علي مولود الطالبي وشمس على ثلج الحروف: الحلقة الأولى.... كريم مرزه الاسدي

 

 

 

 

 

  الطالبي : و ( شمسٌ على ثلج الحروفْ) :

ما بين القوسين ، هو عنوان الديوان الثاني للشاعرالعراقي علي مولود الطالبي  ، يخطـّه بمنهوك الرجز المذيل ( مستفعلن مستفعلان ) ، ولكن لماذا ؟ أقول لماذا اختار هذا العنوان الحضري في مضمونه ، و البدوي في موسيقاه ؟ من حقـّه أن يكون شمساّ ، ساخنة ، ثائرة ، منفعلة ، متفاعلة ، ولكن أين موطنُ الثلج ، وصمتُ الحروف ، يا تـُرى ؟  فعندما ندخل ديوانه العربي ، نـُفاجَأ بـ  (قصائد نافرة)، وفي (لسان ) ابن منظور : " وكلّ جازع من شيء نفور "، ويوردها نافرة بالكسر ، بمعنى " فرّت من قصوره" ، ونافرة بالفتح، بمعنى " مذعورة" ، وفي كل الأحوال هنالك اضطراب نفسي  وجزع وذعر وقلق  ونفور وثورة على "ثلج الحروف " ، وتسألني هل هذه الانفعالات ينبثق عنها الشعر؟ أقول لك : عرّف الشعر مَن عرف ، من غير قول القدماء كابن قدامة : إنـّه كلام موزون مقفى دال على معنى ! قولهم : الشعر وليد الشعور ، والشعور تأثر وانفعال رؤى وأحاسيس عاطفه ووجدان صور وتعبيرات ألفاظ  وأنغام موسيقى  ، يمتزج فيه غياهب العقل الباطن بأدراك العقل الواعي ، أو هو لغة الخيال والعواطف لما يمنح اللذة والمتعة ، أو ما يبث العقل والوجدان من ألم عميق ، وزقير طويل ، أو ما عرّفه الدكتور إحسان عباس :   الشعر في ماهيته الحقيقية تعبير أنساني فردي يتمدّد ظلّه الوارف في الأتجاهات ألأربعه ليشمل ألأنسانية بعموميتها ، والشعر عندي - أنا كاتب هذه السطور- هو الشعر وكفى ! ما أدري ما ماهيته سوى الغيب ينزل إلهاماً ، وأحيلك إلى قول الطالبي نفسه في إهدائه : " إلى إنسان ٍ يركض خلف الغيب ، بحثاً عن لغة الشمس . " ، هذا الإنسان عندي هو الشاعر ، ولغة الشمس ، هي لغة الشعر لا غير  ! أمّا إذا أردت مني سعة خيال الشعر ، إليك مني أيضاً قول صاحبي نفسه : " أتأمل الغيم لو إنكسر... كيف سيكون ، شكل المطر " !! ربما لا مطر ، حتى لو أمطر الماطرون ! وربما هو مطر الجن والملائكة وما يسطرون ! .

سأدخل معك الديوان ، ومثلي مثلك ، لا أعرف ما في كوامنه ، و لا ما يوجد في تجاويف محاره ، ما زلنا لمّا نغص ، ولو أنني مهّدت لقراءة الديوان بسلسلة مقالات ورؤى كتبت عن الشاعر وشعره  - كعادتي مع غيره - وسأقدمها إليك في الحلقة الثانية بتعريف عن الطالبي الإعلامي الشاعر ، مقرونة برؤيتي ، إن لزم الأمر  .

1 - سيقان الغيّاب :

المهم ندخل مع الشاعر بعجالة إلى بهو القصيدة الأولى التي أوسمها ، كما تقول البوابة ( سيقان الغيّاب ) ، لا نعرف أولاً هذه (السيقان) ، هل هي سريعة لتلتهم الصحراء  كي تصل الديار ، وقت الشدائد ؟!  :

كشفت لهم عن ساقها ***    وبدا من الشر الصراح

وكلّ ُ الأثقال يقع عبْؤها على السيقان  ، أم بطيئة عاجزة كعجز ابن زريق البغدادي و (لا تعذليه ) ؟! أم ..أم ..؟ ثم لماذا ( الغيّاب ) ، وليس بالغرباء مثلاً ؟ هل هو الغياب المكاني فالغربة يعني ؟! أم الغياب الزماني فيقصد به التغرّب النفسي ؟ لم أرَ أيّ تاريخ ، أو مكان يشيران إلى متى وأين ولدت القصيدة ، وهذا يعيق مهمة الناقد  ، نواصل مع الشاعر للوصول إلى القصيد ، ومطلعها :

