السلوك العراقي المتخاصم!!

 

السلوك المتخاصم يعني أنك تأتي بسلوك لا يتوافق ومصلحتك الذاتية والجمعية , فتؤذي نفسك وغيرك وأنت غير مدرك لما سينجم عن سلوكك , لأنك تقوم به بأوتوماتيكية تحركها دوافع وعقد دفينة في أعماقك.

وقد ينجم عن أخطاء تربوية ينشأ عليها الفرد والمجتمع.

ولو تأملنا حالنا لرأينا أننا لا نعبر عن الديمقراطية في سلوكنا , لأننا نشأنا على الإستبداد عبر الأجيال, فنحن لا نعرفها ولا هي تعرفنا , وكأنها لغة أجنبية نحاول أن نتعلمها, فنظامنا أبوي متسلط ومتوارث من البيت وحتى المدرسة , والمجتمع بأسره وعلى مختلف مستويات نشاطاته.

وإذا حصلنا عليها فأننا نعبث بها ونحقق بها إستبدادا وقمعا وتسلطا مرعبا.

والموضوع ليس عللا نفسية أو إضطرابات سلوكية , وإنما هو نشأة المجتمع وصناعته عبر الأجيال.

فالبيت ليس بيتا ديمقراطيا والمدرسة والمجتمع كذلك.

والواحد منا لا يتبادل الآراء  بل يفرض رأيه , ومَن يعارض رأيه يحسبه ضده, فأي إختلاف في الرأي يعني العداوة, والمؤامرة والشك المريض, وهذا يجري في تفاعلاتنا اليومية العادية ومنذ أجيال.

ونحن نناقض أقوالنا بأفعالنا , ونحسب ذلك شطارة وذكاء, ونستعمل كلمة أنا كثيرا جدا وأكثر من الشعوب الأخرى , في كلامنا المكتوب والمنطوق وفي خطاباتنا السياسية وغيرها.

ولدينا جنوح إلى الغرائبية والفردية في القول والفعل , وهناك الكثير من الفنتازيا في تعبيراتنا , بل ونميل إلى التهويل بالقول والفعل , ونغفل المعقول ولا ندرك الحدود, إذا أكرمنا أغدقنا , وإذا غضبنا أمعنا, فلا نعرف التوسط في سلوكنا اليومي.

ونبدو في تفاعل مشحون بالغضب, فلا ترانا نبتسم , وإنما القسمات المتوترة ترتسم على وجوهنا , لأن في عرفنا التربوي الضحك عيب , وعلينا أن نتبع من يبكينا لا من يضحكنا.

وفينا ميل عظيم إلى الحزن , الذي يكون واضحا في أغانينا وأشعارنا , وكل ما نبثه من أعماقنا. فالأغاني حزينة جدا بالقياس إلى أغاني الدول المجاورة الأخرى.

ولدينا رغبة للعنف , خصوصا عندما يتعلق الأمر بالسياسة, فتأريخنا السياسي المعاصر , وعلى مدى القرن العشرين ,  دموي الملامح والطباع, وكأننا في تفاعل سلبي مرير مع كرسي الحكم ومَن في السلطة, فنحن لا نملك إلا الكراهية والرفض لكل مَن يحكمنا.

ويبدو أن مسيرات الحكم القاسية , قد ولّدت في لا وعي الأجيال كراهية,  لمَن يحكم بلدنا ويمتلك القوة فيه. ومما عزز ذلك أننا ما تربينا تربية وطنية , بل تربيتنا كرسوية وشخصانية , أي تمجد الكرسي والشخص الجالس عليه , وهي حزبية وقبلية تشجع الأنانية , وتدفع إلى إثارة الشكوك بالآخر.

وكل مَن جاء للحكم, وعلى مدى نصف قرن , مضى يمحق سابقه ليأتي بعده مَن يمحقه وهكذا دواليك.

