الهروب من الكويت خلال إقامتنا المؤقتة في صفوان لم ينقطع عبور الشاحنات الخاصة هاربة من جحيم الكويت، سالكة الأراضي العراقية (العراق أيضا!) عبر بوابة صفوان في طريقها إلى الأردن، كل ساعة أو أقل تمرّ شاحنة أو عربة خاصة صغيرة، تحمل جميعها أفراداً وعوائل من أردنيين وفلسطينيين وسودانيين وصوماليين وهنود وسيريلانكيين وباكستانيين، وكذلك سحن وجوه أخرى غريبة لايمكن تمييزها بوضوح، لما علاها من غبار وتعب وضمادات، هرب الجميع من نار الحرب بكثير من الجروح وقليل من الأمتعة، طُرد الأردنيون والفلسطينيون (وكانوا عمالاً وموظفين في الدولة الكويتية سنوات طويلة)، طردوا بسبب اصطفاف الملك حسين وعرفات إلى جانب الغزو. متعبين مُذلّين مُهانين كانوا، رؤوس بعضهم مضمدة مازالتْ تشخب منها الدماء، بسبب مانالوا على أيدي الكويتيين بعد عودتهم إلى وطنهم، فيما غطت الكدمات وجوه البعض الآخر، كدمات تتدرج بين اللون الكحلي الغامق والأزرق المحمرّ، هم برؤوسهم المضمدة كم كانوا يشبهون جمهرة من المصلين في جامع بالهند فجره الهندوس قبل قليل!. أولئك شعب مُنوَّع آخر أو قل شعوب متعددة خرجت هاربة من الكويت، بعد طول إقامة فيها، كانوا يلوّحون لنا تلويحات غامضة، لايمكن فهمها مئة بالمئة وهم محشورون على ظهور الشاحنات، أحيانا ترتسم على وجوههم المغبرة ابتسامات مغصوبة، شاحبة، يحيونا بأمل الخلاص من نار الحرب: التقت الهزيمة بالهزيمة فحيتْ بعضها بعضا! وانشغلت الكاميرات التلفزيونية كالعادة بتصويرهم في مقابلات تطول وتقصر، ؛حسب استعدادهم وأمزجتهم ورعبهم مما حدث، تتوقف سياراتهم أمام الكاميرات ويقصون بالعربية والانكليزية ماشاهدوه قبل هروبهم من الكويت. مصري يحب صدام! بعدما تتوارى سيارات الشعوب المتنوعة الهاربة من جحيم الكويت، يلتفت المراسلون الأجانب مرة أخرى إلى مجاميع النازحين العراقيين، يسألون باستمرار عمن يجيد اللغة الإنجليزية خاصة، ليصفوا لهم طغيان صدام في العراق، أو مشاهداتهم في مخيم صفوان، وأيضاً مصيرهم بعد انسحاب القوات الأمريكية، ماذا سيفعلون وإلى أين يذهبون؟! أذكر ذات مرة أن مراسل محطة الـ( BBC ) البريطانية طلب من أحد العراقيين الذين يجيدون اللغة الانكليزية إجراء حديث معه، وبينما كان هذا يتهيأ للوقوف أمام الكاميرا إذ ظهر مواطن مصري، يبلغ حوالي الأربعين من عمره، كان وصل من الكويت تواً ويرتدي معطفاً رمادي اللون، تجسس هذا من وراء كتفيّ المراسل البريطاني وكاميرته وقال مخاطباً العراقي : متحكيش حاكَة مش كويسة للأكَانب عن الرئيس صدام!، دول أكَانب والرئيس صدام عربي! وإذا كان البعض منا زجره ونعته بأقسى النعوت لتدخله في شؤون العراق والعراقيين، فقد كاد البعض الآخر أن يصفعه، ما اضطره- تحت هكذا تهديد -إلى الابتعاد قليلاً إلى الوراء، وقدرنا انه لن يعود لقسوة بعضنا عليه، لكنه مالبث أن عاد كأن شيئا لم يحدث، محاولاً افشال المقابلات مع العراقيين، لابل إنه راح يبالغ أحياناً في حبه لطاغية العراق، فيسبق المراسل وكاميرته إلى مجاميع العراقيين للغرض نفسه! موظف من السفارة المصرية بالكويت بعد حوالي أسبوعين من وجودنا في ناحية صفوان، وصل قبل ظهر يوم نيساني معتدل الطقس موظف من السفارة المصرية، وتجمع عدد كبير من العراقيين إضافة إلى المصريين حوله، في الحقيقة وقف العراقيون النازحون يدفعهم الفضول لمعرفة الجديد، بعدما طالت أيامهم في صفوان دون أمل، لكن الرجل لم يلتفت إليهم، فالتفت إلى مواطنيه من العمال المصريين وطمأنهم قائلاً : إجراءات سفركم إلى بلدكم أيها الأخوة من خلال الكويت، تنتهي خلال