مقاربات الثورة والفساد..

نحاول جاهدين استقراء الوضع العراقي ووضع نقاط معينة ومحددة لما يعانيه المجتمع وماتمارسه اداراته السياسية او السلطوية الفاشلة الا اننا دائما نقف امام ظواهر غير قابلة للتفسير ولا يمكن مطلقا ارجاعها الى قواعد اجتماعية متعارف عليها سابقا كالجهل او الخوف ، فمهما بلغت درجة الجهل الان كواقع يسمح باستغلال الفرد والشعوب فانها لن تصل الى تلك الدرجة التي كان فيها العرب في مطلع القرن العشرين كما الحال ايام ثورة العشرين ضد الانكليز وما تلاها من حركات نحو الاستقلال اواسط القرن العشرين مع انتشار الوعي القومي واليساري وحركات التحرر العالمي والعربي في مصر وسوريا والعراق وغيرها، فمن المفترض ان العالم اليوم بكل القياسات اكثر وعيا مما كان عليه انذاك، ناهيك من ان الجميع نساءا ورجالا شيوخا واطفالا يعرفون الان طبيعة معاناتهم ويعرفون اسبابها، اذا مالذي يجعل المواطن بهذا الخنوع والخضوع للذل والمهانة وهو يرى الاقزام والجهلاء والجبناء يسوقونه سوق العبيد؟..

اهو الخوف ؟.. اليس هذا هو ذات الشعب الذي ارعب الانكليز بثورة العشرين وانقلاب بكر صدقي عام 1936 و انقلاب رشيد عالي الكيلاني عام 1941 ثم ثورة قاسم عام 1958 وماقبلها من انتفاضات شعبية ومظاهرات اعطى الشباب العراقي فيها ما اعطى حبا بالوطن وبالكرامة.. ثم اليس هؤلاء هم العراقيون ذاتهم الذين خاضوا اعتى حرب في التاريخ لثماني سنوات مع ايران قدموا فيها انهرا من الدم في سبيل وطنهم وكرامته.. ثم ايضا اليس هؤلاء هم العراقيون الذين قارعوا نظام صدام ودخل الكثير منهم في غياهب السجون دفاعا عن كرامتهم ومعتقداتهم.. وايضا اليس هم ذاتهم هؤلاء الشبان الاحرار الذين يقفون اليوم في ساحات التحرير غير مبالين ببطش الميليشيات وارهاب اجهزة الدولة المتعسفة المتعددة..

مالذي اذن يمنع هذا الشعب الان من الانتفاض لكرامته وتغيير طريقة ادارته لضمان مستقبله ومستقبل اجياله؟..

ما الذي يمنع هذا الشعب الذي يزحف بالملايين حبا في الامام الحسين (ع) ايام عاشوراء من الزحف بالالوف تجاه المنطقة الغبراء ايضا حبا في الحسين الذي حارب الظلم والطاغوت والفساد؟..

الم يقم (المشاية) واللطامون بطقوسهم الحسينية رغم انف نظام صدام.. الم يصطدموا بجبروته مرارا وتكرارا، فلماذا هم اليوم شكاؤون بكاؤون ينتظرون الفرج من عالم الغيب وهم نائمون في بيوتهم ويعلمون جيدا ان الله لايغير شيئا حتى نغير ما بانفسنا؟ ويعلمون ايضا ان الله امرنا ان نغير ماهو منكر بايدينا!!.

ايخاف هذا الشباب الذي زحف لقتال داعش مضحيا بكل ماهو عزيز عليه، متطوعا حتى دون اجور او راتب يسد رمق عائلته وهو يعلم ان قتال داعش اصعب كثيرا من قتال الفاسدين والعملاء من حكامه، لكن المفارقة الكبرى هنا ، ان هذا الشباب يستشهد في سواتر القتال ضد داعش ليحيا فاسد هنا في المنطقة الغبراء..