فلم نعرف الأمن والإستقرار والسلام, وما عرفنا أن نقول ونرى بحرية.

ووزارة التربية ما كانت تربي , بقدر ما كانت تحقق منهج الكراسي والشخصنة , وفقا لتعليمات القوة التي تتحكم بالعباد.

وقادتنا لا يدرسون ولا يتفكرون ولا يمحصون ما يقولونه, بل أن كلا منهم يحسب نفسه خطيبا مفوها فيقول ما يخطر على باله , ليشيع الضغائن والخصام.

والكثير منا لا يعرف مهارات التعامل مع الناس, بل نجهل كيفية التعامل مع بعضنا البعض,  ولا توجد ضوابط وقواعد لضبط سلوكنا, فلا نعرف كيف نتفاعل , إلا بالعنف والصراع والغلبة والبطش والقوة , والشك أبونا وأمنا.

وديدننا أن ننغّص عيشنا , فنمنع إتمام مراد مَن يريد , ونجتهد في صناعة الأكدار لبعضنا.

وطفولتنا ليست لعبا ولهوا وحسب, وإنما هي تفاعلات سلبية وصراعات فيما بيننا ومعارك متواصلة, فقليلا ما نلعب من غير شجار وزعل , وسب وشتم بأقبح الكلمات وأكثرها غرابة. ويتعلم الطفل بيننا كلمات نابية ومؤذية  أكثر من الكلمات الحميدة لأننا نستخدمها أكثر.

فنحن نسب أطفالنا ونشتمهم , وهم يسبون ويشتمون غيرهم , ويتشاجرون معهم , ويؤسسون لأنانيتهم الضيقة التي تصنع إستبدادهم فيما بعد.

وفي بيوتنا ترى الوالدين يتركان مهمة الأطفال للابن الأكبر أو البنت الكبيرة , فيكون الطفل الأكبر قد تحول إلى مستبد , ومستحوذ على كل شيء , ويترك الآخرين في حالة صراع وتنافس وشجار دائم , واضطراب عارم , بل ويتعلم كيف يتلذذ بإيلامهم.

فلم يجتهد الآباء بتعليم الأبناء , ولم يحسبوا ذلك مسؤولية وواجب.

بل أن الأطفال يسعون في الأرض بلا دليل ويتعلمون من الشارع, فلا يتعاملون بالإيجاب بقدر ما يكون السلب سيد التفاعل, فينشأ التناحر ويتواصل العداء المبني على أسباب غريبة وليست ذات قدر من الفهم.

أي أن السلوك يرتقي إلى حالة العبث واللامبالاة بالنتائج.

وفي حياتنا يغيب القانون ولا يكاد يكون له وجود, فثقافتنا القانونية معدومة تماما بالقياس إلى المجتمعات الأخرى , لأن في أعماقنا رغبة بالسلوك ضد القانون , ونحسب ذلك فخرا ومرجلة. ولهذا فأن الحديث عن القانون , قد يكون عندنا أشبه بالنكتة أحيانا, لأن كل واحد منا يريد أن يكون هو القانون , ويحسب أن من العيب أن يخضع للقانون, ففي لا وعينا نحن نرفض القيد والقانون , ونسلك وكأننا خارجين عن القانون , لأن لكل واحد منا قانونه الخاص , الذي يريد أن يفرضه على الآخرين من حوله وليس على نفسه.

وقد تأسست في أرشيف أعماقنا آليات للتفاعل , صعبة وغير مرنة , تسعى إلى التسلط والإستبداد, ففي أعماق كل منا طاغية مستبد.

فلا يمكننا أن نسلك بمرونة , أو نقرر قرارا مفتوحا , وإنما يكون ما نريده  أمرا , ورأينا مسك الختام , وحكمنا الحكم المُقام.

