الحوار تحت الطاولات |
المراكز عندنا كثيرة بالعراق , والرؤوس هي الأخرى كبيرة , والمصالح التي تربط الجميع بالجميع أيضا كثيرة ومختلفة , المصالح تختلف حسب الأشخاص , والأشخاص يختلفون حسب قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وأطيافهم , كذلك معتقداتهم وأصولهم , والأطياف والأصول والقوميات عندنا كثيرة متعددة ومتشعبة , وهي الأخرى تختلف من منطقة لأخرى , وتختلف طريقة الحوار فيما بين الجميع حسب اختلاف كل ما ذكرت ,, وللحوار عندنا وسائل عديدة , هناك حوارات فوق الطاولة , وأخرى تحت الطاولة , حوارات من الداخل , وحوارات من الخارج , ولعل من اخطر أنواع تلك الحوارات نوعين , هي الحوارات من الخارج , والحوارات التي تتم تحت الطاولات , حيث لا يسمع ولا يرى أي منا رؤوس المتحاورين , ولا يعرف حتى وجوههم وانتماءاتهم , أقول هذا واستثني بعض المتحاورين الذين يرفعون رؤوسهم فوق الطاولات ليتحاوروا , وهؤلاء غالبا لا يجدون من يحاورهم لان الآخرون يجلسون تحت الطاولات , ولا يعرف الذين يجلسون فوقها من حواراتهم من شيء ,, أما نحن فلا نعرف شيء من الطرفين , وفي نهاية كل حوار , يخرج الجميع رؤوسهم ويعلنوا أنهم اتفقوا على الحوار , ويبدأ الحوار وينتهي الحوار ولا نعرف لماذا بدا وكيف انتهى , ويبقى يسعدنا شيء واحد هو رفع راية الحوار بين جميع المتحاورين بمختلف أمصارهم كعامل من عوامل التهدئة , وبعد مرور عدة أيام أو أسابيع وأحيانا أشهر , نمسي ونصبح ونرى الدنيا قامت وما قعدت , وان زمام الحوارات قد فلت عياره مرة أخرى من أيدي المتحاورين وان الطاولة قد انقلبت على الجميع , لكننا نشعر أنها بالنهاية سقطت فوق رؤوسنا , نحن المواطنين , فتتعطل القوانين , ويتوقف البرلمان , وتبدأ مرحلة الحوار الإعلامي بين المتخاصمين , ثم تتبعها رحلات نقل الحوار إلى الخارج وهو ما نخشاه حقا , لأنه يفتح الأبواب أمام المتربصين إلينا بالحدود بانتظار إشارة الدخول والتدخل بين المتخاصمين لفك النزاع , والنزاع عادة لا ينفك عندنا بسهولة , حيث أن لحظة الخلاف تحكمها فرصة كشف الملفات , هنا يبدأ دور الإعلام ,, ولا أقول الإعلام شمولا , إنما هناك من ينتظر أيضا فرصة لخطف أية معلومة تزيد من حدة الخلاف وتشعل النار بالهشيم لتكتمل الصورة , ويكون المشهد السياسي العراقي أكثر وضوحا بكل معالمه ,, ويستمر الأمر على هذا الحال عدة أسابيع أو أشهر ,, فيسقط من يسقط , ويخرج المنتصر من جولة الصراع مليء بكدمات التشهير وإعلان الفضائح ,, وبالطبع لا يهم إن كانت تلك الفضائح صحيحة أو غير صحيحة ,, ولكن المهم هي النتيجة التي يريدها طرف ضد آخر ,, تهدأ العاصفة ,, وتبرز معالم جديدة لصراع آخر ,, لقد حفظنا الدرس ,, فيعود الجميع مرة أخرى إلى الحوار ,, والحوار تحت الطاولة ,, قليل جدا منهم يجلسون فوق الطاولة , عفوا ذكرت هذه النقطة قبل قليل , البعض يجلس فوق الطاولة ولكن لإدارة الحوار من الخارج , ربما يعتبره شجاعة منه أن يتحدث من الخارج حيث انه بين أهله وفي أحضانهم , وهو تحت حمايتهم ورعايتهم , أما الذين يديرون الحوار من الداخل فأنهم عادة لا يكشفون عن محاورهم الصريحة حفاظا على وحدة الشعب ,, والشعب هنا كلمة مفتوحة المعاني مجهولة التفاصيل ,, فالشعوب كثيرة طالما فيها من التعدد والتلون والتشكيل الكثير , نحن أصلا لم نعد نعرف إلى أي جهة ننتمي أو نؤيد , فقد اختلطت علينا الأمور وصارت من التعقيد بمكان انه يصعب علينا الاختيار ,, نحن إذا لا نختار احد , بل هم من يختارونا , فالكرد يختارون الكرد , والسنة يختارون السنة , والشيعة يختارون الشيعة , وكل فئة من هؤلاء يختلفون بينهم على من اختاروا , فيجلس الجميع فوق أو تحت الطاولات يتحاوروا ليقرروا مصيرنا جميعا , وبالتالي تضيع الحسابات وتختلط الحقائق على الجميع , وحين أقول الجميع اقصد نحن الثلاثة المختارون ,, أخشى إن ما أقول قد اختلط عليكم أيضا ,, والأمر سيان , فلا فرق بين الواضح والمبهم , طالما أن النتائج واحدة , لكنني بالنهاية اعرف من هم الذين سيخرجون ليتحاوروا فوق الطاولات وبكل صدق , أنهم نحن ,, المواطنون الكسبة المساكين الفقراء الأيتام الأرامل الأدباء الفنانين بائعي الخضرة وأصحاب البسطيات والأكشاك والجالسين على مساطر البناء وعمال المجاري الذين يغطسون بكامل أجسامهم في فوهات المجاري لتنظيفها , والزبالين وبائعي القمامة , والساكنين بالخرائب , ومدارس الطين , و و و و ,,, كل هؤلاء هم الذين يجلسون ويناقشون ويبحثون بكل شجاعة وبصوت عال مصيرهم ومصير وطنهم وبلادهم ومستقبلهم ,, ولا يهم أي النتائج التي سيتوصلون إليها لأنها أصلا لا تؤثر على احد ولا يسمعها احد ولا يعرفها احد , فتبقى همومهم وأحلامهم أسيرة أكشاكهم وبسطياتهم ومنازلهم المتهالكة وأكياس النفايات التي يحملونها على ظهورهم كل صباح ,, الحوار فوق الطاولات أو تحتها لم يعد مهما , إنما الخروج من كل ما نحن فيه اليوم هو الأهم ,,,, ولكن كيف ؟؟ لا اعرف ..... |