كارثة العراق بقادتهِ

ذكر الإعلامي جلال جرمگا في مقالته التي نشرها على موقعه " مجلة الگاردينيا" في الثامن عشر من ايلول 2015 حول رحلته الأخيرة الى مصر وزيارته لمكتبة الأسكندرية ان الرئيس الأسبق للعراق صدام حسين كان قد تبرع سنة 1989م بمبلغ واحد وعشرين مليون دولار لإعادة بناء المكتبة، حيثُ ابدى حينها الرئيس المصري حسني مبارك وقرينته سوزان اللذان كانا في زيارة للعراق دهشتهما لحجم المبلغ الذي يعتبر اعلى تبرع بين الرؤساء والملوك العرب في وقت كانت ظروف العراق فيه صعبة جداً بعد خروجه من حرب دامت ثمانية سنوات.
وخلال اعادة بناء مكتبة الأسكندرية انقطعت العلاقات بين مصر والعراق بعد الثاني من آب سنة 1990م بسبب دخول العراق الى الكويت وتبني مصر/ حسني مبارك قيادة الدول العربية الرافضة لقرار الرئيس العراقي الأسبق.
 وفي حفل الأفتتاح الضخم سنة 2002م الذي حضرته الوفود من جميع انحاء العالم لم يتم دعوة العراق اضافة الى عدم ذكر اسمه على لوحة الشرف للدول المتبرعة والتي تصدرت واجهة المكتبة. هذا ما ذكرهُ الأستاذ جلال جرمگا في مقالته.
لقد حكم العراق منذُ سقوط الملكية ولحد الآن سبعة رؤساء، كانوا معظمهم من القادة العسكريين من المفترض ان يكونوا داخل ثكناتهم العسكرية كجنود محترفين للدفاع عن الوطن فقط، لكنهم تسنّموا مناصبهم من خلال الإنقلابات العسكرية التي أطاحت بالدستور أو في أحسن الأحوال أهملتهُ، ولم يمنع هذا الأمر من أن يعتبرهم البعض رموزاً وطنية وهذا رأيهم الذي نحترمه،  كما وان البقية الباقية من رؤساء العراق المدنيين تبؤوا الموقع الأول في الدولة أما عن طريق تلك الإنقلابات أو عن طريق المحتل الأجنبي.
 ان تصرف الحكّام من خلال الإنفراد بالحكم وصناعة القرار كلّف العراق ثمناً باهضاً قد يصل (لا قدّر الله) الى اختفاء العراق الموحد من على خارطة العالم!! ما لم تتدارك القوى الوطنية الخالصة والنقية من الأيديولوجيات الحزبية الأمر وبدعم مطلق من جماهير الشعب لإعادة هيبة الدولة بمؤسساتها الثلاثة وتفعيل الدستور.
 لقد كشفت الأنباء خلال فترة تظاهرات الشعب المصري عن ثروة حسني مبارك ومنها تحويله صك الى حسابه بمبلغ خمسين مليون دولاراً كان قد تبرع به العراق لإعادة بناء دار الأوبرا المصرية التي احترقت بالكامل سنة 1971م وتم اعادة بناءها سنة 1988م (في الوقت الذي تكفلت فيه اليابان بمصاريف اعادة بناء الأوبرا المصرية)!! أي ان تبرع العراق لم يتم صرفه لإعادة بناء دار الأوبرا المصرية، وفي ذات الوقت كان فيه الشعب العراقي احوج الى مبلغ التبرع لإطعام اطفاله تماشياً مع المثل العراقي القائل: " ما يحتاجه الدار يُحرَم على الجامع"، حيثُ أثار تبرعه في نفسي الشجون والألم متذكراً حادثة اخرى سأسردها ليس لغرض الطعن بالرئيس الأسبق، فهو الآن امام رب كريم وهو أعلم العالمين بنوايا الجميع، لكنني أطرحها لتكون درس لكل من يتبوء منصب وكيف يجب ان يكون اميناً على رعاياه وأموالهم.
