تضحيات إمرأة عظيمة

 

قصة حياة حقيقي لامرأة رائعة شجاعة نكرت ذاتها من اجل مستقبل اخوانها واخواتها … قصة تحي الامل بوجود اناس عظماء نذروا انفسهم مشروع سعادة الاخرين ..والقصة باختصار ..

 

أب و أم واخوة خمسة كنا نعيش سعداء في احد نواحي محافظة نينوى .. انا كبيرة اخوتي .. كان والدي مدير لاحد مدارس الناحية يحب السياسة .. أحب الزعيم ..يتابع اخباره واخبار العراق عبر المذياع الذي لا يفارقه ابدا ..هكذا استمرت حياتنا.

 

في احد الايام الكالحة الظلام واتذكر في شباط من عام 1963 قتل الزعيم وساد البلد هرج ومرج .. الكل يترقب ..يتابع من قتل الزعيم .. سكان المحافظات عيونهم واذانهم ترنو الى العاصمة بغداد مركز القرار والبيت السياسي حتى ساد الهدوء …

 

وما هي الا اسابيع قليلة انتشر خبر ان السلطات الامنية لديها قوائم باسماء سياسيين مطلوب اعتقالهم ..وكان أبي من بين هؤلاء ..لم تصدق امي هذا الخبر الذي تسرب الينا عبر احد معارفنا ..ذهبت الى بيت اقاربنا لتتحقق من مصداقية هذه المعلومة…وبعد خروج والدتي من البيت بدقائق دخل بيتنا رجال امن لاعتقال والدي .. في لحظة الامساك به .

 

كنت ابكي اتوسل اليهم .. اقبل يد كبيرهم عسى ان يرق قلبه .. ولكن لم ينفع بكائي ودموعي وتوسلي ..اعتقل والدي ..لا اعلم ماذا افعل .. وسط صراخ اخوتي الصغار .. وتأخر رجوع والدتي .. ما كان علي الا ان احتضنهم واشاركهم البكاء حتى عادت والدتي الى البيت وقد سمعت من سكان الحي خبر الاعتقال .. دخلت علينا تحاول السيطرة على اعصابها ومشاعرها لتخفف عنا ..ما نحن فيه …كنت اقرأ في عيونها حزن والماً شديدين لم تفصح عنهما ..بل عملت على تقليل صدمة اعتقاله حفاظا على التأثيرات النفسية التي قد تصيبنا نحن ابناؤها….

 

كنت في مقتبل العمر ..خمسة عشر عاماً لم اكن حتى احلم في يوم ما ان اتعرض لمثل هذا الموقف ؟؟؟ ولكن مساعدة الله اعطتني قوة لم اعهدها من قبل ..اعباء اضافية ..دراستي اخوتي واخواتي ..البيت .. والدتي …لا أبالي اصارع الحياة ..أذهب لمتابعة تسجيل من كبر من اخوتي في المدرسة اتابع دراستهم ..نجحت في هذه السنة ..ولم يتأخر احد من أخوتي الجميع تفوقوا في دراستهم.

 

ثلاثة سنوات ونصف سجن حكم على والدي وفصل من وظيفته سياسيا ونفي من محافظة نينوى .. انتهت سنين الحكم .. وعاد أبي الينا .. لنخرج من الموصل الى بغداد في منطقة نائية لايسكنها احد اسمها (أسيا) تابعة الى منطقة الدورة …

 

كنا نشرب الماء من مياه السواقي .. احساس وشعور غريبان.. لا احد من أفراد العائلة قد تأثر لهذا التحول الذي اصابنا من بيت كبير كان يجمعنا الى بيت مهجور قيل ان احد الراهبات كانت تتخذ منه مكاناً لسكنها ومناجاة الله وعبادته وكانه بيت مبارك …

 

قررنا جميعنا ان نتحدى الزمن بدأ والدي بالعمل على تربية الدواجن .. وأتذكر ان أول عدد لتربية الفراخ كان 500 طير .. وهكذا نجحنا .. وازداد حجم الطلب على الفراخ مع زيادة لانتاجنا .. وكأن رعاية الله كانت ترافقنا بكل خطواتنا.

 

وقرر والدي بناء حقل في ارض تجاور البيت الذي نسكنه .. وبارادة قوية لم نستعن بتاجير عمال لانجاز البناء بل عملنا على بنائه مجتمعين.. كنا نعود من مدارسنا مشياً على الاقدام رغم المسافة الطويلة ونبدأ بالعمل لبناء الحقل .. نجحنا واستمر نجاح الحقل واصبح والدي من كبار تجار حقول تربية الدواجن .. وهنا لا اريد ان انسى الدور الذي لعبه خالي بمساعدتنا في جميع شؤون حياتنا كان يزورنا بين الحين والاخر ..كانه يشعرنا بقوة اضافية يعيش بين انفاسنا يتفقد الصغير والكبير ..

 

وهكذا حتى استطعنا الانتقال الى احد مناطق العاصمة بغداد قريبة على مركزها .. وكان النجاح حليفنا في حياتنا العلمية والعملية .. تخرجت شقيقتي الاصغر مني وأصبحت طبيبة اطفال .. وحظى الاخرين بشهادة الهندسة .. وبين نسيان الماضي وسعادة الحاضر شعرت بشيء غريب يغزو جسدي ..

 

اخبرت شقيقتي الطبيبة بذلك .. وفي اليوم التالي ذهبنا لاجراء الفحوصات تبين حينها انني مصابة بمرض السرطان عافاكم الله منه .. لم تسعفني كل قوتي وارادتي على تحمل الصدمة .. اتفقت مع شقيقتي ان اجري عملية جراحية دون علم والدتي خوفا عليها من صدمة جديدة قد تعرضها الى نكسة لا سامح الله ..

 

كنت اختلي مع نفسي دون ان يشعر بي أحد اتذكر احداث الماضي .. كانت الدموع لاتفارقني .. عملت . .تحملت .. صبرت . .رفضت الزواج  من تقدم لي .. قررت ان اكون فداءً لاخوتي ووالدتي المريضة .. احدث نفسي اقول قد تكون الصدمة التي تعرضت لها عند اعتقال والدي سببا لاصابتي بهذا المرض اللعين ..؟؟

 

الحمد لله على ارادته وحكمه …رغم ذلك فأن كل ما أسديته من تضحية لم يذهب سدى، بل ان نجاح اخوتي واخواتي وحصولهم على شهادات عليا هي ثمار مازرعته وسهرت الليالي من اجله، وقررت مع نفسي ان لا استسلم لهذا المرض وتحديته ..ورحمة الله تعينني على تحديه ..

 

ورغم طول السنين فانه لم يستطيع التغلب علي .. ولا أنكر دور العلاج والمتابعة والسفر الى خارج العراق ..من اجل الفحوصات كان له دور في ايقاف انتشاره .. وانا اليوم مستمرة في تضحياتي واصبحت الخالة والعمة ..بعد ان تزوج الجميع ولم اتخل عن رعاية والدتي والاشراف على البيت بكل شؤونه.

 

واخيرا اريد ان اوصل رسالة الى كل الناس ..أن التمسك بالله ورحمته  وعدم التعرض لحياة الاخرين واحياء روح الانسانية والضمير والمساعدة …كل ذلك طريق خير ورزق ومستقبل زاهر ..لكل من تمسك بها ..واشكر الله على كل حال .