كنت ذاهباً لعيادة صديق لي، قبل أن يغادر خارج الوطن للعلاج، وأنا في الطريق إليه، لم أفكر في مرضه الذي أتاه بغتة، ظناً مني، أن هذه الدنيا لن تتركه قبل أن تنصفه، بعد أن ولد في حرب وعاش في حروب، دخلت إلى بيته الهرم، الذي لم تلوثه أموال السحت والحرام، بل بقي محافظاً على كرامته وهيبته، على خلاف أغلب قصور وبيوت ما بعد 2003.
حكاية تتبعها أخرى، تمازجها ابتسامة من صديقي، لا أعلم أهي ابتسامة زائفة؟ أم مستهزئة بالحياة؟ بعد سنين قضاها في دراسته، حيث كان متفوقاً على أقرانه، فرسم بذلك أحلام تناطح السماء بأملها، وإذا به فجأةً، يحزم أمتعته ليترك أرضه التي لم يعقها يوما، لكنها لم تبره أبداً! وأنا أنظر إليه، شامخاً كشموخ نخيل العراق رغم ضمأها، لم تهزه عاصفة المرض.
انتهت الزيارة، وأنا اغادر بيته، في تلك الليلة السوداء الباردة، خرج معي، وعيناه تتحدثان بعتاب شجي، لوطن لا يستطيع علاج أبناءه، بعد أن دمر الفاسدون كل آمال الحياة فيه، وسرقوا ونهبوا ولم يتركوا حتى للمريض علاجه، حدثني حديث مودع، مخذول من أحلام راودتنا من قبل؛ إلا أن القدر حطمها وحولها لسراب.
لا يوجد شيء في تلك الليلة، يبعث على الحياة، كل شيء لوثه الفاسدون، الطريق الذي نمشي عليه طريقاً ترابياً، بحَ صوت صديقي وهو ينادي بأكسائه، أسوةً بشوارع المسؤولين لكن دون جدوى، لم يصله أحد إلا عدد من الإنتهازيين، الذين أتوا بالوعود قبل أيام من الانتخابات، وبعدها نسوا الشارع وأهله! لم أدرك أن هذا اللقاء هو الأخير بيننا، فودعته وكان ظني أن نكمل أحلامنا سويةً.
ليلة سوداء أخرى، حطمت كل شيء، وفرقت بيننا، فراق ليس بعده لقاء، عندها تذكرت تلك الأيام التي عشناها سويةً، بحلوها ومرها، بفرحها وحزنها، كان أملنا بوطن آمن، بعد أن أخذت منه الحروب مآخذها، خال من الفساد، لكن سنين ونحن لا نرى إلا فساداً متزايداً، وإرهابا متفاقماً، وفي كل مرة نقول لعل القادم أفضل.
صديقي عذبتك الحياة بمفارقاتها، فيها يكرم المسيء لإساءته، ويعاقب المحسن لإحسانه، تركتنا في وطن، أي وطن؟ تتكالب عليه النكرات فتقرر مصيره، فصار المصير مجهولا، فاشلون، فاسدون، أشباه رجال، عاثوا في البلاد فساداً، أخلد في أخرتك، ودعنا نصارع ويلات ذنبنا، ذنبنا إننا ولدنا في هذه الأرض الطاهرة، التي نجستها خنازير الفساد والدجل!
|