 كذلك فان الغاية من طرح الموضوع لا تعني بيان مساوئ فترة من فترات الحُكم في العراق، حيثُ أننا نتذكر جيداً ما وصل اليه العراق من تقدم وإزدهار في السبعينيات من القرن المنصرم وبشهادة معارضي الحُكم (وقعت بين يدي صحيفة لأحد أحزاب المعارضة العراقية وانا في المهجر سنة 1999م وقرأت فيها تقريراً بيّنَ بان الدخل السنوي للفرد العراقي في سنة 1979م وقبل الحرب العراقيةـ الإيرانية كان من أعلى النسب في العالم)!!، حتى وقت استلام الرئيس الأسبق صدام حسين الموقع الأول في الدولة وتصفيته لخيرة اعضاء حزبه ودخوله الحرب مع ايران، عندها بدأ العد التنازلي لإنهيار الإقتصاد العراقي وتدهور المستوى المعاشي وإنخفاض المستويات العالية التي وصل اليها العراق في جميع مجالات الحياة كنتيجة حتمية للحرب.
طرحتُ المقدمة أعلاه لبيان أسباب كتابتي عن هذا الموضوع والغاية منه، وبخطابٍ وطني خالي من التشهير والطعن يضع مصلحة الوطن فوق كل إعتبار شخصي أو حزبي، لذا يلاحظ القارئ الكريم محاولتي للإبقاء على إستخدام المفردات البروتوكولية (الألقاب) أمام أسماء الأشخاص الوارد ذكرهم كعبارات (الرئيس الأسبق، الوزير والأستاذ ـ ـ الخ) لدعم وإرساء لغة التخاطب الإعلامي المهني، والتي ربما لا يروق للبعض من القرّاء إطلاقها على من ذُكروا في هذه المقالة.    
 في نفس تلك الفترة التي تبرع بها الرئيس الأسبق صدام حسين لإعادة بناء دار الأوبرا المصرية تم تأجيل بناء مشروع دار الأوبرا العراقية من قبل وزير الثقافة والأعلام حينذاك لطيف نصيف جاسم بأمرٍ من الرئيس العراقي الأسبق والذي تبلغ كلفته خمسة وخمسين مليون دولار لعدم توفر المال اللازم لبنائه (حسب ما قاله الوزير اثناء اجتماعه معنا في وقتها) اي بفارق خمسة ملايين دولار فقط عن ما تبرع به العراق لمصر (لم يتم بناء دار الأوبرا العراقية وأوجل المشروع الى أجلٍ غير مسمى، بعد أن جهزت كافة الخرائط من قبل شركات هندسية عالمية وتم دفع تكاليف التصاميم لها بالكامل)!!(1)، وتبرع أيضاً الرئيس الأسبق وبفترة متقاربة بمبلغ ثلاثين مليون دولار لليمن بمناسبة الوحدة اليمنية، وكنّا كشعب عراقي نعاني ما نعانيه من نقصٍ في جميع الخدمات ومنها المواد الإحتياطية للسيارات والأجهزة المنزلية ومواد البناء وكل ما يتعلق بوزارة التجارة وكان على المواطن العراقي التسجيل والإنتظار لسنوات للحصول عليها أو ربما لا يحصل عليها مطلقاً.
 المهم كان لي أحد الأقارب بحاجة ماسة الى تبديل اطارات العجلات لسيارته الفولكس واكن البرازيلي وطلب مني المساعدة فاتصلت باحد الأشخاص الذين أعرفهم وكان رئيسا لإحدى المؤسسات!!، وطلبت منه المساعدة فارسلني بتوصية الى رئيس المؤسسة المسؤولة عن تجهيز الإطارات.
 عند لقائي برئيس المؤسسة رحّب بي بحرارة وأعتذر لي قائلاً: " والله لا اعلم ماذا اجيبك وانا خجلان من الأستاذ وبلغه تحياتي فلا استطيع اعطاءك اكثر من اطارين فقط لإننا لا نملك في المخازن الكثير منها، وانت تعلم في بعض الأحيان تردنا كتب رسمية من دوائر مهمة في الدولة علينا تجهيزهم بالعدد الذي يطلبوه وإلا ستكون هنالك مشكلة"، فقلتُ له كيف تسير السيارة بإطارين فقط!!، فرد علي وقال: حاول تدبير الإطاريين الأخريين من السوق السوداء (تصوروا رئيس مؤسسة حكومية يشجعني على شراء مادة معينة من السوق السوداء)!!، فأجبته بان الإطارات في السوق السوداء (يابسة) نتيجة رداءة التخزين وغير صالحة، لكنهُ أردف مكملاً كلامه وقال بالحرف الواحد والخوف واضح على وجهه مما سيقوله "لو أنّ السيد الرئيس الله يحفظه انطانه الثمانين مليون دولار اللي تبرع بيها لمصر واليمن چان وزارة التجارة غرّكت السوك بكل ما يحتاجة العراقيين من مواد منزلية وادوات احتياطية ومچان هسة حضرتك گاعد يمّي وآني خجلان ما أكدر البي طلبك"!!، فنظرتُ اليه مستغرباً ومتعجباً من كلامه وقلت له " معقولة ثمانين مليون دولار تحل ازمة العراقيين" فقال لي بتشنج واضح " أخي انت تعرف شگد چبيرة الثمانين مليون دولار بالخارج ـ ـ ليش هو مبلغ هيّن"، المهم خرجت من مكتبه وانا مصدوم تماماً، وكنت طول الطريق وفي يدي ورقة التجهيز لإطارين فقط أفكر بكلامه وانا لست مصدقاً ما سمعته حتى وصلتُ الى بلد المهجر سنة 1996م وتيقنتُ من حجم الكارثة التي كنّا (ولا زلنا) نعيشُ فيها!!.