مقاربات ليست لها تفاسير منطقية او معقولة، فالامر لايتعلق بالجهل ولا بالخوف، ولعل الطافي على السطح الان والذي ينادي الجميع بمحاربته بمافيهم الفاسدون انفسهم هو الفساد، فالشعب بكل فئاته من بسطاء ومثقفين وسياسيين حقيقيين وسياسيي الصدفة يدعون الى محاربة الفساد دون ان يفهموا ان لاسبيل الى ذلك، فالفساد ليس هو اس الداء بل هو عارض بسيط للعلة الكبرى ، ولو كان الفساد هو المشكلة الكبرى والحقيقية لما توانى رئيس الوزراء العبادي وبعد ان حصل على تفويض ودعم الشعب والمرجعية في الضرب على رؤوس الفاسدين واصلاح ما افسده الدهر كما يقال ولكان قد اصبح بطلا تاريخيا ومثلا تحتذيه الشعوب إلا انه لم يفعل ذلك ولن يفعل مستقبلا، وقد يظن البعض ونحن ايضا انه ليس بقادر على ذلك وانه قد تخاذل في لحظة تاريخية قلما تتوفر لسياسي ليس في العراق فحسب بل في كل انحاء العالم، الا ان الحقيقة عكس ذلك تماما فالعبادي قد وازن بين بقاءه في السلطة وبين موته ، ثم بين بقاء الحال الفاسد على ماهو عليه او تدمير العراق تماما فاختار افضل الحلول، وافضل الحلول هذه ليست بقاءه على قيد الحياة وفي السلطة فحسب بل ببقاء العراق ميتا سريريا دون اعلان شهادة الوفاة.

فوصف العراق كدولة وكشعب ليس منطقيا وليس له مثيلا ، سلطة تتنازعها قوى دولية واقليمية وتتقاسمها عموديا ميليشيات مسلحة اجرامية وافقيا ادارات مافيوية عميلة واجبها الهدم والتدمير والسلب والنهب، شماله خارج عن القانون وغربه ضائع في متاهات داعش والصراع الدولي حول الهيمنة اما جنوبه فهو مرتع للعصابات والميليشيات والمخدرات والخرافات، اما شعبه فقد قسمته الولاءات، فبين الطائفيه والحزبية والولاءات الشخصية العشائرية او الدينية هناك اكثر من ستين ميليشيا كلها تمتلك قوة السلطة وقوة المال والسلاح ودعم دول الجوار.. فلم تعد هناك سطوة حقيقية للقانون او هيبة للدولة، والسلطة لم تعد مركزية فتعددت مراكز القوى والقرار وساكنوا المنطقة الخضراء ليسوا سوى ممثلين لمصالح الاخرين الذين ذكرناهم من قوى اقليمية او دولية او دواعش او ميليشيات وليس بينهم على الاطلاق من يمثل الشعب.

فاي الحلول اذن يرتجيها الباحثون او المناضلون الحالمون بوطن حر وحياة كريمة؟..

2

الحلول الممكنة تقتضي دائما فرصة ممكنة وفي المجتمعات التي تمتلك تقاليد ونظم جماعية موحدة وهوية واضحة قوية تتوفر دائما الفرص الممكنة للحفاظ على الهوية والتقاليد متى ما شعر المجتمع بوجود تهديدات حقيقة تجاهها، ومن المؤسف القول ان مع فقدان العراقيين لهويتهم الموحدة وفقدانهم للتقاليد الاجتماعية التي لم يؤسسوا لها اصلا على مدى قرن مضى فقدوا الفرص الممكنة للتقدم ولبناء مستقبل اجيالهم القادمة فالعراقيون ربما هم الشعب الاوحد الذي استعان بالاجنبي للتخلص من حاكم شعروا انه كان دكتاتورا او ظالما واعتقدوا ان الاجنبي سيكون عادلا خادما لمصالحهم وليس مصالحه، وهكذا فرح جل العراقيين بما فيهم مرجعيتهم الدينية بالاحتلال الاميركي للعراق بحجة ازاحة النظام الدكتاتوري وتحقيق الديمقراطية التي لم تجلب لهم سوى الماسي والخيبات والمستقبل المظلم، وهاهم الان مرة اخرى يبحثون عن حلول ممكنة

وعن وسائل اخرى للتخلص من واقعهم المر وماساتهم المتواصلة، وكما هو معروف للجميع كان تبرير الاستعانة بالاجنبي للخلاص هو عدم توفر الامكانية للتغيير من الداخل، فهل وجد العراقيون الان امكانية التغيير داخليا؟...

