جدل التدين والسياسة : قراءة في الثوابت والمتغيرات ــ بقلم: عصام احميدان

 







- مدخل عام :
الدين مظهر من مظاهر الاتصال بين عالمين : عالم الخالق المدبّر وعالم المخلوق موضوع عملية التدبير الإلهي ، أو بشكل أدقّ أحد مواضيع عملية التدبير الإلهي.. والدين يحرز قداسته من قدسية تلك العلاقة الخاصة بين عالم الوحي وعالم التلقي ، عالم الغيب وعالم الشهود.. لكن ذلك لا يعني بالضرورة قدسية التجربة الدينية بوصفها ذات سمة بشرية في بعض جوانبها ، كما لا يعني ذلك أن التجربة الدينية حالة بشرية محضة معزولة عن الخط الوحياني في الفكر والسلوك الديني ، لدخالة عنصر الوحي في التجربة الدينية وهو عنصر معانقة للدين ، ولدخالة العقل والوجدان والتجربة أيضا في تشكيل ملامح هذه التجربة وهو عنصر لا نصفه بالمفارقة ولا بالمعانقة للدين ، بل تتحدد نسبة علاقته بالدين بحسب درجة المطابقة للحكم الديني الواقعي ..فالعلاقة في هذا المستوى هي نوع من العلاقة المنطقية المصطلح عليها ب" العموم والخصوص من وجه " أي أن بعض التديّن أو التجربة الدينية يقع ضمن دائرة الدين وهو المعلوم من الدين بالضرورة من أحكام في الأصول والفروع ..وبعض التديّن لا يقع ضمن دائرة الدّين ، لعدم القطع بانتمائه له واستناد إلحاقه بالدّين للظنّ والتخمين ، وتعدد القراءات والفهم والتّأويل ..
وحديثنا هنا عن التديّن بمعنى الفهم الديني والتمثل الديني بشكل عام ، وهو قابل للمناقشة والنقد لكونه من غير المعلوم بالضرورة مطابقته لحكم الله الواقعي ، وذلك في سياق العلاقة القائمة بين هذه المنظومة من القيم والتصورات الدينية ذات البعد التشريعي ومنظومة أخرى ذات بعد تدبيري للشأن العام لأفراد الأمة ، وهي منظومة "السياسة" ..كي نحدّد بوضوح الموقف الفكري الإسلامي من العلاقة القائمة بين الدين والسياسة كإطار نظري عام، وبين التديّن والسياسة كحالة واقعية متشخصة بحدود الزمان والمكان والأشخاص والأحوال..

المبحث الأول : الدين والسياسة : العلاقة الإشكاليّة أم الإشكال المفتعل ؟!.

الحديث عن علاقة الدين بالسياسة ، أصبح يتصف بكونه القضية الإشكالية ، خاصة بعد هيمنة"العلمانية" كفكرة وكتوجه يحاول إعادة رسم العلاقة بين البعدين على نحو من التمايز والاستقلالية المتبادلة المتبادلة ، بحيث لا يتمّ معها تديّين السياسة ولا تسيّيس الدّين ، لاعتقاد من يتبنى هذه الفكرة أنّ الدّين شأن خاصّ والسياسة شأن عام ..الدّين علاقة بين الفرد وربّه والسياسة علاقة بين الحاكم والمحكوم ، فالعلاقة الأولى ذات بعد غيبي وذات قدسية خاصة ولا يمكن إخضاعها لتدخل اجتماعي – سياسي ، والعلاقة الثانية ذات بعد مادي طبيعي لا تملك هالة من القدسية، بحيث تسمح بمناقشتها وممارسة أشكال من الرقابة والتدخل والمحاسبة مادام أن التعاقد هنا اجتماعي بين الحاكم والمحكوم وهو في الدين تعاقد فردي بين الخالق والمخلوق ..

و"العلمانية" كفكرة ليست بديلة عن الدين ولا تملك رؤى دينية يمكن وصفها معياريا بالتجديد أو المحافظة ، كما أنها ليست صيغة جديدة لبدائل سياسية تحدد نوع الحكم ، آليات الانتقال إلى الحكم وانعزال الحكم ..بل هي مجرد فكرة إجرائية تخصّ تحديد مسار العلاقة بين ما هو ديني وما هو سياسي .

والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح هو : إن كان الحديث يصبّ أساسا في محاولة كشف نوعية العلاقة القائمة بين الفاعل الديني والفاعل السياسي .. أفلا ينطوي ذلك بلا شك على مفهوم ارتكازي للدين ومفهوم آخر للسياسة في عالم التصور لدى أنصار "العلمنة" أفضى بشكل موضوعي في عالم التصديق إلى إثبات نسبة بين الأمرين أو نفيها ؟!..

لذلك، تصبح مناقشة هذا الموضوع بعيدا عن تحديد ماهية الدين ضربا من ضروب اللغو الذي لا طائلة من ورائه ، وأمرا مخالفا لمقتضيات العلمية والموضوعية الحقّة ، فالسؤال ينبغي أن نتوجه للدين ليكشف لنا عن ماهيته لنعرف مدى شمول هذه الماهية لحقيقة وجوهر الفعل السياسي أم عدم ذلك ..لأنّ الموضوعية تقتضي أيضا فيما تقتضيه تقديم التعريف الديني للدين إن وجد على ما عداه من التعريفات المستوردة من خارج الفضاء الديني ..فصاحب النصّ أولى ببيان نفسه وتقديم جوهره وماهيته من غيره ، كي لا نسقط في الذهنية التحكمية التي تتعاطى مع الأشياء وفق مواقف وأحكام سابقة دون فحص أو مناقشة مسبقة ، وأيضا حتى لا نفرض على الدين ماهية تأباها طبيعة الدين نفسها.

وأوّل ما يمكن أن يثار من تساؤل هو : عن أيّ دين نتحدّث كي نحدّد الإطار المرجعي لحركة السؤال المعرفي " ماهية الدين من منظور الدين نفسه"، والأمر سهل يسير ولا خلاف فيه وهو أن الحديث لا يتعلق بغير الدين الإسلامي ، وبيان ماهيته محلّ النزاع بين الفريقين الديني والعلماني ..

والإسلام كإطار مرجعي وكرسالة ، إن استقرءنا مضامينه الوحيانية لوجدناه يتحرّك في خطوط ثلاث وهي :

1 ــ خط العلاقة بين الخالق والمخلوق .

2 ــ خط العلاقة بين المخلوق والمخلوق .

3 ــ خط العلاقة بين المخلوق ونفسه .

وإني أعتقد أنّ الخطّ الأخير هو الخطّ الذي يهيمن في نتائجه على باقي الخطوط ، ويصوغ شكل تلك العلاقات سواء بين المخلوقين أو بين المخلوقين من جهة وخالقهم من جهة أخرى ، لذلك قيل " اعرف نفسك، تعرف ربّك " فكانت معرفة النفس حالة مركزية لتشخيص المعرفة الإلهية وولوجها ، ونحن هنا لا نهدف الانتصار للمبنى العرفاني على غيره من المباني المعرفية ، بل نؤكد في هذا السياق على أن المتكلمين أنفسهم انطلقوا من مفهوم ممكن الوجود لإثبات واجب الوجود وهو الله عزّ وجلّ ، ومن اتصاف المخلوق بالإمكان الذاتي بما يعنيه ذلك من افتقار إلى الغير ونقص في الذات لإثبات صفات مطلقة للخالق بوصفه واجب الوجوب بالذات ممتنع عنه الافتقار إلى الغير ..فالبناء على معرفة النفس وحدودها أوصلت بالنتيجة لمعرفة الله وفقا لكلا المنهجين : الكلامي والعرفاني ..

