمتهم الحق في الحصول على مُحاكمة عادلة، وليس بالضرورة أن يكون الدفاع عنه من أجل تبديل الحق إلى باطل أو الباطل إلى حق، والبحث عن دليل البراءة حتى لو كان زوراً وبهتاناً، بقدر ما هو التأكُّد من أنَّ عمليَّة التحري والضبط والتحقيق وإجراءات المحكمة تمت وِفق القانون، وأنَّ المُحاكمة والمرافعة تمَّت بأسلوبٍ عادلٍ ونظاميّ ووِفق الدستور والقوانين ذات العلاقة، ودور المحامي يقتصر غالباً على متابعة ذلك، ومنح مُوكِّله حقوقه النظاميَّة، ومُساعدته للحصول على حُكمٍ مُخفَّف؛ ان ايقن بعد التوكل والمضي بالدعوى ان موكله مقترف للفعل المنسوب اليه، ودور المحامي يكون اجتهاديَّاً يتعلَّق في البحث عن النصوص القانونيَّة، والظروف المُخفَّفة، إلى جانب السعي إلى الإصلاح أو إسقاط حق مُعيَّن بالتراضي. وأنَّ يقوم بممارسة الحق في الطعن بالأحكام والقرارات، وصولاً إلى التنفيذ العادل للأحكام بعيداً عن تنفيذ الحكم بأسلوب لا يتفق مع ما صدر فيه القرار القضائيّ، لذا من الضروري أن يكون المحامي شريكاً للقاضي في إحقاق العدالة المجتمعيَّة عبر القضاء.وبحكم الممارسة العملية في اكبر محكمة جنائية في العراق مختصة بقضايا الإرهاب والفساد، لاحظنا لهذه المهنة خفايا وممارسات سلبيَّة قد يُقدم على ارتكابها نفر ضال من المُحامين في سبيل الحصول على براءة مُوكِّله مهما كان نوع القضيَّة، أو سلوك المُوكِّل، كما أنَّ هناك من يصف هذا النوع من المُحامين ب "المحامي الكلاوجي"؛ كونه قد يتمكَّن من بعثرة الأوراق متى ما أراد ليجعل الحق باطلاً والباطل له أكثر من وجه ولينجو بمُوكِّله من العقاب، أو على الأقل الحصول على أقل عقوبة مُمكنة، وذلك مُقابل الحصول على أتعاب قد تختلف بحسب حجم القضيَّة ووضع المُتَّهم، والبُعد الإعلاميّ الذي سيُحقِّق له الشُهرة التي ينشدها.ويبقى السؤال المطروح للنقاش متمحوراً حول ماهيَّة الأسباب التي تدفع المحامي للدفاع عن مُتَّهمٍ ظالم تُثبت كُل الأدلة أنَّه يستحق العقوبة؟وللإجابة على هذا التساؤل، لابد من التذكير بانه؛ من الصعب جداً أن تتبدَّل قناعات المحامي خلال سير إجراءات التحقيق ضدَّ مُوكِّله؛ لأنَّ ذلك يعني أنَّه لم يقرأ ملف القضية بشكل صحيح، وبحسب قانون المحاماة النافذ، فإنَّه لا يجوز للمحامي أن يتنازل عن الوكالة دون موافقة مُوكِّله؛ لأنَّه بذلك يكون قد غرَّر به، كما وأنَّه عليه التأكَّد من صِحَّة الأُسس التي تُبني عليها الدعوى؛ كي لا تتغيَّر أو تتبدَّل قناعته، ففي منتصف الطريق لا يجوز له كعرف مهني، التنحِّي عن الدعوى، إلاَّ لأسباب معروفة، وفي جميع الأحوال لا يجوز للمحامي التخلي عن الوكالة على نحو يضر بموكله مثل ( تفويت مواعيد إجراء أو طعن أو اعتراض أو تفويت مواعيد حضور أو خبرة أو غيرها مما يمكن تداركه )ويفضل أن تكون قبل قبوله القضية وليس بعدها.