نظراً لغياب القانون في المخيم ووقوعه في البلبلة، فقد حاولت هذه القوة إهانة العراقيين ووصفهم بأحط ماتحتويه اللهجة الكويتية الدارجة من مفردات منحطة وصفات، من جهة ثانية كانت دورياتهم المستمرة خلال الليل بين الخيام راجلين أو في عرباتهم تثير اشمئزازنا! وحدثتْ مواجهة بين العراقيين والكويتيين سقط فيها لاجىء عراقي جريحا. كما هو معروف فقد رضخ صدام لمطالب قوات التحالف في خيمة صفوان، أملى المنتصر إرادته العسكرية والسياسية على المهزوم، وكان ان سلمهم العراق محطماً وبلا فائدة على الأقل في العقود القليلة القادمة.وهاهي قوات التحالف تعلن أنها ستنسحب خلال الأيام القادمة الى مواقعها في الأراضي السعودية والكويتية، بعدما أكملت عملياتها العسكرية! ووقع المخيم في البلبلة والاضطراب حول مصيرنا: 1- النازحون من الموت والقصف وضياع الممتلكات، وقد أصبحوا مشردين بين المدن العراقية، وملاحقين من قبل قوات الأمن والاستخبارات، إما لإشتراك هؤلاء الفعلي في الإنتفاضة، أو لأنهم قاموا بأدوار مساندة لها. 2- الرافضون لأداء الخدمة العسكرية لأسباب كثيرة، في مقدمتها عدم وجود قضية عادلة، وأن الجيش لايمثل الشعب بل الطاغية، وهذا ساق الجيش والشعب إلى جحيم الحروب بلامعنى. 3- المنتفضون والمطلوبون للسلطة بسبب الهجومات على مراكز الحزب والمخابرات والأمن وغيرها، وهم من الرجال وأغلبهم من الشباب الذين انقطعت بهم السبل، أو الذين سجلت عليهم ملاحظات معينة، من قبل عناصر أجهزة الأمن، أوالحزبيين المختفين أو المتعاونين معهم، نتيجة لذلك خشي نزلاء الخيام الصفوانية على أنفسهم بعد فشل الإنتفاضة، وكان هؤلاء المنتفضون علموا علم اليقين، بأن عناصر النظام إذا مادخلت مدينة او قرية فلن ترحمهم، وهذا ماحدث فعلا: فبعد دخول الحرس الجمهوري ومعه رجال المخابرات وأعوانهم، تم اعتقال الكثيرين ممن اشتركوا في الانتفاضة وعذبوا عذاباً شديداً وقتل الكثيرون منهم . 4- السجناء ممن أطلق رجال الانتفاضة سراحهم، وجلهم من سجناء الرأي والعسكريين الذين رفضوا القتال في الكويت، أو الذين رفضوا أصلاً الذهاب إلى هناك، وتخلفوا عن أداء الخدمة العسكرية أو خدمة الإحتياط.وكان بين سجناء الرأي والسجناء العسكرينن غيرهم كانت أسباب سجنهم جنائية. 5-الحالمون بالحرية خارج الوطن الذي صنعه الطاغية من الفولاذ، وكسته الكويت والسعودية بالذهب، عندما اقتضت مصلحة هذين البلدين أن يموت العراقي في حرب وسخة ضد إيران، فتستمر أنظمتهم الرجعية في المنطقة، ولايتوقف تدفق النفط إلى العالم الغربي، ومعظم هؤلاء الحالمين من الشباب الذين كانوا يمنون النفس بالهجرة إلى أمريكا وأوروبا، وثمة قسم آخر من حملة الشهادات في فروع علمية مختلفة: الهندسة والطب والكيمياء ومن الأكاديميين أيضا، وكان هؤلاء يصرحون دائما بأن خروجهم من العراق ليس سياسيا، إنما لإيجاد فرصة للعيش والعمل، واتصل هؤلاء بالقوات المتحالفة من فرنسيين وأمريكان قبل الانسحاب من الأراضي العراقية بعد اتمام عملياتهم، وأقاموا مع قوات التحالف علاقات مو نوع ما، وطلبوا منهم المساعدة على الهجرة إلى أوروبا وأمريكا. 