قرار المرجعية الدينية في النجف يوم الجمعة الماضي ، عدم عرض رؤاها في الشأن السياسي أسبوعيا في خطبة صلاة الجمعة، وبيانهاأنه سيكون "حسب مستجدات الامور ومقتضيات المناسبات"، يعني إعلان انسحابها من التأثير في المشهد السياسي في العراق في هذه المرحلة الخطيرة والمفصلية من تاريخ العراق الحديث ، والذي يضع أكثر من علامة استفهام حول توجه المرجعية هذا.
ولدى العودة الى التكييف الشرعي لمسؤولية المرجعية الدينية في التعامل مع الاحداث والوقائع ، فقد ورد في الأثر: (.... فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم) و هذه الرواية منسوبة للامام المهدي (ع) تستمد منها المرجعية الدينية الشيعية شرعيتها في التعامل مع كافة شؤون الحياة ، وهو لايعني ذلك دمج الشأن الديني بالسياسي ، بل يعني : التوجيه والنصح والتحدذير من المخاطر ورأب الصدع ولَّم الشمل بين المتخاصمين بمختلف دياناتهم ومذاهبهم وقومياتهم وأيديولوجياتهم.
والامثلة على قيام المرجعية بتقديم هذه التوجيهات والنصائح عبر التاريخ الحديث كثيرة لا يمكن حصرها هنا ، ومن بينها موقف المرجعية من ترشيح فيصل الأول لتولي العرش في العراق، وكان موقف المرجعية آنذاك وطنياً خالصاً، حيث سعت لأن يستلم العراقيون مقاليد السلطة بأيديهم ليحققوا السيادة الوطنية لبلادهم، ولم تكتف المرجعية بدور لم شمل المسلمين لمواجهة الأخطار والتحديات في العراق فحسب ، بل تعدى ذلك الى دعم حركات التحرر في العالم الاسلامي وعلى رأسها القضية الفلسطينية ، وقد افتى الكثير من مراجع الدين الشيعة بجواز دفع الحقوق الشرعية للقضية الفلسطينية ولفقراء فلسطين، (يُراجع كتاب عباس جعفر الامامي : الدور السياسي للمرجعية الدينية في العراق الحديث)،وهناك أمثلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا.
أما بعد عام 2003 ولغاية اليوم فإن المرجعية الدينية تتحمل المسؤولية التاريخية عن ما جرى وسيجري قبل غيرها ، وهذا لا يعني تبرئة الذين حكموا خلال هذه المدة من إعمال الخراب والدمار الذي سبتته سرقاتهم وفسادهم وقبل ذلك تسيير البلد بالمحاصصة اللعينة ، ولكن المرجعية عنما تتدخل مرة واحدة في السياسة فانها يجب أن تستمر في تدخلها لألف مرة ، والامثلة كثيرة على تدخلاتها في سياسة البلد منذ 2003، وأهمها الدعوة الى التصويت للائتلاف العراقي الموحد ، الذي ضمَّ الاحزاب الشيعية ، في أول انتخابات برلمانية عام 2005 ، وليس آخرها التوجيه بعدم إعادة توَّلي المالكي الولاية الثالثة.
عندما نقول أن المرجعية هي المسؤولة أولاً قبل غيرها ، فإن ذلك يعود الى أن صوتها وتوجيهاتها مسموعة من قبل الجمهور الشيعي الذي يمثل أكثر من ثلثي الشعب العراقي يفوق إستماعه الى سياسي الصدفة من مكونه والذي يقودون البلد نحو الهاوية طيلة 13 عاماً. وهي أيضاً مسؤولة دون غيرها من الجهات الدينية والمذهبية الاخرى ، ذلك ان المكون الثاني في العراق وهو المكون السني لا يمتلك مرجعية موحدة تملي عليه توجيهات معينة أو تعمل على توجيه قرارات قادته السياسيين الذين لا يقلون سوءاً عن أقرانهم من المذاهب والقوميات الاخرى ، كذلك القومية الكردية التي لا تمتلك مرجعية دينية اوسياسية واحدة تُسيِّر دفة قيادتها.