ولنستعرض معا الخيارات التي يمكن بواسطتها تغيير حال سيء في كل المجتمعات والشعوب سواء كانت ديمقراطية النهج او دكتاتورية ولنحاول ان نجد مايمكن للعراقيين اختياره كطريق للثورة والتغيير..

احدى اهم الوسائل هي الاستعانة بقوة الشعب الضاربة وهي الجيش، والجيوش في كل مكان في العالم هي القوة التي تحمي البلاد وكلمة البلاد تعني الارض والسماء ومابينهما من بشر ونبات وحيوان وثروات، والجيش العراقي قبل حله وبناء جيش جديد كانت مساهماته واضحة في هذا المجال وضباطه كانوا على قدر من الوعي بواجبهم الوطني المناط بهم ولذلك سعى المحتل اولا لهدم هذا الجيش وبناء كيان جديد ضعيف بقادته وعدته وعتاده، وكانت نتيجة ذلك انهياره في مواجهات عديدة مع شراذم وعصابات كانت لاتستطيع التنفس امام قوة المارد العراقي سابقا، فخسرنا الموصل وتكريت والانبار ومابينهما وكذلك خسر الجيش ثقة الشعب، وحتى الانتصارات القليلة المتعثرة التي تحققت اخيرا لم تكن بجهوده الخالصة بل كانت بتعاون التحالف الدولي والميليشيات، واصبح هذا الكيان المسلح الذي يسمى بالجيش ياتمر باوامر قادة الميليشيات ورجال الدين والصعاليك والمتطفلين، ومع وجود قادة جهلاء فيه وامرين من مايسمى بضباط الدمج تعددت الولاءات فيه واصبح مرتعا للفساد والتامر والخيانة ولم تعد الوطنية عقيدة له ولهذا فقد اصبح كليا خارج الحسابات الوطنية للحفاظ على الدولة وحماية البلاد، ومع ذلك ولو افترضنا وجود صفوة فيه تتفق على حب الوطن ووحدته وتخطط للقيام بعمل ثوري انقلابي فلم يعد وضع العراق كسابق عهده، ان تقوم فئة باحتلال القصر الجمهوري والاذاعة واذاعة بيان رقم واحد وينتهي الامر،فالقصر توسع الى عدة قصور وكل قصر مركز قرار وسلطة مدعومة بدولة اجنبية ومافيا فساد وميليشيا مسلحة والاذاعة لم تعد مركزية واحدة فلكل حزب او ميليشيا اذاعات وفضائيات، ثم والى جانب ذلك فبغداد لم تعد كسابق عهدها مركزا للسلطة وادارة الدولة فكل محافظة الان هي صورة مصغرة لكل التوصيفات التي ذكرنا سابقا، اذن فان خيار الانقلاب العسكري لم يعد قائما او متوقعا وان حصل باي شكل ما فان النتائج ستكون كارثية بلاشك على البلاد..

ومن الوسائل الاخرى التي اعتمدتها الشعوب سابقاهي الكفاح المسلح كما حدث مثلا في كوبا منتصف القرن الماضي، وباختصار فان الكفاح المسلح يعني وجود جهات اقليمية او دولية ساندة وداعمة بالمال والسلاح ويعني ان هناك حربا قائمة بين الشعب وقوى السلطة المستبدة واتباعها والمغرر بهم والمستفيدين من الوضع القائم، وهذا الخيار ايضا لامجال لحدوثه في العراق بسبب تمزق الهوية العراقية اولا وغياب التنظيمات الحزبية والنقابية الوطنية القادرة على ان تمثل قطاعات واسعة من الشعب ثانيا مع تواصل الجهود المركزة التي يقوم بها رجال الدين لتجهيل الجماهير وتغييب وعيها الوطني ثم والاهم فقدان ثقة المواطن بنفسه وبكل من يحاول ان يقدم نفسه ولو ضحية وفداءا لهذا الشعب ..