6- الهاربون بسبب الجوع والحصار الاقتصادي المفروض على شعب العراق بسبب غزو الجيش العراقي للكويت، وقد بانت علامات الجوع بعد أسابيع قليلة من سريان مفعول قرار الحصار، فتضرر الكثير من الناس لاسيما الطبقات الفقيرة من المجتمع العراقي، لذا أشيع خلال أيام الانتفاضة بأن قوات التحالف، التي كانت تحتل أجزاء عزيزة من وطننا، تقدم الغذاء والدواء وغيرها من الخدمات إلى الذين يسلمون أنفسهم ويلجأون اليها، لذا ترك هؤلاء الوطن الذي لم يخلفوا فيه شيئا لأنهم فقراء أصلا، ملتحقين الى مخيم صفوان والسلمان وغيرهما في الطريق إلى مخيمي رفحاء والأرطاوية. 7- الذين كانوا مقيمين في المملكة العربية السعودية سابقا، ويمثل هؤلاء نسبة قليلة جدا، وكانوا أقاموا سابقا في المملكة وبشكل رسمي، لكنهم غادروها إلى العراق قبيل حرب الخليج الثانية لأسباب مختلفة، في حين فضل زملاء لهم البقاء في المملكة وعدم مغادرتها ولازالوا ، وعندما وضعت الحرب أوزارها غادروا مدنهم في العراق ونزحوا مع النازحين، فوصلوا إلى ناحية صفوان ثم إلى مخيم رفحاء، ومن هناك حاولوا الدخول من جديد إلى داخل المدن التي سبق لهم الإقامة فيها في المملكة.لكنهم لم ينجحوا في تحقيق تلك الأمنية فقد تغيرت الظروف الآن!.اقترح بعض اللاجئين القيام بمظاهرات، تطالب قوات التحالف المنسحبة بوضع حل لمشكلة وجودنا قبل رحيلها، أو تطمينات خوفا من اجتياح حكومي للمخيم وارد بعد الانسحاب، وكنا نخرج إلى الشارع العام كل صباح هاتفين بسقوط الطاغية، مطالبين الأمم المتحدة والدول المشاركة في الحرب نقلنا إلى مكان آمن، كنا نهتف باللغة العربية والانجليزية، ومما أذكره اليوم عن تلك المظاهرات، أن أحد البسطاء المسنين من مدينة الناصرية كان يهتف: يا أمم يامُنتحدة ..ليش الفروخ مشرِّده!!هكذا استمرت المظاهرات لمدة اسبوع، قبل أن تقرر قوات التحالف نقلنا إلى مخيم رفحاء على الحدود مع المملكة العربية السعودية، وكان ذلك بقرار صادر من حكومة المملكة بتأريخ 1/5/1991، واستمر نقل النازحين من ناحيتي صفوان والسلمان إلى مخيم رفحاء لأكثر من اسبوع بعد القرار المذكور. سماء ثانية لم أصدق أن القوات الأمريكية قد حسمتْ أمرنا، وقررتْ نقلنا إلى خارج العراق، إذ لا يمكن أن يصحو ضميرها فجأة، بعدما فجرتْ وطننا بأطنان البارود، وكنا نتساءل يوميا: ماذا لو انسحبتْ تلك القوات وتركتنا فرائس لأجهزة أمن الطاغية وحرسه الجمهوري!؟، على أية حال لم تكن مظاهراتنا المتواضعة على حافة العراق الجنوبية، سبباً كافيا ًلإخراجنا منه، وأيضا ليس بسبب (كاميرات التلفزة) الغربية، إذ يقتل الناس كل يوم في بقاع العالم المختلفة، وأمام عيون (الكاميرات) ولايحدث أي نوع من التغيرر في سياسيات الدول! لكن أمراً ما بقي غامضاً -لحد الآن- بالنسبة لي: لماذا تم نقلنا إلى رفحاء!؟ وقفتُ مع شقيقيّ حيدر وأحمد بالطابور يوماً وليلة، وفي صباح اليوم الثاني جاء دورنا، نقلتنا عربات عسكرية أمريكية إلى مطار عسكري لايبعد كثيرا عن جبل (سنَام)، صعدنا في طائرة مظليين مقسمة إلى قسمين طويلين متساويين تقريبا، في كل قسم صفان متقابلان من المقاعد الضيقة.
|