ومعرفة الذات رحلة في فضاء النفس ترتقي إلى رحلة أخرى في فضاءات علوية تستقرّ عند تموقع مفهوم "الحاكمية الإلهية " ومركزيتها في بناء النسق العام للتصورات الدينية للفرد المسلم ، وهي عبارة عن حركة انسيابية فوقية تهيمن على الفضاء السفلي في شكل إشراف وإرشاد يتصف بالموضوعية المطلقة والحقّانية الأكيدة ، لكون الموضوعية بما هي "فصل الذات عن الموضوع " تجدها مصداقها الأبرز والأوضح في الخط البياني الوحياني ، لتجرّد الوحي عن عوالم الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.. دون أن يعني ذلك التجرد حالة الانفصال والتدابر بين الوحي والواقع ..فقد سأل زعيم الخوارج الأزارقة الإمام الحسين سلام الله عليه أن يصف له ربّه ، فأجبه الإمام : " هو قريب غير ملتصق ، وبعيد غير مستقصى " فثبوت القرب للخالق من الواقع عنصر إحاطة وهو شرط معرفي في المرجعية المعرفية للواقع ، و عدم لزوم ذلك القرب صفة التشخص والتجسد يلزم منه نسبة النقص لتلك المرجعية المعرفية ، حيث التشخص يقضي بهيمنة مفهوم المكان والزمان والأحوال ..وكلها موانع معرفية لتولّد الموضوعية التي كما قلنا تقتضي انفصال الذات القارئة والمشرفة والمرشدة عن الموضوع ، أي موضوع القراءة وعملية الإشراف والتدبير..فثبوت عنصري الاتصال والانفصال في علاقة الوحي بعوالم الإمكان يحقق درجة عليا ومطلقة من الموضوعية ، ممّا يسمح بتأسيس موقف وحياني يملك قدرا كبيرا من القداسة والتسليم من قبل النسق المعرفي البشري ، لاحتياج المحدود إلى اللاّمحدود ، والمتحيّز بحدود حجب الذات والموضوع إلى غير المتحيّز بذلك كلّه ..

موضوع الرّسالة في خطّها الوحياني يتصف بالشّمول لثبوت ذلك بمنطق الاستقراء للنصوص الدينية الإسلامية، حيث نحرز اتصاف هذه الرسالة بوصف الشمولية ومتابعة علاقة الفرد بمحيطه سواء كان ذلك المحيط حالة اجتماعية أم حركة الفرد في تعايشه مع الطبيعة والكون .

فجاءت الرسالة الإسلاميّة برنامجا شموليا يغطّي مساحات واسعة من حركة الحياة ، وهذا ما يمثّل بحقّ أكبر إشكال في وجه الفكر العلماني ، حيث الرغبة الأكيدة في تقليص مساحات الدين وعزله عن ساحة السياسة ، تواجه من قبل الدّين نفسه بتدخّل واضح في كافة المساحات ، لكن لا على نحو الإلغاء للفعالية الإنسانية في الاستثمار الكوني ، حيث جعل الإسلام الإنسان خليفة يمارس شؤون الإعمار والفعل الحضاري على الصعيد الكوني بعد إحراز رضى وإذن المولى عزّ وجلّ .

إنّ الأبعاد الأربع لرسالة الإسلام ، خلقت في بعدين منها إشكاليات معرفية شطرت الفكر والوعي الإنساني تاريخيا وإلى اليوم إلى فكر ديني وآخر علماني ..وهذه هي أهم الإشكاليات المتولّدة عن البعدين:

1 ــ البعد المتضمّن علاقة الفرد بخالقه : إشكالية الحاكمية الإلهية .
2 ــ البعد المتضمّن علاقة المخلوق بالمخلوق : وتثار هنا إشكالية الأخلاق والسياسة ، ومدى إمكانية الحديث عن تخليق السياسة .

وسنحاول تسليط الضوء على هذه الإشكاليات الثلاث وموقف الفكر الإسلامي منها ، ومن ثم سنؤكد على كون موقفنا من الفكر العلماني في مسألة فصل الدين عن الدولة مبني على هذه المرتكزات الثلاث :

1 ــ الحاكمية الإلهية .

2 ــ تخليق السياسة .

1 ــ مسألة الحاكميّة الإلهية :

العلاقة بين الخالق والمخلوق تتسم بطابع مميّز ، حيث أنّ العلاقة هنا في جوهرها علاقة طوليّة والخضوع البشري أمام السلطان الإلهي تشريعيّا في إحدى مبرراته ينطلق من عمودية هذه العلاقة وفق قانون الخلق والإيجاد من عدم ..لكنّها في مستوى آخر ، تستمدّ مبرّرها من حاجة بشريّة لمصدر معرفي يحقق للحياة الإنسانية حالة من الموضوعية والحقانية ، وهو أمر يستلزم في أهم اشتراطاته وجود نوع من المفاصلة مع حدود حجب الذات والموضوع..العائق المعرفي الكبير المساهم في إفراز نزعات عقلية قبلية وقصور في الرؤى والتصورات وتأثير النزعات النفسية في صياغة المشهد الفكري والسلوكي للحياة الإنسانية بشكل عام .

فالحاكمية أو السلطان الإلهي تقابل بحالة من الخضوع البشري بسبب وجود دافعين أساسيين: دافع إقرار ما هو كائن من عبودية وتفضل من الخالق بالإيجاد والإنعام ، ودافع آخر هو عبارة عن نزعة ذاتية إنسانية متعطشة للمعرفة والارتقاء نحو عوالم الغيب في سبيل التكامل ..

نصوص كثيرة في الإسلام أكدت على حاكمية الله عزّ وجلّ على البشر ، ونتج عن هذا المبدأ الرّاسخ تعدّد في القراءات والتأويلات لمفهوم الحاكمية ، أفرز في نهاية المطاف مشهدا كلاميا متنوعا ، انطلق مع الخوارج الذين قدّموا مفهوم "الحاكمية" كقاعدة مركزية لتأسيسهم الكلامي والسياسي أيضا ، فوسّعوا مفهومها بحيث شكّلت الإطار المرجعي السياسي والتنظيمي ، فتمّ بذلك الإجهاز على الفكر السياسي الإسلامي وضرب حلقة هامة من حلقات الوعي الإنساني القاضي بضرورة وجود السلطة بوصفها حاجة اجتماعية أوّلا ، وحاجة حضارية ثانيا تمليها طبيعة الكينونة الرّساليّة.

لذلك وجّه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه نقده لهذه الفكرة الخطيرة ، المتأسّسة على قاعدة دينية تملك الحقانية في مستوى المبدأ لكنّها تفتقد إلى القراءة الصّحيحة والتأويل المناسب ..حيث قال سلام الله عليه: "..لا حكم إلاّ لله ، كلمة حقّ أريد بها باطل، لا حكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون "لا إمرة" وإنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر..".