ولدينا نزعة غريبة , وهي أننا نتعامل بسلبية , وربما بعدوانية مع الناجح والمتميز منا, فنذيقه المرارة , ونحاول أن نقصيه من بيننا , فترى البارز والمتميز في عناء وألم وصراع مرير مع الآخرين , لأنهم لا يفخرون به بل يغتاظون منه.

وفي تأريخنا المعاصر, كل مَن تميّز ونبغ يكون مصيره الرحيل من المجتمع , لأنه يقسو عليه إلى حد الموت, ولهذا فأن معظم عقولنا المتميزة قد هاجرت , وتفاعلت وتطورت في مجتمعات أخرى.

ومن العسير جدا أن تجمعنا على هدف واحد , وتوحّد جهودنا نحو غاية واحدة , وعلى جميع المستويات , إذ يصعب علينا أن نتعامل بروح جماعية وإيجابية, بل كل ما تعلمناه أن نتعامل بشدة وقوة وتفرد , ونحسب غيرها ضعفا أو جبنا وخديعة, وهكذا فأن عقيدة سلوكنا هي عقيدة الغاب والقبلية أو الجاهلية, وبهذا فأن سلوكنا لم يكتسب صفة التهذيب الحضاري , وإنما هو ميّال للعنف والقسوة.

فنحن نريد أن نوقع ببعضنا , ونشك ببعضنا , ونتحين الفرصة للطعن ببعضنا , لا لشيء ولكن لأننا قد نشأنا على ذلك, وهذا يظهر واضحا ومأساويا في تفاعلاتنا السياسية على مدى العقود وإلى اليوم.

فهل وجدتم بلدا مجاورا أكثر قسوة وعنفا ودموية في تفاعلاته السياسية منا.

وفي ذلك ومثله الكثير , يضيع الوطن وينمحي من الذاكرة الجمعية , وتطفو على سطح المأساة عناصرها ومولداتها , وكل ما يساهم في تنمية تداعياتها , ويحقق النسيان المرير لوطن الجميع ووعاء عزتهم وسعادتهم.

ولا يمكننا الجزم بالأسباب , لأن البحث فيها لا يؤدي إلى جواب , ويأخذنا إلى متاهات واضطرابات ورؤى وتصورات واستنتاجات متناقضة وغير مفيدة, ويجعلنا في حالة مراوحة سوداوية يائسة في ذات المكان الدامي الحزين.

ولكن من المعقول أن نواجه الحاضر , وننظر إلى المستقبل , ونتعلم من الآخرين ,  ونؤسس لتربية ديمقراطية وطنية في البيت والمدرسة, ونشيع ثقافة التربية المعاصرة كما في الدول المتقدمة, وننشر ثقافة القانون وحب الوطن , ومسؤولية الجميع في سلامته وأمنه , والحفاظ على وجوده , لأن غياب الثقافة الوطنية , والسعي إلى إلغاء الإحساس بالوجود الوطني , يساهم في تأجيج المشاعر السلبية , ويصنع مجتمعا قاسيا في تفاعلاته ومساهما في تداعياته.

كما أن التوجه السليم للخروج من هذه المآزق السلوكية والتفاعلات السلبية , يكون بالتركيز على كل ما هو إيجابي وحضاري معاصر , من مهارات التفاعل الإجتماعي القائمة في المجتمعات البشرية المتقدمة , ويكون ذلك بالتثقيف وحرية الرأي والإختيار , لأنه يمنح البشر الشعور بالمسؤولية والدور , فيهذب نفسه وسلوكه ويقرر مصيره , الذي يراه لصالحه وصالح مجتمعه , فيكون حريصا على وطنه وأبناء وطنه , ويسعى إلى مستقبله بعزم وتفاؤل وثقة وسلام.

والقصد مما تقدم هو مواجهة النفس , وإطلاق ما فيها من قدرات إيجابية , ذات دور مفيد لها ولغيرها لكي تتحقق السعادة الوطنية المنشودة.

ومَن شب على شيئ عليه أن لايشيب عليه في زمننا المعاصر الوثاب!