شقيًاً على وجه الغياب بدا دمُكْ *** وشاعرة ٌ تلكَ الجراحُ وتنظمُكْ

لا أكتمك القول - يا عزيزي القارئ الكريم - تفاجأتُ جداً لهذا المطلع الشقيّ شقاء شاعره ، ومعاناته ، ولهذه الاستعارة المكنية في (الغياب ) ، وأكرر القول : لا أدري عقبى الغربة أو التغرب ، ويردفه بالدم ، وباستعارة أقسى و أمض في ( الجراح) التي تنظمه شعراً ، البيت المطلع ينمُّ على قابلية كبيرة في نظم الشعر العربي ، ويذكرني بمطلع من أروع قصائد الجواهري :

أتعلمُ ام انت لا تعلمُ ***  بأن جراحَ الضحايا فمُ

قصيدة شاعرنا الطالبي من البحر الطويل

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن *** فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

وللطويل (عروض) واحدة (مفاعلن) ، والقصيدة طبعا من هذه العروض ، و(ضربها)  مثلها ، وتقطيع المطلع :

شقيًاً على وجه الغياب بدا دمُكْ *** وشاعرة ٌ تلكَ الجراحُ وتنظمُكْ

شقيْيَن على وجْهلْ  غيابِ  بدادمكْ*** وشاعِ  رتنْ تلْكلْ  جراحُ  وتنْ ظمُكْ

فعولن   مفاعيلن  فعولُ    مفاعلن  *** فعولُ  مفاعيلن   فعولُ   مفاعلن 

ولعلمك رجاء : فعولُ ، عولن ، عولُ  من جوازات (فعولن) في الطويل .

مفاعلن ، مفاعيلُ  من جوازات (مفاعيلن) في الطويل.

القافية : الروي : الميم ، المجرى له ، الضمة ، الوصل : كاف المخاطب ،والوصل ساكن لا نفاذ له ، وبالتالي لا حرف خروج . ولفظ القافية: متدارك ، فالقافية لا هي بالمتأنية الهادئة ، ولا هي بالسريعة المتراكبة المتلاحقة ، مما يعني أن نفسية الشاعر حين النظم ، لم تكن باردة الطبع حتى الهدوء والتأمل ، ولا جزعة قلقة تبث الآهات بلا حساب و لاكتاب , وإنما متوازنة في سلوكها و أمرها ، ولو هي في أوج انفعالها , وربما حاسمة بدليل الكاف الساكنة !

أكثرَ الشعراءُ الجاهليون  ، ومن جاء بعدهم حتى اليوم ، من هذا البحرغير الرتيب في موسيقاه المشوقة (فعولن  مفاعيلن) ، والمتسع لتضمين المعاني ، فركبوه في لياليهم الطويلة ، وبيدائهم ، ورددوه في حماساتهم وفخرهم وقصصهم ، ورعونتهم ، وحكمهم ، هل ياترى شاعرنا نظم هذه القصيدة الطويلة بحراً في ليلة شتائية باردة طويلة ، أم أنهكته الغربة الطويلة - أو هكذا يحسب هو - فأخذ يجرّ مواويله ، لنتابع معه , ولا تضع بحسابك أننا سنطيل معك المقام ، وهو نفسه قد شعر بذلك قبلنا ، فلم ينظم من الأبيات سوىما يقارب ستة عشر بيتاً، ولكنها غاية الروعة ، فخلـّصها من الترهّل المذموم ، وصدّرها ديوانه المعلوم :

وصحراءُ روحي رغم ورد حدائقي *** كمثل غناءٍ بات نزفاً يرممُكْ

إذن  كما حسبت من قراءتي للعنوان ، الرجل أصيل في بداوته العربية ، وصحرائه الموحشة القاحلة ، رغم تحضّره ، أخذ يحدو في ليله الطويل ليرمم ، ، يرمم ماذا يا ترى ؟ هل يقصد بوجهه وطنه العراق الحبيب ، كما ألفته من شعره السابق ، وما كُتب عنه من قبل محبيبه ونقـّاد شعره ؟!! ، أصبحت قصتي مع قصيدة الطالبي ، كقصة الفرزدق مع قصيدة الكميت الأسدي " طربت وما شوقاً إلى البيض أطربُ " !!  ، وإليك من طالبينا :

أؤول عشقي للبلاد قصيدة ً *** ويسألني التأويل منَ ذا سيفهمكْ ؟

أي بلاد هذه التي يبغيها الرجل ؟ هل بلاد ليلي بالنسبة لقيس مثلاً ؟ أم بلاد الأندلس بالنسبة لشوقي ثانياً ؟ ويقيني أن العراقيّ أبداً ودائماً مشغول ببلده العراق ، لكثرة غربته وعتمته ووحشته ، وما جرّت عليه المآسي والجور من تجرّعها رغماً ، ومن هنا جاء السؤال القانط " من ذا سيفهمك ؟ " ، وأهل مكة أدرى بشعابها ، وتحليل أنفاس ناسها !!: 