وفي هذه الحالة ستكون امام الشعب خيارات اخرى قليلة، منها الاستعانة بقوى دولية للتغيير مثلما حصل عام 2003 ولكن من هي الدولة القادرة الان على التدخل في العراق من اجل مساعدة العراقيين على التغيير؟.. حتى اميركا التي تدخلت سابقا وازاحت نظام صدام لم تعد لديها ذات الاسباب التي استطاعت

خداع العالم بها ودفعه للسكوت عن تحقيق اهدافها، وايضا لم يعد بامكانها السيطرة على الوضع في العراق بسبب تعدد مراكز القوى والولاءات فيه والمهم في كل هذا الجانب هو ان مصالح اميركا تقتضي بابقاء العراق ميتا سريريا حتى تتمكن من الاستمرار في تنفيذ مخططاتها في المنطقة ككل وليس العراق فحسب، وليس من مصلحتها مطلقا ان ينهض العراق ثانية وان يعود كما كان عليه كيانا له وزنه وتاثيره في المنطقة..

3

بعد كل ذلك فان ما يعول عليه كحل يعد هو الاوحد والابعد منالا في نفس الوقت لاحداث التغيير في العراق هو ثورة الجماهير الغاضبة التي ستسحق باقدامها كل اوثان العبودية والعمالة والفساد وتدمر بمسيرتها كل اوكار الطاغوت والميليشيات المجرمة وترفع عن كاهلها سنوات الضيم والقهر والاستهتار بالكرامة والحرية والقانون ولكن تلك الثورة ليس من السهل تحققها رغم الكوارث والمآسي التي يعيشها الشعب لسبب بسيط جدا وعميق جدا ايضا وهو تفتت الهوية والوحدة الوطنية نتيجة تعدد الولاءات العشائرية والدينية والحزبية واستشراء الفساد ليس في اوساط السياسيين ورجال الدين فحسب وانما حتى بين طبقات المجتمع وفئاته وشرائحه المتعددة اضافة الى سطوة الميليشيات والعصابات المسلحة.. واذا كان تصورنا لثورة الجماهير في انها حلم بعيد المنال فماهي اذن طبيعة الحركة الجماهيرية الغاضبة التي انطلقت في مختلف محافظات العراق في نهاية تموز وبداية اب من العام الماضي، الم تكن ثورة ؟..والجواب على هذا هو ان ما حصل هو احتجاجات متفرقة في المكان وفي الاسباب وفي الاهداف ولذلك لايمكن ان ترتقي الى مستوى الثورة في اقرب واكمل صورة عرفناها وهي ثورة الجماهير المصرية التي لم تهدأ على مدى سنتين حتى حققت اهدافها بالكامل؟..

فتعدد اماكن المظاهرات في المحافظات وبغداد وعدم اجتماع واجماع المتظاهرين في مكان واحد سهل طريقة التعامل معها والاستفراد بناشطيها والضغط عليهم ومنع الكثير منهم باساليب الترهيب والوعيد وخطف واعتقال بعض ناشطيهم جعل من تلك الاحتجاجات روتينا معتادا دون ان يكون له التاثير المطلوب على اداء الحكومات المحلية وكذلك الحكومة الاتحادية وهذا ايضا دليل واضح على ان الشعور الحالي لدى المواطن هو ان بغداد لم تعد مركز القرار ولم تعد تمثل له رمزا لوحدة الوطن.. والاسباب الانية التي دعت المحتجون للتجمع في ساحة التحرير او ساحات المحافظات لم تكن بقوة اسباب ثورة جماهيرية مستمرة ومتواصلة، فانقطاع الكهرباء وسوء الخدمات وارتفاع درجات الحرارة ليست اسبابا كافية لقيام الثورة اذ ان هذه الاسباب هي في الحقيقة نتائج لماهو اعظم واكبر وهو الدستور والعملية السياسية التي بنيت وصممت لاشاعة الفساد والتدمير والتخريب الاجتماعي والاقتصادي للبلاد والشعارات التي كان يرفعها المحتجون شعارات قد تكون مبكية مضحكة في نفس الوقت، شعارات تدعو لتحسين الكهرباء وكأن العبادي قد أطفا مفتاح التشغيل وعليه ان يعيد تشغيله، شعارات تدعو لدفع الرواتب المتأخرة وكأن الراتب هو الذي سيعيد البلاد الى وضعها الصحيح، شعارات من نقابة الفنانيين تطالب بمنحة المليون دينار المتوقف دفعها لكل فنان، وكأن هذا الفنان سيعيش بكرامته اذا ما حصل على المليون ، شعارات تطالب بتعيين عمال العقود المؤقتين على الملاك الدائم وكأن مشاكل البلاد تتعلق بالتعيينات فقط، شعارات اخرى تطالب باقالة المحافظ الفلاني او عضو البرلمان او مجلس المحافظة الفلاني وكأن المشكلة هي مشكلة افراد بعينهم، واخيرا والأهم