فالحاكميّة الإلهية في إحدى القراءات الدينية التاريخية كما بينّا كانت تمثّل فكرة معيقة لحركة النهوض الحضاري وتطور الوعي الإنساني ، غير أنّ الإمام علي سلام الله عليه قدّم للعالم رؤية حضارية للإسلام ولمفهوم الحاكمية الإلهية ، فحكم الله –بحسب الرؤية العلوية- ثابت بلا منازع ، وحكم البشر ضرورة تقتضيها طبيعة الأشياء وضرورات حفظ النظام العام في الاجتماع الإنساني ..لكن كيف أمكن الجمع بين حكم الله وحكم البشر ، مع اتصاف حكم كل منهما بأوصاف معيارية مختلفة ، فحكم الله لا يتخلّف وسلطانه قاهر على من سواه ، ومتصف بالموضوعية والحقانية ، وحكم البشر غير متصف بذلك ؟!.

من هنا كانت البداية لإشكاليات أخر انتقلت من عالم الفقه السياسي كما هو الحال مع الفكرة الخارجية عن الحاكمية الإلهيّة إلى عالم عقيدة والكلام ، فتم الحديث عن مفهوم "السلطان الإلهي" ومدى تأثيره في الفعل البشري وهيمنته عليه ، فظهر اتجاهان حاول أحدهما صيانة "السلطان الإلهي" وحمايته قهره الإنساني أمام "سلطة البشر" وإرادتهم الحرّة ، فانتهى إلى القول بالجبر الإلهي وهو الخضوع والهيمنة المطلقة للفاعل الإلهي على الفاعل الإنساني في كل مسارات فعله وحركته ..وحاول اتجاه آخر بعدما رأى أن القول بالجبر من شأنه أن يقود إلى تحميل السّلطان الإلهي أعباء الفعل الإنساني بالجملة وحمل أوزاره السيّئة ، ومن شأن ذلك كلّه التعريض بمبدأ هام وجوهري في العقيدة الإسلامية وهو مفهوم "العدل الإلهي" وبدونه لا يمكن تصويب العقاب الإلهي ..فانتهى إلى القول بالتفويض وحرية الفعل الإنساني أمام الفاعل الإلهي، وهو ما اعتبره الاتجاه الآخر ضربا لقاعدة "الحاكمية الإلهية"..

لاشكّ أنّ منطلقات كلا الاتّجاهين كانت حسنة اتجاه الفاعل الإلهي ، حيث حرص الطرفين على حماية السلطان الإلهي والعدل الإلهي ، لكن النتيجة كانت غير ذلك تماما حيث انتهى كلّ منهما إلى نفي إحدى هاتين الركيزتين متمسّكا بالأخرى ، فتمّ خدش مفهوم التوحيد على نحو وسم فيه الفاعل الإلهي في الاتجاه الأول بعدم العدل في أفعاله وعدم صحة ما يصدر منه من عقاب مادام المحرك نحو الفعل الإنساني كان إلهيا محضا ، وأيضا على نحو انتهى بوسم الفاعل الإلهي في الاتجاه الثاني بالاستقالة في مقابل استقلال الفعل الإنساني ، وغياب التوجيه والسلطان الإلهي عن الفعل الإنساني.

في هذا السياق الكلامي الجدلي الذي عاشه الفكر الإسلامي التاريخي ، انبرى الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه ليميط اللثام عن جوهرة التوحيد ، التي كادت أن تطمس بسبب قصور في الرؤى وعجز في القراءات ، فأطلق قولته الشهيرة : " لا جبر ولا تفويض ، لكن أمر بين أمرين " ، وهو ما سمح بتأسيس خط وسطي يحمي السّلطان الإلهي بالقدر الذي لا يغيّبه عن ساحة الفعل الإنساني ، ويحمي السلطان البشري بالقدر الذي لا يلغي فاعليته في التحريك ويصحّ معه الثواب والعقاب من المولى ..

بالطبع تفصيل هذه النظرية المسماة " فلسفة أمر بين أمرين " جاء لاحقا على يد تلاميذ هذا العلم الجليل وبحر علوم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث انطلق التّأسيس لمفهومين من الإرادة والسلطان الإلهي بعد أن كانت البحوث الكلامية الأولى تتحدّث عن الحاكمية الإلهية بشكل عام ومجمل ، فبدأ الحديث عن نوعين من الإرادة الإلهية :

1 ــ إرادة تشريعية : وصفت بكونها قابلة للتخلف عن مرادها من جانب الفعل الإنساني الذي أعطي من قبل المولى عزّ وجلّ الحرية والاختيار في الالتزام بذلك المراد وعدمه .

2 ــ إرادة تكوينية : وصفت بكونها غير قابلة للتخلف عن مرادها من جانب الفعل الإنساني ، وإرادة الله في ذلك غالبة وقاهرة وهي من قبيل قوله تعالى للشيء : كن، فيكون ..

إنّ هذا النوع من التميّيز بين مستويين من الإرادة الإلهية حدّد مسارا جديدا للبحث في مفهوم "الحاكمية" حيث أصبح للفعل الإنساني الحر مساحة كبيرة أمام الإرادة والسلطان الإلهي التشريعي، وذلك في مستوى عدم قهرية الامتثال للأوامر المولوية ولا الردع عن النواهي المولوية كذلك، غير أنّ ذلك لا يلغي ثبوت الأمر والنهي في ذمة المكلّف، وكونه مراد الله تعالى الذي ينبغي تحقيقه ..

ولعلّ ذلك هو منطلق الآية الكريمة " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ، إذ الآية قطعا ليست في مقام تأسيس الجواز لحالة الكفر ورهنها بمشيئة البشر ، بل كانت في بصدد تصوير موقف الفعل الإنساني أمام السلطان الإلهي التشريعي ، إذ الناس غير مقهورين أمام تلك الإرادة ، ومن هنا صح العقاب وجاز الثواب وحمي في المحصّلة "العدل الإلهي" من التجاوز الذي مارسه "المجبّرة" .

وفي النوع الثاني من الإرادة وهي "الإرادة التكوينية" كان المراد لازم التحقق ، والسّلطان الإلهي ناجزا فعليّا ، ولا يتخلّف في نتيجته عن مراده تعالى ، وهو من قبيل قوله للشيء : كن، فيكون ..فتمّ بذلك حماية "السلطان الإلهي" من التجاوز الذي مارسه "المفوّضة" .

ومن السيّاسة إلى الكلام ، ومن الكلام تحوّل البحث في الإرادة والحاكميّة الإلهيّة إلى بحث في علم أصول الفقه، وبدأ الحديث عن حدود التدخّل الإلهي في التّشريع ومدى إحراز الفاعل البشري مساحة في حركة التشريع الإسلامي، فظهرت أقوال وأطروحات تنطلق من فكرة "الإسلام منهج الحياة" و "دستورنا القرآن" للحديث عن تغطية شاملة من قبل الشريعة والوحي لكلّ مناحي الحياة ومستلزمات الحركة في الواقع ..وبدأ الكلام عن كون النص الديني يجيب عن كلّ نازلة وواقعة ويؤطّرها ضمن حكم شرعي واقعي ، ولازال يتناهى إلى علمنا أن هناك من يفتي الناس من منطلق اجتهادي معنونا تلك الفتاوى بعنوان " أنت تسأل والإسلام يجيب" فعجبنا لوحدة الحال تلك بين المفتي و حكم الله الواقعي ، لكننا لما راجعنا كتب أصول الفقه ومذاهب المسلمين في ذلك ، فهمنا هذا الموقف كخط فكري طرح في سياق تاريخي ولا يزال يحرز في الواقع مواقع متقدمة على صعيد جمهور المسلمين..

