في رسائل الإجتياح التركي –

 

يندرج موضوع الأزمة العراقية- التركية الأخيرة، الناجم عن اجتياح القوات التركية للأراضي العراقية في الدائرة الإسلامية، وهي إحدى الدوائر الخمس الأساسية التي حدّد الرئيس التركي الأسبق سليمان ديمريل حدودها وأبعادها. والدائرة الإسلامية تقوم على كون تركيا هي الجسر الموصل بين أوروبا والعالم العربي، وهي دائرة مهمة وأساسية، خصوصاً وأنها تشتبك بالدوائر الأربع الأخرى ونعني بها: دائرة الشرق الأوسط المتمثّلة بالصراع العربي – الإسرائيلي وهذه الدائرة ترتبط بدائرة شرقي البحر المتوسط، تلك التي دفعت تركيا منذ وقت مبكر لإقامة علاقة دبلوماسية كاملة مع “إسرائيل”، وهي أول بلد مسلم اعترف بها في العام 1949  وأبرم معها معاهدات عسكرية وأمنية أهمها معاهدة ترايدنت لعام 1960  إضافة إلى علاقات اقتصادية وتجارية واسعة.

كما تشتبك الدائرة الإسلامية مع دائرة القوقاز وآسيا الوسطى التي هي مسرح صراع ونفوذ بين تركيا وإيران، وكذلك مع الدائرة البلقانية التي كانت بؤرة نزاعات مسلحة بعد انقسام يوغسلافيا وتشظّيها، ولاسيّما بعد الدور الصربي الجديد، وكذلك الحرب في كوسوفو، وعلاقة ذلك بالروس وتعارضاتهم مع خطط حلف الناتو.

وكانت هذه الدوائر الخمس قد لقيت اهتماماً من أحمد داود أوغلو ورجب طيب أردوغان منذ فوز حزب العدالة والتنمية في العام 2002   خصوصاً في الولاية الأولى للحكم، الذي اعتمد على السعي لتصفير المشاكل مع دول الجوار، بالاستناد إلى الدبلوماسية المتعدّدة الأبعاد والمتناغمة على تنمية داخلية، تقوم على معادلة الحرية والأمن، ثم النأي بالنفس عن ولوج الحرائق المشتعلة في المنطقة، بما فيها الامتناع عن دخول التحالف الدولي لاحتلال العراق العام 2003  وعدم تسهيل مهمته عبر الأراضي التركية.

لكن مثل تلك التوجّهات لم تستمر، بل انقلبت ضدها إثر اندلاع موجة الربيع العربي، حيث وضعت تركيا تلك المبادئ على الرف، وتحرّكت مدفوعة بغريزة داخلية مكبوتة، بإسقاط رغباتها على الواقع، والسعي للعب دور لا يقل عن دور القوى العظمى في المنطقة باعتبارها أحد أذرع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وشعرت بأن نفوذها يمكن أن يمتد إلى تونس وبعد ذلك إلى مصر بدعم التيار الأخواني، وصولاً إلى ليبيا، لكن دورها في سوريا، كان هو الأكبر والأخطر بحكم الجوار والحدود المشتركة والعلاقات التاريخية.

والأمر ليس بعيداً عن العراق والأحلام التركية القديمة التي سرعان ما تتحفز لأي مؤثر، أو مناسبة، حتى يسيل لعابها سريعاً. والعراق كما تعتقد تركيا مجال حيوي لها، ولهذا تريد بسط نفوذها عليه، تارة بزعم وجود حزب العمال الكردستاني PKK   وأخرى لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، خصوصاً بعد احتلاله للموصل في 10 يونيو( حزيران) العام 2014  وهما يهدّدان أمنها، وثالثة لإحداث نوع من التوازن الإقليمي مع النفوذ الإيراني، ورابعة  الزعم بحماية تركمان العراق، لكن ذلك ليس بمعزل عن أطماع قديمة – جديدة بشأن ولاية الموصل التاريخية، والتي تتنشّط الذاكرة التركية بشأنها كلما كان العراق ضعيفاً ومفككاً، علماً بأن مسألة ولاية الموصل، حُسِمَ أمرها عبر مجلس عصبة الأمم، العام 1925  إلاّ أن تركيا التي اقتطعت لواء الاسكندرونة السوري لا تريد إغلاق ملف الموصل الذي ظلّ مفتوحاً، وما إرسال  قواتها إلى منطقة بعشيقة 30 ك يلومتر شمالي الموصل، سوى التلويح بحضورها إزاء أي تطور قد يحصل، وهي بذلك تريد إرسال أكثر من رسالة إلى الأطراف المختلفة في العراق وخارجه.