هي الشعارات التي طالبت بالاصلاح، واهمية هذا الشعار تاتي من انه اولا دليلا واضحا على ان مايجري هو احتجاج وليس ثورة ولو كان ثورة لكان الشعار الوحيد الذي يجب ان يرفع هو ( إرحل) كما فعل الثوار المصريون وثانيا هذا الشعار دليل ايضا على قلة الوعي الجماهيري وقصور الرؤية لدى المحتجين، اذ ان المحتجون كانوا يطالبون من خلاله شخصا او جهة للاصلاح دون ان يفهموا انه انما يطالبون العملاء والسراق والفاسدين بالاصلاح، فهل يمكن ان نتصور ان قاضيا يطلب من لص او مجرم ان يصلح حاله، ومن جانب اخر لو كان ماجرى ثورة او حتى مقدمات لثورة، فلماذا لم تشارك قطاعات مهمة فيها، مثلا نقابة المحامين التي تقع عليها مسؤولية كبرى في الدفاع عن الحقوق والحريات والعدالة الا انها غابت عن الساحة تماما وكأن مايجري هو في بلد اخر بعيد نتيجة استشراء الفساد وامتداده الى مفاصل مهمة في النقابة، اما الادباء والمثقفون والصحفيون والفنانون فمن شارك منهم فقد شارك بشكل شخصي وليس نقابيا وهو دليل ايضا على امتداد الفساد الى تلك الفئات وتنوع ولاءاتها السياسية وغياب الروح والهوية الوطنية ناهيك عن نقابات مهمة تعد هي الاولى بحمل الراية والمسير الى اخر الطريق باعتبار قطاعاتها هي الاكثر تضررا ممايجري وهي نقابات واتحادات العمال والفلاحين الا انها وللاسف كانت متفرجة ليس اكثر، اما الصحافة والاعلام فاغلبها قد تعامل في احسن الاحوال تعاملا خبريا مع الاحتجاجات دون ان تتفاعل مع الحدث لتصبح اداة لتاجيج الثورة وادامة الاحتجاجات واعطائها الزخم المطلوب، والاسباب طبعا معروفة ومفضوحة وهي ان اغلب تلك الفضائيات ووسائل الاعلام مملوكة لجهات سياسية متنفذة ومستفيدة من تردي الاوضاع في البلاد..اما الجيش والشرطة وقوى الامن فقد كانت على الحياد في اغلب الاوقات الا انها كانت مهيأة في اي لحظة للتدخل وحسم الموقف لصالح قادتها الفاسدين كما حصل في بابل والبصرة على سبيل المثال، وما حيادها ذاك إلا لأن الاشارات المتوافرة لدى سكان المنطقة الغبراء كانت مطمئنة في ان مايجري فورة لن يطول امدها، وهذا ما حصل فعلا..

والسؤال المهم هنا هو لماذا تراجعت حدة الاحتجاجات بعد فترة لاتتجاوز الثلاثة اشهر من انطلاقها؟.. هل حقق المحتجون اهدافهم؟.. هل تحسنت الكهرباء ام هل تحسن واقع الخدمات الاخرى، ام هو اليأس قد امتد الى نفوس الكثير من المحتجين؟...