وفي هذا البعد تحديدا تطوّر النقاش الديني في مستويين :

1 ــ كيفية تغطية النص الديني للواقع المتحول ؟ مع العلم أن النصوص محدودة والنوازل غير محدودة ومتكثرة في امتداد خط الزمن.

2 ــ نوعية الحكم المتوصّل إليه من قبل الفقهاء وعلاقته بمراد الله في الواقع ؟.

1 ــ كيف يغطّي النص الديني المحدود وقائع غير محدودة ؟.

سؤال جوهري أثير ولا يزال للنقاش الفكري إلى يومنا هذا ، وهو سؤال مقلق للفكر الديني عموما وللفكر الإسلامي خصوصا ، وقد شطر الوعي الديني الإسلامي إلى قسمين من أنماط التفكير والتعقّل لهذه القضية : فاتجاه انطلق نحو المحدّد الكمّي بغرض محاصرة تدفق الوقائع في نوازلها وقضاياها المستجدة ، فارتأى أن النص الديني في بعده الكمّي أجاب عن كلّ سؤال وعالج كلّ القضايا ، بما فيها القضايا المستقبلية والمتوقعة الحدوث ..

واتجاه آخر ارتأى أن البعد الكمّي في النصوص لا يمكنه أن يحلّ المشكلة ، وأن يجيب عن هذا السؤال المعرفي المقلق ، وأن المحدد النوعي في المقابل هو الكفيل بذلك ، حيث وصف قسما كبيرا من النصوص بكونها تتضمن صيغا وتعبيرات كلّية قابلة للانطباق على مصاديق متنوعة في الخارج ، وبعضها قد يكون له وجود حقيقي ذهني وإن لم يتحقق خارجا ، فكما يقول المناطقة " الوجود الحقيقي أعم من الوجود الخارجي " لاشتماله أيضا على الوجود الذهني ..

وهذا بالضبط ما سمح بالحديث عن مفهوم "الاجتهاد" بوصفه تفريعا لحكم جزئي على قضية جزئية من قاعدة كلية وحكم كلّي ..

وقد تباين الموقف الفقهي الإسلامي تاريخيا من مفهوم الاجتهاد ، ولكن في حقيقة الأمر إن قمنا بتحرير لمحلّ النزاع لوجدنا أن لا خلاف حقيقيا قد قام حول أصل مفهوم "الاجتهاد" بل دار في مجمله حول اصطلاح "الاجتهاد" لا حول حقيقته ، فينتفي النزاع بانتفاء وحدة جهته ، حيث الموقف النقدي الذي انطلق من بعض اتجاهات الفكر الإسلامي كان يريد محاصرة إحدى صور "الاجتهاد" لا عنوان "الاجتهاد" ..فبعض صور "الاجتهاد" تلبست بشكل القياس المنطقي التمثيلي القائم في جوهره على وجود نوع مماثلة صورية جزئية لا نحرز من خلالها العلة الحقيقية للحكم على نحو من القطع واليقين أو على الأقل لنشوء حالة من الاطمئنان..وهذا ما عرف ب"القياس الحنفي" في ظلّ تجاذب الاستقطاب بين مدرستين فقهيتين : مدرسة الحديث بزعامة الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه وبعض تلاميذه كالإمام مالك بن أنس ومدرسة الرأي في العراق ممثلة بزعيمها الإمام أبي حنيفة النعمان .
ونحن لا نقبل القول الذي يذهب إلى كون الاجتهاد حاجة ضرورية في غير عصر النصّ ، إذ نعتقد أنّ الاجتهاد كمفهوم لا يتراجع أمام تغطية النص لحدود الزّمان ، بل يجد مبرّره في ظلّ عدم تغطيّة النص لحدود الزمان والمكان معا ، فعدم تطوّر وسائل الاتصال والتواصل في عصر النصّ ، بوصفه زمنا تاريخيا من عمر تطور العلوم ، يدفع بالسؤال عن كيفية تغطية النص في عصر النص للنوازل الواقعة في البلدان والأمصار البعيدة عن مكان صاحب النص أي النبي أو الإمام الذي يتولى حفظ الشريعة وبيان معالمها ؟..

إنّنا من خلال قراءتنا لكثير من البحوث الفقهية أو الأصولية ، فإنّنا نجد مفهوم "المكان" مغيّب عن تاريخية تطور مفهوم "الاجتهاد" ، وهو مفهوم لا يقلّ أهمية عن مفهوم "الزمان" في تحديد ماهية الحاجة إلى العملية الاجتهادية بوصفها ضرورة ملحّة لبناء صيرورة إنسانية حضارية ، يتكامل فيها خط الاستخلاف النوعي الإنساني مع خط الشهادة الإلهية .

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة ليمثل بحق السؤال الإشكال هو : إلى أيّ حدّ يمتدّ السلطان الإلهي التشريعي ؟ وفي أيّ حدّ تنطلق الفاعلية البشرية لممارسة أدوار تشريعية ؟ وهل يمكن القبول بفكرة "البشر المشرّع" في مقابل "الإله المشرّع" ؟! أم أن الفكرة تنطوي على خطورة بالغة تقود إلى خلل عقدي كبير ؟ ..

إنّ الخوف من أن يتحوّل البشر إلى فاعل تشريعي في مقابل الفاعل الإلهي التشريعي دفع بالكثيرين من أنصار الصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية إلى تبني رؤية مناهضة لحاكمية البشر لكونهم يموضعون البشر في جهة التنفيذ لا في جهة القرار والتشريع الذي هو من مختصات المولى عزّ وجلّ .

كون الشريعة ذات سمة شمولية ، وكون الحاكمية التشريعية من مختصات المولى عزّ وجلّ ، فكلّ ذلك جعل الفكر الإسلامي في قسم منه ينحاز لرؤية مناهضة للاجتهاد البشري في مستوى حركية التشريع ..

وفي هذا السياق طرحت فكرة جريئة من داخل الوسط العلمي الإسلامي ، وهي فكرة "منطقة الفراغ التشريعي" التي صاغها وعبّر عنها الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر رحمه الله ..

تنطلق هذه الفكرة من رفض أوّلي لكون الشريعة تضمنت على نحو كمي أجوبة تفصيلية في شكل أحكام شرعية واقعية ، وذلك يمثّل عنصر قوة في حركية الشريعة لا حالة من حالات العجز أمام تطور الواقع وتحولاته.. فالشارع الحكيم فسح المجال أمام الإنسان كي يساهم في بناء الصرح التشريعي ، لكن ذلك يظل محكوما بضوابط خاصّة ومحدّدة ، وهي نفس ضوابط العملية الاجتهادية المقرّرة في البحوث الفقهية والمعبّر عنها بإيجاز في الرسائل العملية ضمن شرائط الاجتهاد .