رهين غيابات الجباب وأخوتي*** بعيدون باللاشيء سوف أترجمكْ

ظمئتُ  وماء الله بيني وبينهُ ***** زمـــانٌ وأصقاعٌ فكيف سـألثمكْ

في البيت الأول إشارة إلى ما ورد في القرآن الكريم - سورة يوسف - " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب .." ، والجباب جمع جب ، وهو البئر ، وحشو ( وأخوتي بعيدون) أكثر من إبداع ، وجاءت الجملة في مكانها المناسب ، بل واللازم  دون تكلف ، ومن منّا ينسى أخوة يوسف ؟! , وكذلك حشو كلمة (زمانٌ) في البيت الذي يليه ، لا أستطيع بالطبع أن أتركك في وسط الصحراء والأصقاع قبل أن أصل بك إلى العراق :

صروحٌ أقامتها النجوم على يدي *** تـوضّأ في لألالئها العذب زمزمكْ

فيا وطني عيني تحاول أن ترى***وشعري على بعد المسافات يرسمكْ

الخيال في البيت الأول ما بعده خيال !، وإيحاء ما بعده إيحاء !  بمجازه المرسل في صروحه ، واستعارتيه المكنيتيَن االملهمتيَن في نجومه السرمن رائية ، بل كل العراق سرّ من رأى ، لو كانوا يعقلون ، وكم من زمزم عذب في أحضانه ، لو كانوا لهم أوفياء مخلصين ، إذ يتذكرون ، وفي البيت الأخير قطع الرجل علينا الظنون بـ (بُعد المسافات ) ، فالقصيدة - إذن -  ولدت في مصر الكنانة أنـّى  كانت الرؤيا لا الرؤية ، وكان الرسم لا الرسم !!

2 - نشيدٌ من بياض :

ماذا يريد الطالبي بهذا العنوان الأخر ؟ هل أراد نشيد الصحراء البيضاء من نفاق البشر ، وهو الناشد للحق في مسامع الضالين ؟! كقول القائل :

كما استمع المضل لصوت ناشدْ

تفضل معي ، وهذا الشاعر يقرأ ما أقول ، وأنا أقرأ ما يقول :

سلاماً  ...عزفنا لهذي الدّنى *** كما عزفت نجمتان سنى

فواحدة ٌ: للقلوبِ الضّعافِ الـْ***لـَتي ذابَ معدنها منْ ندى

وأخرى ، ترقرقُ صمتَ الخلودِ**فلا خوفَ مما بدا أو حدا

سلامٌ...تعشـّـق ألحاظـُنا *** فصرنا - نرى الفقرَ فينا جنى

وبتنا نرى الخيرَ منْ صوبنا *** بلا أيِّ ثوبٍ يوازي الفنـا

وأوطاننا عزفتْنا  سلاماً *** يضاحكُ سفحـــاً كهمس لمى

هذه (المقصورة) من البحر المتقارب التام المحذوف ، المتقارب التام  يتكوّن من ثمان تفعيلات   (فعولن ) ، والمحذوف :

فعولن فعولن فعولن فعولُ *** فعولن فعولن فعولن فعلْ

فالعروض (فعولن) ، ينتابها هنا زحاف القبض فتصبح (فعولُ) ، أو زحاف الحذف فتكون (فعلْ) ، أما الضرب فدائما في هذا التام المحذوف (فعل) ، وهذا يعني أن للشاعر حرية في الأخذ والعطاء في صدر بيته ، ويكون جازما في تمرير أحكامه في (ضرب) عجزه ، ولسهولة نظم هذا البحر، وجمال نغمته , وسرعة لفظه، تلاقفه الشعراء في فخرهم ، وأناشيد صحرائهم ، فلا جرم أن ينظم المتنبي العظيم (مقصورته) الشهيرة على هذا البحر المحذوف حين قطع البيداء متوجهاً من مصر إلى العراق ، ومنها البيت  الشهير :