الرسالة الأولى إن ذراع تركيا طويلة، وهي تصل إلى أبعد مما نتصوّر، فها هي تسقط طائرة روسية على الحدود السورية – التركية، بل وتحذّر روسيا من ردود فعلها، وفي الوقت نفسه تجتاح الأراضي العراقية دون حسيب أو رقيب، بل وتصرّ على عدم الانسحاب، وحتى عندما تثار ضجة عراقية حول الموضوع، وإن كانت محدودة نسبياً، بسبب غياب الوحدة الوطنية، فإنها تتذرّع بوجود اتفاقية أمنية وعسكرية تسمح لها بذلك، بل وتناور أكثر حين تقوم بإعادة انتشار قواتها، متناسية إن ذلك يتم بمعزل عن الحكومة العراقية ودون تنسيق أو تعاون معها، بل إن هذه الأخيرة طالبتها بالإنسحاب وتقدّمت بشكوى إلى مجلس الأمن للضغط عليها لسحب قواتها من الأراضي العراقية.

الرسالة الثانية موجّهة للأطراف العراقية المختلفة، فهي  تريد أن تقول لها إن أحفاد الإمبراطورية العثمانية التي حكمت العراق والعالم العربي طوال أربعة قرون ونيّف، ما زالوا يستطيعون أن يكونوا لاعبين في الساحة العراقية، وهم ضد التمدّد الفارسي والنفوذ الإيراني، وبالتالي فتركيا  يمكنها خلق نوع من التوازن بحيث لا يقع العراق تحت النفوذ الإيراني بالكامل.

وإذا كانت الشيعية السياسية الحاكمة مدعومة من جانب طهران، فإن تركيا بإمكانها دعم السنية السياسية، سواء المشارِكة بالحكم أو خارجه من المعارضين للعملية السياسية، يضاف إلى ذلك فإن خلاف إربيل مع بغداد، يلقى تجاوباً تركياً لمطالب الإقليم إزاء بغداد ، سواء بخصوص انتاج النفط وبيعه ومروره عبر الأراضي التركية أو بحجم التبادل التجاري والاقتصادي والتنسيق الأمني. ليس هذا فحسب، بل إن الرسالة التركية للداخل العراقي والموجهة إلى جميع الفرقاء تلفت النظر إلى حساب موقف تركيا على خلفية التعامل مع تركمان العراق، إضافة إلى موضوع كركوك ومصيرها الذي لا يزال معلقاً حسب المادة 140  من الدستور العراقي، فلم تتم إعادة من تم تهجيرهم أو تعويضهم أو إجراء إحصاء سكاني ليعقبه استفتاء شعبي.

الرسالة الثالثة تخص احتمالات إجراء تغييرات جيوبوليتيكية وستراتيجية، خصوصاً بعد تحرير الموصل، وهو موضوع ظل مؤجلاً بسبب الاختلافات، والأمر يتعلّق بخطة ما بعد داعش ومستقبل الدولة العراقية، علماً بأن واشنطن تدعم بعض الأطراف العراقية لإقامة إقليم سنّي، والأمر يصب في صلب اهتمام تركيا وتنسيقها مع أطراف عراقية، وقد استضافت تركيا مؤتمرات واجتماعات لقوى مؤيدة لمثل هذا التوجّه، الذي تجد فيه وسيلة للخلاص من التسلّط والهيمنة والتهميش الذي تتّبعه الشيعية السياسية الحاكمة،فضلاً عن إحداث نوع من التوازن الطائفي.

الرسالة الرابعة، هي إن وجود قوات تركية سيكون عنصر تحذير لقوات الحشد الشعبي، ولاسيّما في المناطق الشمالية، أي الموصل تحديداً، وهي منطقة لا تزال الخرائط التركية، والتي نتشرت من قبل جريدة حريت قبل سنوات وأعيد نشرها في أكثر من وسيلة إعلام تعتبرها ضمن حدودها، على الرغم من مرور أكثر من 90  عاماً على حسم هذا الموضوع الذي هو بالأساس كان مفتعلاً وضعته بريطانيا على بساط البحث لإجبار العراقيين على التوقيع على اتفاقيات ومعاهدات مذلّة، سواء بالقبول بالانتداب وفيما بعد بتوقيع اتفاقية العام 1922 بخصوص النفط أو غير ذلك.