إنّ نظرية "الفراغ التشريعي" القاضية بلزوم إقرار وجود مساحة تشريعية يغطيها مفهوم "الاجتهاد" بآلياتها المعروفة ، خضعت بدورها للمناقشة العلمية بين فقهاء المسلمين ، حيث حاولوا تفسير هذه النظرية وتبرير وجود هذه المنطقة –أي منطقة الفراغ التشريعي- فمن قائل بكونها ليست سوى المباحات من الأحكام ، ومادام المباح من الأحكام التكليفية الخمسة ، والحكم التكليفي من أقسام الحكم الشرعي ، فلم تخرج منطقة الفراغ التشريعي عن دائرة الأحكام الشرعية ..وقائل بأنّ هذه المنطقة هي مجعولة لإعمال الأحكام الولائية التي يمارسها ولي الأمر بما هو حاكم له من التدابير الخارجية ما يحتاج إلى تغطيتها بالجواز الشرعي ، لكونها تتعلق بالأهم ، والأهم هو مصلحة المجموع وإن كان مهما مصلحة الفرد ..وقائل آخر بكون منطقة الفراغ التشريعي هي أحكام شرعية ثانوية منقلبة عن أحكام شرعية أولية ..

ولا تزال هذه النظرية خاضعة للمناقشة العلمية ولتأسيس مواقف منها ، بين قائل بشمول التشريع لكلّ موضوع ، وقائل بوجود منطقة فراغ تشريعي متروكة من قبل الشارع نفسه للفعل الاجتهادي البشري ، كي يعمل نظره فيها وفق قواعد مجعولة مخصوصة لتلك العملية الاستنباطية ..

ومن هنا ، نستطيع القول جازمين أن كل دعاوى تجديد المناهج الدينية التي طرحت في سياق مكافحة ما يسمى "الإرهاب والتطرف" تقتضي منا موقفا محدّدا وهو نفس موقفنا من الاجتهاد وممارسة العملية الاستنباطية ، فالتجديد إن أريد به تجديد النظر وإعمال الاجتهاد ، فنحن معه دائما ، فنحن ضد الجمود على الاجتهاد الواحد والقراءة التاريخية الواحدة ، لكنّنا كما اشترطنا لممارسة العملية الاجتهادية شرائط ، فالأمر كذلك في هذا المورد بلا فرق ، فنقاشنا ينصبّ أساسا حول الجهة التي يطلب منها تجديد المناهج ، وآلية التجديد ..أي أنّنا قد نتفق معكم في كثير من المبادئ لكننا قد نختلف معكم في كثير من التفاصيل .

المهم، وكخلاصة لهذا العنصر ، نقول إن النصّ الديني المحدود كمّا هو غير محدود نوعا ، فبعض النصوص الدينية كما قلنا سابقا "متون" وذات صبغة كلية ووظيفتها إحكام الفهم الديني وتملك قدرا كبيرا من توليدية الأحكام الشرعية ، وهذا بالضبط ما يقوم به الفقيه في إطار ما يصطلح عليه ب " العملية الاجتهادية" .

2 ــ ما هو نوع الحكم المتوصّل إليه من قبل الفقهاء ؟ ومدى مطابقته للحكم الشرعي الواقعي؟
في نوعية الحكم المتوصّل إليه من قبل الفقهاء ، ومدى مطابقته للحكم الشرعي الواقعي ، وقع جدل كبير داخل الوسط الفكري الإسلامي تاريخيا ، بين قائل بأن تلك الأحكام المتوصّل إليها من قبل الفقهاء بواسطة الاجتهاد هي أحكام ظاهرية محتملة الإصابة للواقع وقابل لعدم المطابقة ، وقائل آخر بأن تلك الأحكام المتوصّل إليها هي أحكام واقعية أو أحكام ظاهرية تم تصويبها لتطابق الواقع ، أو انقلاب الحكم الواقعي وفقا للأحكام الظاهرية ، المهمّ أن الإثنينية منتفية بين حكم الله في عالم الثبوت والحكم المتوصل إليه من قبل الفقهاء في عالم الإثبات ..
سمّي الاتجاه الأول ب "المخطّئة" لأنّهم احتملوا الخطأ في نتيجة العملية الاجتهادية وعدم إصابتها حكم الله في الثبوت الواقعي ، وسمّي اتجاه آخر ب "المصّوبة" لأنهم قالوا بإصابة الحكم المتوصّل إليه من قبل الفقهاء دائما الواقع ، وإن اختلفوا في تصوير كيفية الإصابة للواقع كما ذكرنا ..

عموما، ارتسمت في الأفق معالم مشهد فقهي يتسم أحدهما بنوع من المرونة وعدم إسباغ طابع القداسة على إعمال نظر الفقهاء، واتسم آخر بنوع من الثبوتية والوثوقية، بالرّغم من وجود محدّدات معرفية تسمح بتأسيس التمايز والتغاير بين الحكم الشرعي الواقعي والحكم المتوصل إليه من قبل الفقهاء بالاجتهاد ..

وعموما نقول إن مسألة الحاكمية الإلهية لا تمثّل عائقا أمام مشاركة الإسلاميين في الحياة المدنية، بشرط إقرار المعلوم من الدين بالضرورة من أصول وفروع وعدم تجاوزها، وفتح باب الاجتهاد أمام ذوي أهلية الممارسة الاجتهادية كما هو مقرر في كتب الفقهاء، حرصا على عدم تأسيس حالة الفوضى والتسيّب الديني، مع التزام رؤية مرنة تقدّر أنّ ما ينتجه الفقهاء قديما وحديثا هو تراث فقهي يحترم من جهة الجهد المبذول فيه، لكن يبقى دون مرتبة القداسة والعصمة، ويباح فيه النقاش والنقد بغرض تطويره ..

وفي مواجهة الفكر العلماني نقول : الحاكمية الإلهية مبدأ إسلامي ، يؤكد شمول الشريعة في التشريع لمساحات واسعة ، ولا نجد حقيقة مبرّرا للحملة على الفكر الإسلامي وحملته من قبل هذا التيار العلماني ، مع العلم أنّ التشريع في العالم الإسلامي في أكثر أبوابه مستمد من غير الشريعة الإسلامية ، باستثناء الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث ..ومع ذلك يحرص الفكر العلماني أن يغطي هذه المساحات القليلة المتبقية بمدونات مدنية وضعية ، فالإسلام ينسحب تدريجيا من ساحة التشريع ليتحوّل فقط إلى حالة إيمانية وروحية فردية شأنه في ذلك شأن الأديان الأخرى التي حرّف مسارها العام عن مقاصدها الحقيقية .

إن كنّا ندافع عن الفكر الإسلامي في مواجهة التيار العلماني الإقصائي ، غير أنّنا لا ندافع عن التراث الإسلامي بالجملة ، بل ندعو لتقوية فكر إسلامي تنويري قائم على حركية اجتهادية تدفع بالإسلام إلى واجهة الأحداث ، ليصنع الحضارة من جديد ، ويغذيها برؤى وتصورات نافعة للإنسانية جمعاء ..

