الماضي الحاضر المستقبل والانسان الأبعاد الثلاثة للزمن: الماضي والحاضر والمستقبل، لا يكتمل معناهما اِلا بالبعد الرابع وهو الاِنسان، حيث لا زمن ولا قيمة اِلّا بتلك الحركة التي تتجاذب في الأبعاد ليكون لكلّ شيء معنى، ولا يمكن له معنى اِلّا بالاِهتمام بالوعي، بين تباطئ الاِنسان وتسارعه تتأكد صحة الفعل، حيث يقول المتنبي في فلسفة انعدام الاِدراك: وما انتفاعً أخي الدنيا بناظره ... اِذا استوتْ عنده الأنوارُ والظلمُ فالحديث عن الحضارات والمعارف أو الجهل والأمية، هو حديث عن تفاعل الزمن والانسان من عدمه، والذي يشكّل عصب الحياة وفاعليتها ونوعيتها، وحيث تشكّل معرفته وفَهمه الدافع الأكبر للتطوّر والتقدّم في كافة المجالات، وإلّا إنْ أهمل الإنسان من راع ورعية ذلك، ضاع العمر وانعدمت المعرفة وانهارت البلدان وتخلفت المجتمعات، وهناك اِشارة لهذا الواقع للاِمام علي ع:(من وثق بالزمان صُرع)(ميزان الحكمة، الريسهري، ج4، ص234).
اِنّ التراجع كماضي أو التوقف كحاضر أو التقدم كمستقبل، هي أبعاد حركية لا يتحقق مفهوم الزمن فيها اِلا بحركة وفعل لا يأتيان اِلّا بوجود الانسان، ومن هنا نفهم اِن كان الأمر استنساخا لماضي فكان الجهلَ، أو اعتبارا بأحداث فكان الوعيَ، أو استنهاضا للفكر فكان المستقبلَ، اِنّ كل ذلك مرتبط بالتحكم، تربية وتنمية وتعليما، من عدمه، ايجابا كحضارة أو سلبا كجهل، لنقول: نعم اِن الذي غذاءه الروح كيف يستغني عن موائده؟ اِنّ فلسفة الانسان تنطلق من هنا، أمّا التحكم بالأبعاد فتكون المعرفة، أو الاستسلام لها فتكون الأمية، وقد ظهر المعنى بشكل ملفت في الآيات الكريمة التي تؤسس لاختصاصات على أساس القواعد العامة لثقافة القرآن الكريم : جاء تحديد قدر اليوم من أيام الله بألف سنة في حساب عقولنا، كما في قوله سبحانه وتعالى :(( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ))(الحج/47).. وجاء قدر اليوم في مسافات عالم الارض الى عالم السماوات بألف سنة في حساب عقولنا: :(( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ))(السجدة/5).. وجاء قدر اليوم في عالم الملائكة والغيب والمعارج بخمسين الف سنة في حساب عقولنا: :(( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ))(المعارج/4).. وجاء قدر اليوم في عالمنا الذهني والوعي من عدم الوعي بألف سنة في حساب عقولنا: :(( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ))(الحج/47).. تأكيدا أن الأزمنة مختلفة، حسب العوالم التي لها خصوصية البحث، وهي مؤشر الى زمن الذهن والوعي الذي يختلف من شخص وآخر، وهذا هو مقصدنا، بل وهذه هي الاِجابة على سؤال: لماذ يختلف مجتمع عن مجتمع؟ وبالتالي لماذ تختلف البلدان؟..