فبحسابات بسيطة استطعتُ أن استنتج صحة كلام رئيس المؤسسة الذي زرته لإسعاف طلبي. فقد كانت المؤسسة تبيع المجمدة ماركة "فيليبس" بمئة وسبعين ديناراً عراقياً أي ما يعادل اكثر بقليل من خمسمائة دولار أمريكي في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، في حين كان سعر المنشأ (اي الشراء) لم يكن يتجاوز المئة دولار أمريكي (الدولة كانت تستورد منها عشرات الآلاف وبسعر الجملة)، وهذا يعني من أنها تستطيع استيراد ثمانمائة الف من المواد المنزلية المختلفة سنوياً وبمعدل مئة دولار للمادة الواحدة (قسم من المواد لا يتجاوز سعرها عدة دولارات وقسم منها يزيد على المئة دولار، لذا افترضتُ المعدل مئة دولار للمادة الواحدة في حساباتي).
فالمليارات والملايين التي كانت ولا زالت تهدر اصبحت تتردد على مسامعنا بسهولة وعدم مبالاة كالمثل القائل: " العيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء على ظهورها محمول".
فمن حق العراق مناشدة الحكومة المصرية ومن خلال القنوات الدبلوماسية لوضع أسم العراق على لائحة المتبرعين في مكتبة الأسكندرية ودار الأوبرا المصرية دون ذكر اسم الرئيس الأسبق (فالأموال المُتبَرّع بها هي أموال الشعب العراقي وإن كان المُتبرِع بها رئيس الجمهورية) لضمان حق العراق أمام الأجيال القادمة وهي مسألة مهمة وخطيرة تاريخياً فكم من معلومة نفتقدها الآن ونحاول فك لغزها عند بحثنا في التاريخ القديم تشابه هذه الحالة، فلربما ستأتي الأجيال بعد دهرٍ من الزمن وتبدأ بالبحث والتقصي سائلة نفسها لماذا وضعت أسماء معظم الدول على لوحة الشرف ما عدا العراق!!؟، وسيكون موقف غير مشرّف وسيصبح لغز يصعب حلّه حينذاك، في حين من الممكن حلّه الآن وبسهولة.
 
إنتباهة: 
(1): إستضاف برنامج ستوديو التاسعة الذي يُعرض على قناة البغدادية الفضائية في يوم السادس عشر من تشرين الثاني/2015م النائبة في لجنة الثقافة والإعلام البرلمانية السيدة "سروة عبدالواحد" للتحدث عن قضية الفساد في مشروع دار الأوبرا العراقية والذي أحيل الى شركة "روتام" التركية وهي شركة وهميّة حسب ما ذكرت النائبة وغير مسجلة لا في تركيا ولا في العراق، وبقيمة إجمالية للمشروع تقدّر بحدود (170) مليار دينار عراقي ( اي بواقع ثلاث أضعاف قيمته لفترة الثمانينات من القرن المنصرم والبالغة 55 مليون دولار أمريكي)، والذي تم على أساسه دفع 10% من قيمة المشروع للشركة التركية (اي بحدود ستة عشر مليون دولار أمريكي) دون وجود اي تنفيذ على الأرض للمشروع، ولربما أستخدم الفاسدون المخططات القديمة للمشروع والمحفوظة في الوزارة/دائرة المشاريع الهندسية على إعتبارها مخططات جديدة عائدة للشركة الوهمية وقبضوا 10% من قيمة المشروع كثمن للتصاميم والمخططات!!.