2 ــ "تخليق السياسة أو فصل الأخلاق عن السياسة" :

"الأخلاق" منظومة قيمية لا تنفكّ عن طبيعة التصوّرات السّائدة والمهيمنة على الأنساق الفكرية والتعبيرية لدى الإنسان ، وقد احتدم الجدل تاريخيا في الأوساط الفكرية الإسلامية عن مصدر تلك المنظومة القيمية وتلك التصورات المرتبطة بمفاهيم : الحقّ ، الخير ، الجمال . فدار النقاش حول قدرة العقل في استقلاليته المعرفية ، ودون توسط مصدر معرفي آخر في تشخيص القيم ووصفها بالحسن والقبح وهي أوصاف معيارية يطلب معرفة مدى ثبوتها والكشف عن طريقها المعرفي ..

ونعتقد أنّ هذا الأمر يحيلنا مباشرة على أنماط من الفكر الإسلامي ، تتمايز معرفيا بحسب تموضع مفهوم العقل وفعاليته في النشاط الفكري والحضاري، ولا بأس من الإشارة إلى قضية العقلانية في الفكر الإسلامي والموقف منها :

أ ــ "سلطان العقل" : الموقف من العقلانية في الفكر الإسلامي :
عبارة "الإنسان حيوان ناطق " لطالما اشتهرت في الأوساط الفلسفية بل إنها تحولت إلى مفردة ضمن خطاب شعبي عام ، والناطقية الموصوف بها الإنسان في مقام تعريفه إشارة إلى المنطق وتعقل الأشياء ، لا إلى الوظيفة الكلامية للسان كما قد يتبادر للأذهان .

فالإنسان كائن حيواني عاقل ، والعقل عنصر مفارقة عن الجنس الحيواني وعنصر معانقة لخصوصية الذات الإنسانية ، فكان العقل كما يقول المناطقة فصل للنوع الإنساني عن غيره من الأنواع المشاركة له في الجنس الحيواني .

من هنا كان العقل يمثل جزءا مقوما لإنسانية الإنسان ، وفصلا مخرجا للأغيار عن مشاركته في ذاتياته ..فالعقل هنا مقوم ذاتي أساسي بدونه لا يمكن الحديث عن وجود إنساني حقيقي ، فصار العقل عنوان مرتبة وجودية احتلها هذا الكائن المسمى " الإنسان " ..كما أن العقل له وظيفة كشفية بتوسطه عالم العلاقة بين العاقل والمعقول ، فكان انكشاف المعقول لدى العاقل بالعقل علما ، ووصف الإنسان بصفة العلم لما كان عاقلا ، واستحالت نسبة تلك الصفة له إذا ما أزحنا مفهوم العقل عن وعيه وتصرفاته ، لحيثية التقابل بين الملكة وعدمها كما يقال ..

فالإنسانية كما قلنا متقومة في وجودها بالعقل ، والمعرفة أيضا لا تحقق لها خارج دائرة العقل خاصة الشق المعرفي المتعلق بالوجود الخارجي أو الذهني الانتزاعي ، بل إن العقل استطاع تشخيص القيم الثابتة في الأشياء المتحققة الوجود عينا أو عنوانا ، فأمكن وصف الأشياء بالحسن والقبح وتم تحديد ما يجب علمه "العقل النظري" كما تم تحديد ما يجب عمله "العقل العملي".. وإن جادل وكابر في ذلك من خالف حسه ووجدانه وداخلته الشبهة في أبده البديهيات.

لكن هذا الكلام المتعلق بقدرة العقل على صياغة نظرية المعرفة أو نظرية القيم لم يسلّم به في كل دوائر التراث الإسلامي وظلّ محلّ جدل كبير على صعيد المحاججة والسّجال الفكري تاريخيّا وإلى يومنا هذا ..وإنّنا لنجد فائدة عظيمة في فتح هذا النّقاش من جديد ، لأجل موقعة العقل في المكان المناسب من خارطة الوعي الديني ، وتفعيله كمفهوم وكقيمة في اتّجاه عقلنة الوعي الدّيني وترشيده ..في وقت يتأكّد فيه النّزوع نحو الحرفية النّصوصية أو الذهنية الخرافية ، وفي كلّ ذلك من شأنه الإساءة إلى صورة الفكر الإسلامي بما هو فكر تنويري ينطلق من العقل بالعقل إلى العقل.

*مفهوم "العقل " في الفكر الديني الإسلامي :

ممّا لا شكّ فيه أنّ الوحي يمثّل عنصرا بارزا في الفكر الديني بشكل عام ، وهو بعد غيبي له مدخليّة كبرى في رسم المعالم المعرفيّة والأنساق القيمية الإنسانية ، لكن هل يمكن للوحي أن يكون بديلا عن العقل ؟ أم أنّ الوحي بدوره في حاجة للعقل لبناء التجربة الدينية للفرد والجماعة ؟

فدخول الوحي كمصدر معرفي في الفكر الديني لا شكّ أنّه سيساهم في بناء مشهد ثقافي متنوع ومختلف إزاء قضية العقل والعقلانية ، بين دائرة تتّجه نحو تقليص مفهوم العقل إلى أبعد حدود بما يشبه الإلغاء ودائرة تتّجه نحو جعل العقل ضمن علاقة طولية مع الوحي بما يمكن اعتباره خادما للمنقول ..واتجاه آخر تنويري داخل الحقل الديني يرى في العقل مصدرا معرفيا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه ، بل يكون دوره مركزيّا في مرحلة ما قبل بناء التجربة الدينية ..

إنّ البون شاسع بين اعتبار العقل جهة استقبال للتكليف الشرعي ومناط الثواب والعقاب واعتباره شريكا للوحي في بناء نظريّة المعرفة وكذا نظريّة القيم ..ففي الاتّجاه الأوّل يتم تجريد العقل من وظيفته الكشفية عن المعقول والقيم الثابتة فيه، في حين تتأكّد تلك الوظيفة الكشفيّة ويتعزز موقع العقل في صياغة الوعي الديني وتمثّلاته الخارجية .
إنّنا هنا أمام خطّين في الفكر الديني : خط استتباعي للعقل وخط آخر عقلاني في وعيه الديني..ولنا عودة لبيان ذلك بما لا يخلّ بمقام الاختصار في العنصر الموالي .

*جدل المعقول والمنقول في التراث الإسلامي :

نظرا لمكانة الوحي في نظرية المعرفة في التراث الإسلامي فإن العقل اتّخذ لدى الخطوط البيانية مكانة هامشية كأنما تريد بذلك حماية الوحي من سلطان العقل، وحصر السلطنة في الشريعة ، فظهر إشكال وهمي مفتعل بين العقل والشريعة ، عكس بشكل واضح وصريح ضيق الأفق الذهني لأنصار الحرفية النصوصية ، الذين هم في الواقع أساؤوا كثيرا للنقل في الوقت الذي ظنوا فيه أنهم ينتصرون له، إذ الوحي في حقيقة الأمر والواقع يحرز كينونته الفعلية داخل السياق العقلاني لا خارجه ..