تزعم تركيا إن توغّل قواتها داخل الأراضي العراقية (نحو ألف جندي و25  دبابة) ووصولها إلى منطقة بعشيقة شمال العراق (التابعة لمحافظة الموصل) هو ضمن اتفاقية أمنية للبلدين تقضي بتدريب قوات عراقية كردية تابعة لإقليم كردستان (البيشمركة)، وعلى افتراض وجود اتفاقية أمنية للتعاون والتنسيق بين أنقرة وبغداد، فإنه لا يحقّ لها دخول الأراضي العراقية بقرار منفرد ودون علم وتنسيق الحكومة العراقية، والأمر يتعلق بمبادئ القانون الدولي التي تقضي باحترام حرمة الحدود ووحدة الأراضي وعدم التجاوز عليهما، تحت أي ذريعة أو مبرّر حتى وإن كانت مكافحة ” الإرهاب الدولي”، وإذا كانت تركيا جادة بالفعل، فعليها الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي بخصوص مكافحة الإرهاب الدولي، ومنع إمرار النفط عبر أراضيها لحساب تنظيم داعش، مثلما عليها التنسيق مع الحكومة العراقية المتضرّر الأكبر ومعها سورياً من الإرهاب الدولي، خصوصاً وإن داعش تحتل مناطق واسعة من البلدين. ما الذي دفع تركيا لاجتياز الأراضي العراقية؟ وهل فكّرت بالعواقب القانونية والسياسية والاقتصادية التي ستنجم عن ذلك الاجتياح؟ وهل يكفي القول إن تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني يهدّدان أمن تركيا لكي تسمح لنفسها باختراق دولة أخرى؟ أعتقد إن الرئيس أردوغان بدأ بالتخبّط في سياساته منذ مطلع العام 2011  وحتى الآن، ولاسيّما في علاقات تركيا الدولية، وإلاّ كيف يمكن لتركيا أن تغامر بكل رصيدها الذي حاولت أن تتباهى به، بوصفها تقدم نموذجاً عصرياً للإسلام متسامحاً ومنفتحاً؟ ثم كيف لها أن تفسّر رغبتها في تعزيز العلاقة مع بغداد، وفي الوقت نفسه تقوم وعلى نحو مفاجئ باجتياح الأراضي العراقية ؟يكفي القول إن هناك أكثر من 3200 شركة تركية تعمل في العراق، وإن نحو 1200 منها ضمن إقليم كردستان، ولاسيّما في إربيل ودهوك، وفي مجالات مختلفة، أما حجم التبادل التجاري فإنه يتجاوز 20 مليار دولار سنوياً، إضافة إلى أن صادرات النفط العراقية عبر الخط العراقي – التركي الذي أنشئ في العام 1977  وبطول 1048  كم  ليصل إلى ميناء جيهان التركي يستوعب حالياً نسبة 20  بالمئة من صادرات العراق النفطية. كيف جاز لتركيا أن تجازف بكل ذلك وأن تستعدي بلداً جاراً، خصوصاً وهي تقول إن نفوذ خصمها التقليدي ونعني به إيران كبير فيه، فهل فكّرت إنها بتصرفها هذا تدفع أوساطاً  أخرى للتقارب مع إيران وتضرّ أيّما ضرر بالمستقبل العراقي، ناهيك عن أن سلوكها هذا يخالف قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فلم يعد في عالم اليوم مقبولاً  مثل هذا السلوك في ظل توازنات كبرى، لا بدّ من أخذها بالحسبان !؟ وبعد كل ذلك فتركيا ترتبط مع العراق بروابط مشتركة مثل الدين والتاريخ وهي دولة جوار، ومن مصلحتها إقامة علاقات متكافئة أساسها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وإلاّ فإنها ستخسر لا العراق وحده، بل العرب أيضاً، ولن تلقى حليفاً لها في المنطقة، خصوصاً إذا ما استمرّ نهج الغرور واللاّمبالاة.