خواطر في ذكرى السياب

مات السياب وهو يتقيأ دماً في المستشفى الأميري في الكويت ، وربما أسى السياب وكآبته الدائمة وشكواه ظل يلاحق ظل المكان الذي ولد فيه وانشد في مرابعه اجمل القصائد ، وكان ملهمه حتى وهو في مهاجر الشفاء عندما يحدث زوجته التي جاءت لتزوره في مشفاه البعيد : لو جئت في البلد البعيد إلى ما كمل اللقاء .........الملتقى بك والعراق على يدي هو اللقاء ...

فلم يهنئ المكان براحة منذ أزمنته البعيدة وظل يتقيأ دماء أبناءه في ساحات الحروب والزنازين وحدائق العشق ودمعة الفقر التي ربما وحدها من حولت هذا الأسى المؤسطر من أيام نواح قيثارة شبعاد حتى منازل الصفيح في مناطق العزل الصحي في منطقة التاجي أطراف بغداد إلى أناشيد من الأمل والحلم في سبيل غد رفعت من أجله أوسع اليافطات التي كانت تعدنا بأنهر العسل والحياة الكريمة ، وتوزعت بين الوحدة والحرية والاشتراكية ، ووطن حر وشعب سعيد ، وكل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء . وحتى الحشاشين كانت لهم يافطة أعرض من لفافة التنباك تقول ( عشها الآن .. ونُمْ مع الآذان )...

لم يجد الشاعر الخصيباوي ( نسبة إلى قضاء أبى الخصيب الذي ولد فيه ) أي بارقة أمل وسعادة لحياته وحياة من حوله ، لهذا ظل يمارس رؤيا النكد ويتوقع العثرات ، مما جعله ليكون مشاكساً ولا يملك مستقراً للانتماء والغرام والهواية ، شيء واحد لم يتخلى عنه بدر ، هو تطوير ملكة الشعر لديه ،وربما مزاجه المتقلب وتشاؤميته هو من طور مادته الشعرية وجعله رائدا ومحدثا في صناعة القصيدة العربية الحديثة التي لم يكن يُجبر في إيضاح رؤاها والتنظير لها سوى ما كان يعتقده اكتشافا وتميزا يضيف أليه المزيد من الإعجاب يقلل بعض الشيء من وطأة معاناته الروحية والجسمانية والمادية.

هذه الرؤية ظلت واحدة من ملازمات وجوده حتى بعد وفاته ، وكم أراد النقد أن يُخرجَ السياب من هذه النظرة والمساحة الرمادية ولو بوصة واحدة ، لكنهم لم يستطيعوا لأن الشاعر لم يمنح الدارسين وحتى على مستوى القراءة النفسية والتأويلية مساحة يكتشفون فيها شيئا من فسحة التفاؤل والمديح لجمال الروح السعيدة لأن أمطار السياب كانت تغرقنا بدهشة الأنين لشيء خفي صنع المعجزة الشعرية ولكن عبر مسار واحد هو مسار الألم.

بعد 2003. وفي أول مرابد زمن ماسمُي ( عراق ما بعد شهداء نهر جاسم والمقابر الجماعية وأطفال حلبجة ) .

كنت قد ذهبت مساءً لأزور التمثال البرونزي للشاعر ومعطفه الثقيل لأني مأسور بقصيدة طوطمية جاءت إلينا من تراث البحر الكاريبي تقول : المساء الذهبي يكشف اعمق ما عندنا من هاجس ، وفيه الشاعر يظهر هوسه ويصعد إلى السماء دون سلالم واجنحة من صقور ضخمة .

قلت في المساء سأعرف مشاعر الشاعر الجديدة ،وربما ينتصر على النقد وارى سعادة ما بين أصابعه النحيفة التي يمدها بارتعاش خفيف كما يمد العازف أصابعه على مفاتيح البيانو ...

وكم كانت المفاجأة عندما وجدت إشراقة ابتسامة على الوجه المتأمل من الآم القفص الصدري ..

وضعت الابتسامة في جيبي كمن يضع ماسة ثمينة وعدت أدراجي كي اخبر ضيوف المهرجان باكتشاف سعادة متأخرة لشاعر المطر ..

في بوابة الفندق ..وجدت هرجا ومرجا ونقاشات طويلة وعريضة وعالية بين حراس بوابة الفندق وبعض المكلفين بالتشريفات ..والسبب إن أحدهم شك في كيس يحمله أحد الأدباء وهو يهم بدخول الفندق ، ويظن انه شراب منكر ..

قلت : المهم انه ربع عرق وليس مفخخة ، وهذا أهون ، ثمالة ليلة ولا مقتل أبرياء.

رد الحارس : والله لو كانت مفخخة أهون .انه منكر أيها الرجل .

قلت ــ ربما أنت على حق ، انه منكر !

وهكذا تمت مصادرة القنينة ، نظرت إلى الوراء أتخيل حالي وأنا أقع ضحية تطفلي وتساؤلي ونظرات الشرر التي ظلت تلاحقني من قبل حراس بوابة الفندق ،فأطل علي وجه الشاعر الذي ينتصب بقامته النحيفة في المكان القريب من الفندق : ليقول : كنت ابتسم لأجل هذا المشهد الذي ستراه أنت بعد لحظات ....