وفي نطاق ما تقدم، أحياناً تكون هناك قناعة منقوصة لدى المحامي، في كون هذه الواقعة واقعة جرمية أم لا، كأن يُقدِّم أهل الجاني أو المتهم بعض الوقائع والمستندات؛ ليصبح لدى المحامي تصور ابتدائي أنَّ الجاني مظلوم، وهذا في الحقيقة أمر قد يحدث، وفي النهاية فإنَّ المحامي بشر وقد يجتهد، والاجتهاد البشريّ يعتريه أحياناً اندفاع أو حماس أو سوء ظن او رؤية مشوشة، وربَّما إنَّ الادعاء ومجريات التحقيق بُنيت على ضغوط، وبالتالي فإنَّ صوت الشارع قد يطغى على صوت العقل والتفكير أحياناً، وقد يستسلم المحام لهذا الضغط ويبدأ بشحن العبارات في هذا الاتجاه، وقد توجد أحياناً أدلةً تفصل خلال فترة التقاضي وتتضح فيها بعض الأمور، إلى جانب وجود مستندات قد تكون مغلوطةً وغير حقيقيَّة، وكذلك وجود شهود قد يتضح فيما بعد أنَّهم شهود حق أو زور؛ لذا فإنَّ دور المحامي هو إظهار الحقيقة بمساندة الجهات القضائيَّة، ثمَّ تكون المحاكمة هي الفيصل في الحكم العادل، ولمهنة المُحاماة آداباً عامَّة مثلها في ذلك مثل باقي المهن الأُخرى، ومن أهم أساسيَّات مهنة المُحاماة أن يُظهر المحامي حقيقة القضيَّة أمام مُوكِّله، والمُحامي النزيه لا يقبل أيَّ قضيَّة يعترف فيها مُوكِّله أمامه بارتكاب هذا الجرم أو ذاك، سواءً في فترة توقيفه أو في فترة التقاضي، بالرغم انه ليس دائما تكون الموافقة على الترافع؛ معناها، التأكيد أنَّ المُتَّهم بريء، ولكُلِّ قضيَّة ظروفاً مُشددة وأُخرى مُخفَّفة للعقوبة، ومن حق المحامي أن يستخدم الظروف المخففة للعقوبة ووفق الضوابط الشرعية والقانونية والمهنية، ويُعدُّ ذلك من حقوق المُتَّهم، والفيصل هنا هو القضاء وليس المحامي؛ على اعتبار أنَّه طرف يُمثِّل العدالة ولا يعني وجوده أنَّه يدافع عن الظلم ضد الحق، بل هو يُساعد في إظهار الحقيقة ومُحاربة الجريمة.والمحام الذي يقوم بالدفاع عن قاتل او مجرم او شخص ليس محقا في دعواه، ويبدأ باختلاق الحيل لإنقاذ ذلك الشخص، وهناك من يتعمد التصدِّي للقضايا التي يُثيرها الإعلام عن متهمين كبار فاسدين، من أجل لفت الأنظار إليه، وهذا النوع من المحامين يرسمون صفحة سوداء لمهنة المحاماة فيخونون ضميرهم ومصلحة وطنهم ومستقبل مجتمعهم؛ للحصول على المال.وهناك ضرورة ان يتضمن مشروع قانون المحاماة الجديد نصوص تؤكد على، ان المحامي الناجح الشريف هو من يُثبت نفسه ويُسوِّق لها بترافعه المُحكم وانضباطه المهني، إلى جانب حُسن اختياره للقضايا، إضافةً إلى مراعاته المحاذير التي سبق وصفها في اعلاها، ومن المهم ان تكون هذه النصوص واضحة.وتأكيدا لما سبق ذكره؛ على النقابة ان تضع عقوبات رادعة في نص القانون الجديد بحق المحامي الذي يدافع عن المُتَّهم القاتل والظالم والمسيء والمتجاوز والمذنب وهو يعلم يقينا بذلك، من اجل الحصول على المال وتحقيق الشُهرة، لضمان عدم وجود مُحامين ينصرون الظالم على المظلوم ويتخصَّصون في النصب ومُتمرِّسين في الإساءة للمهنة ولديهم القدرة على تضليل القاضي وكسب القضيَّة، والدافع لبعض المُحامين لفعل ذلك، انهم يتطلعون لمن سبقهم في سلك المحاماة، ويريدون اختصار الوقت للوصول إلى الشهرة، حتى لو حقَّقوا ذلك بالدفاع عن الظالم مُقابل مبلغ كبير من المال، بسبب ضعف الوازع الديني والمهني والرغبة في الظهور الإعلامي.