الأيام القليلة القادمة، وعليكم بالصبر ريثما تنتهي تلك الاجراءات. وموظفون من السفارة الإيرانية بالكويت لم تكد تمضي بضعة أيام على ذلك الحدث ،حتى وصل عدد من موظفي سفارة إيران بالكويت، وكان حماس عدد كبير من العراقيين يومذاك لايوصف، ظانين أن إيران ستستقبل عراقيي مخيم صفوان كافة، وتقفل بابه بيديها، لكنهم خذلوا بعد قليل إذ برز موظف ضخم الجثة من بين زملائه، وألقى خطبة رنانة باللهجة العراقية النجفية، ملخصها أن إيران لا تستطيع استقبال الكثير من العراقيين، نظراً لظروفها الإقتصادية الصعبة!وفي تلك الخطبة الطويلة نال من صدام حسين وسياسته التي أوصلت العراق والمنطقة إلى ما وصلوا إليه، ثم تلا بعد الخطبة أسماء معينة في قوائم ناوله إياها أحد زملائه، ولاحظ النازحون ان تلك القوائم كانت تحوي أسماء أشخاص، إما انهم كانوا إيرانيين أقاموا طويلاً في العتبات المقدسة، أو أنهم عراقيون موالون لإيران. ولم يكد الموظف يفرغ من تلاوة الأسماء حتى هرول المطلوبة اسماؤهم إلى الحافلات، فماذا وجدوا!؟ وجدوا أن الكثيرين ممن لم يحالفهم الحظ، ولم ترد اسماؤهم في القوائم، سبقوهم إلى الحافلات!! وحدث زعيق وصراخ ودفع بالمناكب بل وحتى عراك بالأيدي والأرجل، وهنا تطوع عدد ممن نودي بأسمائهم، ونظموا صعود الناس حسب الأسبقية، وبعد حوالي ساعتين انطلقت الحافلات الى إيران عبر الأراضي الكويتية. عودوا إلى مدنكم! بتأريخ (24/4/1991)كانت الغيوم الخفيضة توشي سماء منتصف النهار، في ذلك النيسان البعيد عندما توقفت سيارة أمريكية الصنع فاخرة الطراز وسط مخيمنا، ترجلت امرأة شقراء تلاها رجل خمسيني ربعة أصلع لم يقبل التصريح بإسمه ، تطلع هنا وهناك في أرجاء المخيم ثم ألقى في جموعنا الخطبة التالية: لماذا لاتعودوا إلى مدنكم..مادام (السيد الرئيس صدام حسين) قد أصدر عفواً عاماً هذه الأيام، هل يروق لكم البقاء في العراء ووطنكم قريب.؟؟ ، بل إنكم على أرضكم (إشارة الى ناحية صفوان)، ثم أردف بلغة شامتة: لاأحد يرغب بالعراقيين دولاً وحكومات ومنظمات إنسانية!! طفق الأصلع يتحدث بلغة خالية من اللياقة والدبلوماسية وكأنه يتحدث الى قطيع، ولم أتمالك نفسي يومذاك فصرختُ في وجهه قائلاً: لكنك على الأقل مواطن عربي وهذا يلزمك بأن تتحدث إلينا بغير هذه الوقاحة!، لماذا لاتريد ان تصدق ان العراق الذي يكره صدامك انتفض بوجهه كله من شماله الى جنوبه. لم يزد الأصلع شيئاً وانتحى جانباً، ثم سار بضع خطوات قبل أن تسرّ صاحبته الشقراء في أذنه بضع كلمات بالإنجليزية، وماهي إلا دقائق حتى انطلق الاصلع والشقراء بسيارتهما الى الأراضي الكويتية. الهلال الأحمر الكويتي منذ الأسبوع الأول لوجودنا في مخيم صفوان، شرع الهلال الأحمر الكويتي بتوزيع الغذاء والدواء والبطانيات على النازحين من العراقيين والمصريين وغيرهم، بدون تفريق بين عِرق وعرقِ، وبين سنة وشيعة، وكان فريق العمل مؤلفا من حوالي عشرة أفراد عملوا برئاسة شاب كويتي اسمه (بدر)، قال بأنه شيعي من أصل إيراني، وقد ظل هذا محايداً طيلة فترة عمله في المخيم، بمعنى أنه كان يؤدي عمله الإنساني بتجرد، ودون الخوض في أسباب البلاء: غزو الجيش العراقي للكويت ومن ثم طرده منها!! اضافة إلى الهلال الأحمر كانت تتواجد قرب مخيمنا قوة مسلحة كويتية، تسندها عدد من الدبابات والمصفحات وعربات الجيب، لقد كان أفراد القوة المسلحة الكويتية يعتقدون خطأً بأن طرد الجيش العراقي من الكويت، يعني في صورة من صوره ان العراقيين انحدروا الى آخر درجة من درجات السلم الأخلاقي والإجتماعي، وصار عرضة لمن هبَّ ودبَّ!
|