وقد أبانت العقلانية الرشدية للفيلسوف ابن رشد عن تمامية الاتصال بين عوالم العقل والشريعة كما في كتابه " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال " ، ممّا أماط اللثام عن عقلانية من داخل الفكر الديني الإسلامي أقامت موائمة بين الحكمة والشريعة ، في الوقت الذي حمل فيه الفكر الضيق الأفق ثنائية حادة حملت اسم " المعقول والمنقول " انتهت على الصعيد المنهجي إلى تقليص مفهوم العقل ووظيفته إلى حدوده الدنيا ، إلى ما يشبه حالة " اغتيال العقل " على حدّ تعبير د.برهان غليون .

وهكذا وجدنا أنفسنا أمام اتجاه بياني همّش كثيرا دور العقل في مقابل النقل واتجاه آخر برهاني أعلى من شأن العقل ليجعله بذلك شريكا للنقل في بناء التجربة الدينية ..وهي عناوين لاتجاهات شطرت الوعي الديني في التراث الإسلامي كما سبق أن أشار إلى ذلك د.محمد عابد الجابري في حديثه عن الدوائر المعرفية الثلاث في التراث الإسلامي {الاتجاه البياني / الاتجاه البرهاني / الاتجاه العرفاني} .

3 ــ دور العقل في بناء النسق المعرفي والقيمي الديني :

بذريعة وصف العقل بالمحدودية ووصف العوالم الغيبية باللامحدودية حاول اتجاه من داخل الفكر الديني الإسلامي الإجهاز على مفهوم العقل ووظيفته الكشفية المعرفية ، فالمحدود لا يمكنه الإحاطة باللامحدود فلا يمكن التعويل على جهاز معرفي محدود في سياق المعرفة الدينية ..

فقيل مثلا أن النقل إمّا أنّه جاء بما يوافق العقل أو بما يخالفه ، فإن كان موافقا للعقل كان استغناء النقل عن العقل ممكنا مادام المؤدّى واحد والمطلوب حاصل على كلّ حال ، وإن كان مخالفا وجب التمسك بالمنقول وترك المعقول..

وكلّها مغالطات صريحة ترمي إلى إلغاء فعالية العقل واغتيال وظيفته الكشفية ، فالشريعة تركت للعباد منطقة فراغ تشريعي واسعة كي يتم الاستثمار في سياقها بواسطة العقل ، كما أنّ استنباط الأحكام الشرعية بدورها لا تتمّ خارج دائرة العقل وهو ما اصطلح عليه علماء أصول الفقه بالأدلّة العقلية في عملية الاستناط الشرعي ، فعملية "الاجتهاد" عرّفت بأنها عملية "استخراج الأحكام الشرعية من مداركها المقررة " ، فالعقل يقوم بدور كبير في إطار عملية الاستخراج أو التشقيق أو التفريع كما يحلو للأصوليين تسميتها ..فكيف يمكن الادّعاء بأنه من الممكن الاستغناء عن الفعالية العقلية وضرب العقل عرض الجدار والتحلّل من سلطان العقل احتماء وتحصّنا بالنّقل ؟..

لعمري إنّ التحلّل من سلطان العقل من شأنه أن يقود إلى تقويض معالم التجربة الدينية وضربها من أساساتها الأولى ، فكيف يمكن البناء على غير العقل في تأسيس مفهوم الإيمان الديني ؟ فالدليل النقلي لا يمكنه ذلك للزوم ذلك إشكال الدور الباطل وجدانا أو التسلسل الامتناهي الذي لا يقل في بطلانه عن سابقه.. فالعقل هو الأصل المولّد لتلك القناعات الأولى وأيضا هو شريك النّقل في بناء التجربة الدينية .

وفي الحديث عن العقل والعقلانية لابدّ من الإشارة والتنبيه إلى كون العقل هو محور المعرفة خاصة في بعدها المتصل بالوجود الخارجي للأشياء وعالم الانتزاع الذهني ، ومردّ هذا التخصيص في المقام إلى كون بعض الدوائر العرفانية في التراث الإسلامي تحدثت عن كون المعرفة بالذات أو كما يسمّونها " المعرفة الشهودية-الانكشافية " لا توسّط فيها للعقل ولا للواسطة الصورية وهي منشأ الخطأ والتوهّم ، لكنّ عالم هذا النّوع من المعرفة ذات النفس الإنسانية والمعرفة في هذا السياق حضورية لا حصولية.

غير أنّنا نشير في هذا المقام إلى أنّه مع التسليم بوجود هذا النّوع من المعرفة غير الصورية أو الاستقرائية ، غير أنّنا لا يمكننا التسليم بالبعد السوسيولوجي لهذه المعرفة التي تعبّر عن تجربة فرديّة محضة لا تقبل النّقل والانتقال والإحالة إلى سياق المحاججة والاستدلال ..من جهة كونها تقع خارج العقل فلا يمكن تقييمها بالعقل إثباتا أو نفيا ، بل يذرها في عالم الاحتمال والإمكان ، فكل ما لا يوجبه العقل ولا يحيله فإنه في حد الاستواء بين الوجود والعدم ثبوتا وإثباتا.. ومن جهة أخرى ، لتعبير تلك المعرفة العرفانية عن حالة داخلية مختصة بالعارف نفسه وهو ما لا يقبل التعميم.

فالمعرفة العرفانية لعدم ارتكازها على العقل في سياق المكاشفة والانكشاف لا يمكنها بناء نظرية المعرفة القائمة على أسس وقواعد محدّدة.. كما لا يمكنها أن تتحوّل إلى مصدر معرفي إلزامي ذو عمق اجتماعي ..فحضور العقل في سياق معرفي "المعرفة البرهانية" يجعله أكثر تأثيرا وأوسع نطاقا وأدقّ تقعيدا، وضموره في سياق معرفي آخر يجعل من تلك المعرفة فاقدة لشرطها الحجاجي وبعدها السوسيولوجي .

وأخيرا، نقول إنّ الوعي الدّيني لا يمكن ترشيده بدون التّأكيد على مركزية العقل في الوعي والنّهوض الحضاري بالمجتمع، والارتقاء به من خلال تطوير أنظمته المعرفية وأنساقه القيمية نحو الكمال والرّشد في سبيل المشاركة على الأقل في صنع الحضارة وبناء المجتمع الحديث.

وأيضا، نؤكد هنا على أنّ العقل والوحي شريكان في بناء منظومة القيم، فمن القيم الأخلاقية ما تم إدراكها عقلا قبل ولوج عالم التجربة الإيمانية، فتم تعزيزها من قبل الدين نفسه، وهناك قيم أخرى ساهم الدين في بنائها وتأسيسها فهي قيم دينية محضة، تتصف بالقداسة تبعا لقدسية الدين في نفوس المؤمنين به.

ب ــ "السياسة" مجال يجب إخضاعه لمنظومة القيم الأخلاقية :

"الأخلاق" بدورها كانت ولا تزال محلّ جدل كلامي بين المسلمين أنفسهم حول طبيعة المرجعية المحدّدة لتلك الأخلاق.. وموضوع نظرية القيم هو عالم الأشياء في إطلاقها، ويدخل تحت هذا العنوان الجامع عموم التصورات والسلوكيات.. وما نريد الوقوف عنده في هذا العنصر هو: إلى أيّ مدى تخضع العلاقات بين الحاكم والمحكوم إلى تلك المنظومة القيمية المعبّر عنها ب "الأخلاق" ؟ وهل السياسة حقل غير خاضع لتلك القيم وأنها قيم مخصوصة أوجدتها حالة التمايز البنيوي والوظيفي بين حقل "السياسة" ومرجعية "الأخلاق" ؟ ..