من المؤكد ان الاوضاع قد زادت سوءا مع بداية عام 2016 خصوصا بعد الحديث المتواصل عن خواء الميزانية والتوقعات المتواترة عن عدم امكانية الدولة دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين في الاشهر القادمة، ومع ازدياد حجم البطالة بسبب التوقف التام للمشاريع حتى الوهمية منها، فقد كان من المفترض ان يتجدد زخم الاحتجاجات لا ان يتوقف، وهذه احدى المسائل التي ليس من السهل تفسيرها كما قلنا، ولايمكن ارجاعها الى الخوف حيث ان هناك من لم يصل الخوف الى قلبه رغم الاغتيالات والاعتقال والخطف لعدد من الناشطين واستمر الشباب الحر في التظاهر على قلة العدد في كل يوم جمعة وفي اغلب المحافظات.. احد اهم اسباب التراجع والتراخي في حدة الاحتجاجات هي تحويلها الى لهو اسبوعي، فالمواطن الثائر لم يعطي لوطنه سوى ساعات قليلة من يوم الجمعة اما باقي الايام فالوطن غائبا فيها وكان المآسي والكوارث لاتحصل إلا يوم الجمعة فقط وبهذا تحولت الاحتجاجات الى روتين اسبوعي يمكن للسلطات تحمله وتبادل النكات والضحكات مع مغيب الشمس ثم العمل والتخطيط في ايام الاسبوع الاخرى لكيفية احباط المتظاهرين وكسر شوكتهم بمختلف اساليب الترهيب والترغيب، فامتد الشعور لدى المواطنين جميعا محتجين

ومتقاعسين بفقدان الامل والحماس للمتابعة.. والاغرب من كل هذا ان المرجعية الدينية التي لبى الكثير نداءها للتطوع في الحشد الشعبي لم تلق اذنا صاغية وهي تعبر عن غضبها من الاداء الحكومي وتدعو الجماهير الى التظاهر، وقد يبرر البعض لنفسه ان نداء المرجعية للتطوع كان فتوى في حين ان الدعوة للتظاهر ليست كذلك ، وهذا تفسير وتبرير مقنع للمترددين والمتقاعسين والكسالى والمهزومين والضعفاء حيث ان الثورة والانتفاض للحرية والكرامة والعدل لاتحتاج الى فتوى، وكان على المرجعية في النجف ان تستوعب هذا الامر وتعمل على اصدار فتوى للثورة وليس الاحتجاج والتظاهر، غير انها في الحقيقة غير مهيأة لذلك بعد. وهذه النقطة تقودنا ايضا الى واحد من اهم الاسباب التي دعت الى التراخي والتراجع في حدة الاحتجاجات وهي عدم تواجد الرمز والقيادة في الميدان، اذ تواجد قادة حقيقين مقنعين يحظون بثقة فئات واسعة من الجماهير له تاثيره الملهم وكان يمكن للمرجعية ومازال بامكانها ان تكون هي رمز الثورة وعنوانها وقيادتها لو انها اتخذت خطوات حقيقية نحو التغيير الا انها ضيعت تلك الفرصة السانحة ، ومع هذا ومع خلو الساحة من القادة والرموز الذين يمكن للجماهير ان تثق بهم وتجمع على ارائهم وخطواتهم يمكن للمرجعية مستقبلا ان تلعب هذا الدور مع تحفظي وتحفظ كل المدنيين والديمقراطيين على ذلك الا انه في الحقيقة سيكون الخيار الاوحد للتغيير اذا ما عاد زخم الاحتجاجات للظهور بقوة وبحشود كبيرة لاحقا..

ان الخلاصة النهائية لمجمل الخيارات الممكنة للتغيير الجذري في العراق هو الانتفاض الجماهيري الواسع باهداف وشعارات حقيقية تنسف العملية السياسية برمتها من خلال الغاء الدستور وايقاف عمل البرلمان وتحويل نظام الحكم الى رئاسي وهذا لن يتم باعتقادي بسبب تعدد الولاءات وتواجد الميليشيات وانقسام الشعب وفقدانه لهويته الوطنية إلا بفتوى من المرجعية الدينية التي لاتزال تحظى باحترام شريحة واسعة جدا في الاقل من الجماهير الساذجة البسيطة التي لايمكنها إلا ان تكون عبدا مسيرا بعقول وارادة الاخرين.