وتخدمنا النظرية النسبية لالبرت انشتاين، مفادها أن الزمن يتمدد بالنسبة لأمّة ما، كلما زادت من معرفتها، وكذلك يتمدد الزمن إذا ما تعرض هذا المجتمع لمجال جاذبية علمي بارز قوي، وعكس ذلك من توقف الزمن يحدث تخلفا لا يمكن جبرانه بسهولة، وهذا دليل يؤكده التطور المذهل للعالم المتطور تقنيا وصناعيا، وشعوبنا تراوح في مكانها وكأنها تتمسك بقشة كي لا تغرق في طوفان النسيان، غير قادرة باللحاق بهذه الأمم. وقد تم بالفعل التحقق من هذه النظرية سنة 1971 وذلك عبر وضع أربع ساعات ذرية من السيزيوم على طائرات نفاثة تقوم برحلات منتظمة حول العالم في جميع الاِتجاهات، بعد قيام الطائرات بعدة رحلات معينة، ثم مقارنة الأزمنة التي سجلتها الساعات على الطائرات مع الزمن الذي سُجل على الأرض، فوُجد أن الزمن المسجل على الطائرات أبطأ منه على الأرض، ولكنه يتفق مع قوانين النسبية الخاصة تماما، وهذا يُثبت أن الزمن يتمدد بالنسبة للامّة كلما زادت معرفتها، ويحدث فارقا مع من كانت واقفة .
وفي العام 1976 قام العلماء بتجربة أخرى للتأكد من صحة تمدد الزمن من وعي الانسان بالنسبة لجسم ما، إذا تعرض لمجال جاذبي قوي من المعرفة، وكانت التجربة عبارة عن وضع ساعات هيدروجينية في صاروخ وصل إلى ارتفاع عشرة آلاف كيلومتر عن سطح الأرض، تمثل التعليم والتربية والعلوم والتلاقح الحضاري مع الشعوب المتطورة، مقابل عند مستوى سطح البحر من توقف واستكانة مثلتها التطرف والعصبية والكراهية وغيرها، وتم مقارنة إشارات ساعة وعي البشري في الأرض مع التي على الصاروخ، وطبعا كما هو متوقع كانت مستوى وعي الساعة على الصاروخ أسرع منها على الأرض، بمقدار يتفق بشكل مذهل مع تنبؤات النسبية العامة للعالم ألبيرت أينشتاين، لأنّ الصاروخ في معرض لمجال جاذبي أضعف من الذي معرض له الوعي في الأرض، أي أن مدة كل ثانية تصبح أطول في تلقي المعارف، وهذا يعني بشكل مبسط أن كل دقيقة على الأرض من العلم، تصبح نصف دقيقة فقط على مركبة تنطلق بسرعة معينة، وبالنتيجة اِنّ مقدار كل ثانية على مركبة مجتمع متطور علمي يصبح أكبر من مقدار ثانية على أرضية مجتمع ساكن متوقف، وإن وزن الشخص على الأرض مثلا هو 58 كلغ بينما على القمر يكون حوالي 9.6 كلغ فقط، وهذا ما يتطابق في فوارق الوعي عند مواكبة التقدم مقابل الوعي عند مواكبة التخلف.. وهذا الواقع الحضاري والبشري اليوم وفي كل عصر يعكس عبر الفوارق، ما يشبه النظرية النسبية في البطئ والتسارع، حيث الفعل ونتائج الفاعلية او الاستكانة بين شعب وشعب، ومن هنا نفهم معنى التخلف والتقدم أو الجهل والمعرفة أو الأمية والتعليم. فالأمر البشري يشبه اِرسال أمّة بمركبة إلى الفضاء بسرعة 261 ألف كلم في الثانية من المعرفة والعلم والانسانية (أي 87% من سرعة الضوء)، وجالت هذه الأمّة في فضاء المعرفة والتنمية بنفس السرعة لمدة 25 سنة، فإنها عندما تعود، سيكون قد مرّ على أمّة الأرض الساكنة معرفيا وعلميا 50 سنة، أي أن زمن الوعي والعقل سيمر بسرعة نهضة عالية مقابله البطئ، أبطأ منه على أرض شعوب المستكينة والمراوحة مكانها بقدر الضعف، بسبب الأعراف المهلكة لطاقات البشر التي أودعها الله فيه، وهذا يعني أنه ما تركته الأمّة المنطلقة حضاريا من واقع، سيكون متاخرا عنها بخمسين سنة، هذا هو معنى الفارق بين أبعاد الزمن الماضي والحاضر والمستقبل بمحورية البعد الرابع وهو الانسان، في الوعي وذهنية الفرد والمجتمع والشعب والأمّة، فكم هي الحاجة لولادات بأنواعها كي يتم الارتقاء؟ أي أنّ البلد الذي ينهض مثلا سنة 2000، فانه سيكون في 2050، يصعب عليه التعامل مع مَنْ لم ينهض، والعكس أيضا صحيح، لأنّ عقل الناهض تؤشر الى اختلاف في التوقيت العقلي باختلاف 25 سنة على أقل تقدير ليتضاعف بمرور الأيام، وهذا هو مفهوم التحكم بالزمن كمعرفة من عدمه كجهل، حيث هناك معنى للنهوض مقابل استكانته للساكن، وهذا الأمر أحد مسببات الحروب والبغي وحتى الكراهية، وعدم الانسجام والتفاهم، بسبب تضارب الفوارق الذهنية ورؤية المصالح وتراجع فهم رؤية الاِنسانية التي من صفاتها التعاون أو الحوار والجدل الحسن والقصد العلمي .. كانت هناك بلبلة في احتفال، حول وقوف دقيقة حداد احتراما للشهداء أو قراءة الفاتحة على أرواحهم، وظل العريف حائرا في أجواء بوادر فتنة، قام شاب من خلف القاعة وبجرأة وثقة قال: رجاء الوقوف دقيقة حداد احتراما للشهداء وقراءة سورة الفاتحة على أرواحهم.. فالمحتفلون امتثلوا لهذا الشاب المجهول وهم مذهولون من مبادرته، حيث كلّ طرف نفذ رغبته بانسجام مع الآخر.. هل يمكن اِحداث مثل هذا الوعي المتطور في التفاهم؟ وكيف لك؟ ومن سيحدث الفارق الحضاري؟ فهناك ارتباط وثيق بين تطور مفهوم الأبعاد (الماضي، الحاضر، المستقبل)، مع تطور وعي الاِنسان، وان التخلف فيما بينهما هو دليل بأن يتعامل المجتمع مع بعد واحد في حياته: (( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ))(الزخرف/23) والأية سبقت كل تحليل قديم ومعاصر، وهي سنة تتكرر عبر العصور لأمم لا تواكب العلم والمعرفة، فلا يخرج المجتمع من حيزه الضيق الذي يفرض عليه نوع من الجاهلية بفعل الخرافة او التعصب والعنصرية والتطرف وتحريف الحقائق وما يترتب على ذلك من ظلم...
وهذه المعرفة الناقصة هي التي كانت الأساس في حسابات الانسان التي أدت به الى عدم استطاعته الالتحاق بركب المتطورين، حيث اعتبرها الاِنسان كافية لحل كلّ المسائل التي تواجهه في الحياة، ليجعل من الاِنسانية والأخلاق ورسالات السماء ضحية لسلوكيته، وهذا ما يدل عليه قول الرسول ص في اِشارة لأسباب سنن التخلف مقابل سنن التقدم: ( بعثت بين جاهليتين لأخراهما شر من أولاهما )( آمالي الشجري:2/277). ... فيصعب على قوم بهذا المستوى التفكير بالأبعاد الأربعة معا، وبالأخص معنى الزمن الذي لا يمكن رؤيته، وملامسته ماديا، ولكن بحكم الفاعليات والحركة يحصل على معناه كمسلمة من مسلمات الوجود، فنعيشه ونشعر به كزمن، أو لا نشعر به... هكذا نقاد الى الحياة الحقيقية من عدمها، عندما وجد الاِنسان قيمة التحكم بالأبعاد بسبب وعي ناهض أو تجاهلها بسبب أعراف جاهلة، كي تبدو لها مؤثرا من عدمه، وكي نعي مالزمن ومالاِنسان، او لا نعي كلاهما، وأصلا نعي أو لا نعي لماذا خلقنا. فللباحث وثائق وصور ستقيمنا، واِن الصورة وثيقة صادقة في الماضي والحاضر والمستقبل، فكيف ستكون صورنا؟
|