وهذه مسألة أخرى شطرت الوعي الإنساني إلى وعي ديني وآخر علماني، وعي يرنو إلى إخضاع كلّ أنواع العلاقات والمسلكيات إلى منظومة القيم، ووعي آخر يميّز العلاقات داخل المجتمع عن تلك العلاقة الأخرى التي تخصّ المجتمع في ارتباطه بالسلطة السياسية، وكأنّنا هنا في هذا المقام أمام منظومة قيمية أخرى تحكم النسق السياسي والعملية السياسية، فرضتها خصوصية الوظيفة والدّور لكلّ من المستويين الفردي والاجتماعي .

ولنا الحق أن نسأل عن مصدر ذلك التمييز القائم بين القيم السياسية من جهة والقيم الفردية والاجتماعية من جهة أخرى ، فالحق كما يقول علماء الأصول بأنّ الأصل العام والمطلق يحتاج في إثبات دعوى تخصيصه أو تقييده إلى وجود مخصّص أو مقيّد لذلك العموم أو الإطلاق .

والأصل أن وحدة القيم تحتاج في تفكيكها وتمييز ما هو سياسي منها عن ما هو فردي اجتماعي إلى دليل يؤكّد هذه الدعوى، وقد يدّعى بأنّ هناك حركية معيارية متجددة من داخل نسيج القيم نفسها ، ف"الصدق" قيمة أخلاقية إيجابية لكنّها قد تتحوّل إلى قيمة سلبية في بعض الموارد، وكذا "الكذب" قيمة أخلاقية سلبية قد تتحوّل إلى قيمة إيجابية في بعض الموارد، فالواقع المتحوّل هو ما يضفي صفة معيارية إيجابية أو سلبية على هذه القيمة أو تلك ..فما المانع من أن يكون الواقع هو المولّد لتلك القيم، والدّين بدوره لا ينكر ذلك، بل أثبت أنّ الصدق المؤدي إلى تهلكة النفس والمؤمنين حرام شرعا، وأنّ الكذب في حالة توقف بقاء العلقة الزوجية قائمة جائز إن لم يكن واجبا..

ونعتقد أنّ هناك شبهة طرأت على من نحوا هذا النحو من التفكير والاستدلال، إن لم نقل أنها مغالطة صريحة، فـ"الصدق" دائما قيمة إيجابية، ولم يحدث هناك أيّ تحوّل من داخل القيمة، بل حدث تعارض بين قيمة إيجابية مهمّة وهي "الصدق" والتعريض بالنفس وإيذاء الآخرين ذات القيمة السلبية، فحيث هناك تزاحم بين أمرين أحدهم مهمّ وهو الصدق والآخر أهمّ وهو حفظ النفس، فإن العقل والشرع يحرصان على حفظ الملاك الأهمّ ولو أدّى ذلك إلى التفريط بالملاك المهمّ، دون أن يقودنا ذلك إلى القول بأن الصدق كقيمة أخلاقية تحوّلت من الحالة الإيجابية إلى الحالة السلبية.. وأيضا "الكذب" دائما قيمة أخلاقية سلبية ، إنما حدث تعارض وتزاحم بين حفظ الصدق وهو مهمّ وبين عدم هدم الأسرة وهو أهمّ عقلا وشرعا، فجاز مع ذلك ترك المهمّ في سبيل حفظ الملاك الأهمّ، ولم يتحوّل "الكذب" إلى قيمة إيجابية كما قيل ..

فالواقع ليس مولّدا للقيم، بل هناك تراتبية من داخل منظومة القيم، تسمح بتجاوز بعض القيم والتضحية بها في سبيل حفظ القيم الأعلى منها ، فالمنظومة واحدة والتراتبية علّتها تفاوت الملاكات وتشكيكيتها لا غير..
الحديث عن كون ما يفيد الفاعل السياسي هو حسن، وما لا يفيده قبيح، وعن كون هذه التصنيفات تقتضيها السياسة، وأن الحقل السياسي له ما بإزائه من أخلاق، وأن ذلك قد لا يتفق كثيرا مع منظومة الأخلاق التي يؤكد عليها الدين..يجرّنا لمناقشة مفهوم "المنفعة" التي يتحدّث عنها كمشكّل للحكم المعياري بالحسن أو القبح، وموقف الفكر الإسلامي من هذا التصوّر..

إنّنا إن قمنا بفحص الخطاب العلماني وسبر أغواره حول مفهوم "المنفعة" ، فإننا سنجد أنفسنا أمام تصوّر فرداني للمنفعة، يحكي عن المنفعة التي يجنيها الحاكم من وراء قمع أو احتواء الأطراف المنافسة ، ويحكي عن المنفعة التي يجنيها الحزب الفلاني أو الحزب الفلاني الآخر من خلال الصعود للمشاركة في السلطة أو الاستيلاء على السلطة.. ولذلك نصح ميكيافيلي في كتابه "الأمير" الحاكم باتباع مختلف الأساليب الملتوية في سبيل تحقيق غرضه السلطوي الذي هو في نهاية المطاف "المنفعة" التي يجنيها من وراء فعله السياسي، حتى قيل "الغاية تبرّر الوسيلة"..

عموما قاعدة "التزاحم" ليست قاعدة حقل إعمالها فقهي فقط ، بل هي قاعدة جوهرية في كل مناحي الفكر الإسلامي، ونحن كمسلمين نؤمن بحرية الفرد وندعو لحفظها وعدم استعباد الناس أو التسلط على رقابهم بمنطق استبدادي، ولكننا في الوقت ذاته نرى أن حرية الفرد ليست مطلقة بل هي مقيدة بحدود وضوابط أخلاقية وإنسانية أكد على حفظها الشرع وعمل على صيانتها بنفس الدرجة والقوة التي أكد فيها على حفظ حقوق الأفراد وحريتهم الفردية.. فالمسألة تدور مدار المصلحة والمفسدة ، وتزاحم المصالح بين المهم والأهم ملاكا، كما تزاحم المفاسد بين السيئ والأسوء ملاكا، هو ما يحدد وجهة الحكم الشرعي، ومسار فقه الأولويات في حفظ القيم ..

عموما نعتقد أن الحقل السياسي لا يمكن أن يكون مجالا محايدا عن مفاعيل القيم الأخلاقية، كما لا نعتقد بوجود قيم أخلاقية سياسية مغايرة للقيم الأخلاقية في العرف الفردي والاجتماعي، غاية ما هنالك أن دينامية التغير الحاصلة بسبب تقديم قيمة على أخرى، جعلت الكثيرين يتوهمون بأن القيم غير ثابتة ومتغيرة، أو أن هناك قيم فردية يحكمها الدين والعرف.. وقيم أخرى سياسية مردها خصوصية الوظيفة والدور في سياق الحقل السياسي.. فالأخلاق كمنظومة قيمية لا بد أن تحكم العلاقات السياسية كما تحكم البعد الفردي في ارتباطه بالمحيط الاجتماعي ..

 عصام احميدان الحسني رئيس تحرير موقع الخط الرسالي بالمغرب

المصدر: موقع الخط الرسالي بالمغرب

www.ressali.com