ان استشراف واقع العراق السائر نحو الهاوية وبشكل متسارع ، لاسيما منذ عام 2011 - هذا التاريخ الذي تزامن مع الانسحاب الاميركي ، واستلام المالكي الولاية الثانية عنوةَ ، وزيادة كبيرة في عائدات العراق المالية بعد ارتفاع اسعار النفط ، ووصول الاحتقان السياسي والطائفي ذروته قبيل انتخابات مجلس النواب 2014 ، ليس بين الشيعة والسنة والكرد فحسب ، بل بين مكونات التحالف الشيعي نفسها - جعلني أكتب مقالاً في موقع كتابات في شهر نيسان/أبريل 2014 ، تحت عنوا " بعد المتغيرات الدراماتيكية في المشهد السياسي العراقي الحالي .. المرجعية الدينية الرشيدة والمسؤولية التاريخية بدعم بيروستروكيا شاملة" ، تجدونه على الرابط (/https://www.kitabat.com/ar/page/20/02/2014/23378/html)، قبل شهرين من اجراء انتخابات مجلس النواب وأربعة اشهر من سقوط مدينتي الموصل وتكريت ، وجهتها الى المرجعية الدينية ، طالبتها فيها بالقيام بانقلاب اداري اصلاحي شامل (بيروسترويكا) على الطريقة السوفيتية وحسم الأمر قبل الوقوع في الهاوية وذلك بالتوجيه على منع مشاركة من شارك في العملية الانتخابية السابقة وأهدر المال العام وأفسد وأجرم بحق الشعب العراقي ، بل وعدم ترشيح الطائفيين والسراق والفاسدين لمجلس النواب الجديد او المشاركة في الحياة السياسية مستقبلاً ، والحث على اختيار شخصيات تكنوقراط ممن لم تشارك في العملية السياسية سابقا ، وهو أمر ليس بالصعب على المرجعية في أن توجه الناخبين أو أية جهة مسؤولة عن آليات الترشيح وضمن إطار القانون الذي يمنع الطائفيين والسراق والمفسددين من المشاركة في العملية السياسية . إلا أن المرجعية لم تفعل ذلك لأنها تتخوف من فقدان الاحزاب الدينية الشيعية سيطرتها على المشهد السياسي في البلاد ، وهي نظرة خاطئة ، ذلك أن بدلاء هؤلاء سيأتون أيضاً من بين صفوف الشيعة وسيحصلون على نفس المواقع - أو أكثر أو أقل بقليل - وفقاً لعدد المصوتين من الناخبين الذين أكثريتهم من هذا المكون ، ولكنهم بالتاكيد سيكونون أكثر نزاهة وكفاءة وأقل طائفية وجهلاً.
ان قرار المرجعية الاخير بالتوقف عن توجيه الخطاب السياسي ، كان ينبغي لها أن تتخذه منذ عام 2003 ، لكي تبقى بمنأى عن السياسة ، أو أن تمضي في توجيهاتها وونصائحها وتحذيراتها من المخاطر التي تحيق بالبلاد مثلما بدات به.
التاريخ سوف يذكر للمرجعية ، وللأسف ، بأنها إنسحبت من التأثير في المشهد السياسي في أتون حرب خارجية وداخلية وتهديدات ومخاطر تواجه البلد بأكمله والشيعة تحديداً ، بل والمرجعية نفسها ، دون أسباب واضحة تعلنها لمريديها وأتباعها أولاً ولعموم العراقيين ثانياً. فقط ما سيعيد لها هيبتها ويعمل على التئام مريديها ومؤيديها حولها هو ان تعلن بشجاعة وجرأة أن من يقبع على رأس هرم السلطة في البلاد أن يحيل السراق والفاسدين الى لجان النزاهة و المحاكم بشكل فوري ، بعد تطهيرها وتشذيبها من العناصر التي تقودها وهي المشتركة بالفساد او بالتغطية عليه إرضاءاً للسلطة والسلطان والكتل الكبرى ومافيات الفساد.