قُلْ مفقودين ولا تقُلْ مخطوفين..!

تذكرتُ، اليوم، الراحل الدكتور مصطفى جواد صاحب الِسفر العربي الجميل ،المفيد، ،القويم، في التصنيف والتنبيه إلى أخطاء لغوية ونحوية ولفظية  في استعمالات القادة العرب، سواء من بعض المذيعين في الراديو والتلفزيون والصحافة ، أو من الشعراء و الأدباء أو من كثير من  الساسة القادة قبل نصف قرن أو أقلْ..! كان عنوان السِفر (قُلْ ولا تقُلْ) بصوت الدكتور مصطفى جواد في إذاعة بغداد استحق عليه أن ينصب له تمثال خالد على مدخل مدينته (قضاء الخالص) في بعقوبة.

 اليوم سمعتُ الدكتور حيدر العبادي رئيس مجلس الوزراء  يصحّح ما تردد في الصحافة العراقية والعالمية عن اختطاف ثلاثة من المواطنين الامريكيين ببغداد راجياً من  جميع اجهزة الاعلام العالمية : قولوا (مفقودين) ولا تقولوا  (مخطوفين)..!

من أشد الرزايا في الوضع العراقي الحالي هو أن كل شيء في العراق بحاجة إلى تصحيح لغوي:

 قُلْ: العراق في (أزمة) ولا تقُلْ في (محنة)..!

 قُلْ:  اسعار النفط في (هبوط ) وليس في (انخفاض)..!

 قُلْ:  البرلمان  (معطل ) ولا تقُلْ (معطول)..!

 قُلْ:  وزارة المالية في وضع (غائم )ولا تقُلْ (قاتم)..!

 قُلْ: إن الشتاء الحالي (بائس) بالنسبة للنازحين ولا تقُلْ (قارس)..!

قُلْ: إن الفاسدين (نشّالة ) ولا تقُلْ (حرامية)..!

 قُلْ:  مشاكل وزارة  النقل في (قاطرة) ولا تقُلْ في (طائرة)..!

قُلْ:  الصناعة  العراقية ( تعثرت) ولا تقُلْ (تدهورت)..!

قُلْ : الزراعة العراقية ترمّلتْ ولا تقُلْ تسربلتْ ..!

كل شيء في العراق صار قابلاً للتفسير والتأويل والتحويل  بعدةِ أوجهٍ لأن اللغة العربية المستخدمة من قبل اغلبية السادة القادة في الحكومة والبرلمان ، حتى كثير جداً من  اساتذة الجامعات حين يتحدثون في القنوات الفضائية  فأنهم يفعلونها بأخطاءٍ قبيحة تسيء إلى  صور اللغة العربية كأنهم لم يتخرجوا ،حتى الآن ،من الصف السادس الابتدائي..!  منهم برلماني يكسّر المفتوح باللغة العربية ..منهم وزير يفتح المضموم ..منهم برلمانية تنوّن الممنوع من الصرف ..منهم المحافظ يكسر المضموم ..منهم رئيس مجلس محافظة يضم المفتوح .. منهم وزيرة تفتح المضموم ..منهم معلق سياسي كل كلامه العربي مشكلة.. منهم خبراء امنيون يثبتون في كل يوم جهالتهم بلغة آبائهم وأجدادهم ..!

مختصر الكلام أن كثيراً من القادة العراقيين ،  السادة والشيوخ والأفندية،   يعبثون فسادًا بالمال العام وبذات الوقت  نجدهم يعبثون، أيضاً، بلغتنا العربية، بقواعدها وأصولها وعلاماتها  ، أي أنهم  يحاولون افسادها ،أيضاً..!

اما الدكتور حيدر العبادي رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة فهو خير العارفين أن اللغة العربية، التي تستخدمها الدولة العراقية الجديدة هي لغة جميلة، جسيمة، عظيمة، لأمة عراقية عظيمة، جسيمة ، جميلة ،وهو يعمل ،شخصياً، في كل يوم للحفاظ  عليها وعلى نقاوتها وعلى قوامها وعلى كلامها الفصيح.. لذلك واجه ،مباشرةً، وبصراحة تامة، قضية التصحيح اللغوي بتصريح صحفي أعلن فيه : أن الامريكان الثلاثة هم (مفقودون) في منطقة الدورة وليسوا (مخطوفين)..!

هذا تصحيح دقيق جداً ومضبوط جداً وعليم جداً لأن هناك فرقاً كبيراً جداً بين (الفقدان) و(الاختطاف) . الفقدان معناه أن الأمن في بغداد مستقر ومستتب ، تماماً، أي أن النتيجة المعتادة في هذه الحالة هي أن يتم العثور على رؤوس (المفقودين)  مقطوعة مرمية في تل زبالة..!  بينما التأكيد على  (الاختطاف) يعني قولاً مشبوهاً ،مرصوداً،  مقصوداً،  يشير إلى فقدان الأمن في بغداد  يعقبه (التفاوض)  بين الخاطفين واهالي المخطوفين لعقد صفقة مالية أو سياسية.

بهذا وذاك  اكتسح الرئيس العبادي  اللغة الصحافية، التي تريد الاساءة إلى الواقع الأمني بالعراق،  خاصة بعد أن هدأت الضجة الاعلامية عن تيه  الصيادين القطريين في صحراء السماوة ،الذين انقذتهم مائة سيارة عراقية من نوع همر وسمر وقمر حررتهم بدون إقبال ولا ادبار ..!.

مرحى للسيد رئيس الوزراء حيدر العبادي  بادئاً ثورته الاصلاحية من نور اللغة العربية ،التي يعلّم الناس فيها أن هناك من يريد الإساءة إلى (مدرسة الكوفة) اللغوية القائلة أن هناك  فرقا بين (السنتميتر) و(الغرام ) وكذلك الإساءة إلى (مدرسة البصرة) اللغوية القائلة بوجود الفرق بين السيرة والغيرة ، بين الغناء والبكاء..!

أنهى القائد العام للقوات المسلحة قضية لغوية – ذهنية - عسكرية – أمنية التفافية - عويصة،   لينهيها  بتصريحه الانفلاقي   المنفتح :  قُلْ  أن الامريكان الثلاثة مفقودون في منطقة الدورة ولا تقل مخطوفين.

والسلام على من انداح نحو فضاء اللغة والسياسة والكياسة .