وقلتُ لها أين أرض العرا ق *** فقالتْ ونحن بتربان ها

و(ها) في قافية البيت ليس ضمير المؤنث الغائب - ولو قد  أورد أبو يعلى التنوخي في (قوافيه) شاهداً للجواز استعمالها ، وذكرأنّ أبا العلاء المعري ينكر هذه (الألف) أنْ تأتي روياً - وإنما هذه الـ (ها) للتنبيه , والألف أصلية فيها، والحقيقة لايمكن في المقصورة قصر الممدود ، وتخفيف الهمزة ، والمتنبي التزم بقواعد الشعر قي مقصورته التي تتضمن ثلاثة وثلاثين بيتاً ، فجاء بالألف التي من أصل الكلمة فقط , والجواهري امتدّ بقصيدته المقصورة متجاوزاّ القواعد ، فقصر ، وخفـّف ، ليصل بها إلى سبعة وثلاثين ومئتي بيت ، وأصل مقصورته قبل الضياع ، تتشكل من أربعمائة بيت تقريباً، ومما يجدر ذكره ،الجواهري نظم على المتقارب التام المحذوف أربعة من أروع قصائده (المقصورة ) و (أمنت بالحسين) و (أخي جعفر) و ( سلامٌ على حاقدٍ ثائر ِ) .

  نعود لشاعرنا الطالبي ، فأرى لو كتب (سنى) بالألف الممدوة أفضل مما هي عليه الآن ، وأكثر شيوعاً ، ولو ورد الفعل سنى بالشعر الأموي ، بمعنى سهّل أمره :

إذا الله سنى عقد شيء تيسرا

والبيت الأخير مما نقلنا من نشيد شاعرنا، حسب وجهة نظري، لو صيغ بالشكل الآتي :

وأوطاننا عزفتْنا هَنـَا * ** يضاحكُ سفحاً كهمس اللمى

بدلنا (سلاماً) بـ (هَنا) من الهناء ، لأن البحر المتقارب التام المحذوف ، لاتستساغ أن تأتي (عروضه) صحيحة (فعولن) ، و (سلاماً وزنه فعولن) ، إنما تأتي (لعروض) ،إمّا مقبوضة (فعولُ ) ، أو محذوفة (فعلْ) ، وإضافة الهمس للمى  عندي أجمل ، وبيتٌ مضى أيضاً، لو كان كما سأكتب ، ربّما يكون أفضل للتخلص من عروض (فعولن) في متقاربه المحذوف  :

فواحدة ٌ : للقلوب الضعافِ *** وما ذابَ معْدنها من ندى

وهذه الهفوات البسيطة -إن صحت -لا تقلل ن جمال القصيدة وإبداعها ، وإيحاءاتها ، وصورها ، وبلاغتها ، واستعاراتها ومجازاتها وتشبيهاتها وأحاسيسها، فلا ريب أنها نشيد ، وقد أكثر الشعراء المعاصرون من محذوف هذا البحر في أناشيدهم المدرسية ، بل تهافت عليه الحداثويون التفعيليون في روائعهم !

 و حاول الطالبي جاهداً - على ما يبدو لي -  أن يجعل كلَّ ألف في روي قصيدته من أصل الكلمة دون وصلها أو تخفيفها أو قصرها ، ولكن وردت مثل ما مرّ علينا من قبل ( يوازي الفنا ) ، والفنا من الفناء ، وسيطلُّ علينا (المسا)، والمسا من المساء ، ولا أرى في ذلك عيباّ ، ولا شذوذاً ، ولا استهجاناً ، والجواهري قد تعداه بمراحل في هذا المجال ، وإليك ما تيسر من (مولود) :

سلامٌ لبلداننا ما ارتوتْ**من الضّوء ريحٌ تدقُّ المسا

لكلِّ أناسي السلامُ وقدْ *** شهدنا العبيرَ جنينَ الرّبى

مقامة ُدمع ٍبطعم النبيذ ***  وترشفها... عودة ً لصبا

اللحظات التي نظم فيها الطالبي (نشيدٌ من بياض) ، جزماً أحسن حالاّ ووسعاً من تلك التي طاردته بغربته وضيقه (سيقان الغيّاب) ، فلا تندهش بعد أن أقحمكَ بـ ( شقيّاً ودمك والجراح) ، أن يبادرك بـ (سلاماً و عزفنا والنجمتان)!! ، ولا ريب أنَّ القصيدة (السيقانية) أكثر توّهجاّ إنسانياً ، وشاعرية متألمة ، وإحساساً صادقا من توأمها النشيد الذي قدّم لنا فيه السلام مراراً ، والعزف تكراراً ، والنجوم واللمى والأزهار والرّبى ..نعم أنه نشيد لحياة ، وإن مرّ بتعرجات الفقر والبؤس والعوز، ولكن دون مأساة غيّاب المعاناة ، والله الموفق من حال إلى حال !!          

 

 

ملاحظة :أستميح الشاعر والقارئ الكريم من أنني كتبت قصائد الشاعر على الشكل العمودي بشطريه الصدر والعجز ، وليس كما وردت في الديوان بنصوص مفتوحة، كما يكتب شعر التفعيلة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