في المخيم كان طعم الهواء غير طعم الهواء والأرض غير الأرض، كل شيء اختلف مذاقه ونكهته بعد ساعتين ونصف من الطيران بين العراق والسعودية، ذلك هو بالضبط الشعور العميق بالفقد الذي ساد الجميع، منذ اللحظات الأولى لوصولنا إلى المخيم، لكن السماء ظلت كما هي: ممتدة رحيمة ومفتوحة على المأساة. استقبلنا في الباب ضابط الإتصال السعودي: من وين انتم بالعراك؟ -من الناصرية..أجاب أحد أشقائي... أشار الضابط بيده إلى موقع خيام أهالي المدينة، وأفهمنا بأن المخيم مقسم إلى مواقع محافظات ومدن صغيرة وعشائر.في الطريق إلى خيمتنا رأينا عدداً من الجنود الأمريكيين نصف عراة، منهمكين بتثبيت مجموعة من الخيام المتفرقة، كانوا يعملون بهدوء وبين أيدي البعض منهم مطارق ضخمة، لكن البعض الآخر زاغوا عن وقت الجد والعمل، فقاموا وثبتوا شبكة للكرة الطائرة وأخذوا يلعبون ويتصايحون مع الفريق العراقي الخصم، وهم مجموعة من اللاجئين ممن وصلوا قبل أيام من مخيمي صفوان والسلمان.اجتزنا في الشارع الرئيس الذي يقسم المخيم إلى نصفين متساويين تقريبا، وهو شارع ترابي طويل تتفرع منه شوارع ضيقة، تنتهي بالأسلاك الشائكة، حيث تربض الدبابات!!مئات من الخيام غير المنصوبة كأنها خيام بدو يستعدون للرحيل طلبا للكلأ والماء، مفروشة على الأرض عليها بضعة أوتاد ومطرقة، كان علينا بعد تلك الرحلة المضنية أن نبني بيتنا جديدا! ابدلت الحرب بيتنا العامر في الناصرية بخيمة عسكرية كالحة اللون، في صحراء السعودية! لكن حالنا مثل حال اللاجئين الذين وصلوا قبلنا، على الجميع الشروع ببناء خيمته بدون تأخير، في البداية يجب تثبيت أربعة أوتاد بأقيسة تراعى فيها الأبعاد، وإذا تم لنا ذلك يدخل أحدنا ومعه عمود الخيمة تحت سقفها السميك، كما يدخل تحت اللحاف، ويحاول في ظلامها وهي مفروشة على الأرض، أن يعثر على ثقب يقع في مركز سقفها، ليدسَّ فيه نتوءاً صغيراً يقع في رأس العمود. يرتفع عمود الخيمة بسقفها ارتفاعاً فتنتصب لكن ضعيفة البنيان، مائلة إلى اليمين أو إلى اليسار، مرتخية كما لو ضربتها ريح صرصر، ثم يتم توتير أركانها الأربع، إنما ذلك وحده لايكفي، لابد من عين خبيرة تضبط مقاييسها، عين تشرف وتوجه، كما لابد من وجود سواعد قوية لايفلت منها حبل مشدود فتتهاوى الخيمة! ثمة صيحات تحذر من ميلانها وسقوطها: -دكَوا الأوتاد زين، شدوا الحبال ياجماعة! -انته..وازن من هناك من فضلك! -لازم واحد منكم يدخل تحت الخيمة ويمسك العمود زين، حتى الخيمة ماتميل يمنة لو يسرة! اخيرا تنتصب الخيمة بعد شدٍ وإرخاء وموازنة وضربات مطرقة، مشدودة الأضلاع متجذرة في الأرض، يستريح اللاجئون أصحابها ببابها، يأخذون قسطا من الراحة، يراقبون جنودا أمريكيين وسعوديين مايزالون يجتهدون في إكمال واجباتهم: نصب الخيام المفروشة على الأرض وتوزيع المزيد منها على اللاجئين الجدد. مَن يفرغ من نصب خيمته يلتفت إلى جيرانه، عارضاً مساعدته وربما خبراته البسيطة التي اكتسبها قبل قليل، أو خبرات قديمة زودته بها خدمته العسكرية سابقا، ولايعدم أن يُسمع صوت الجيران: -لاشكراً..نكفيكم! قُبيل المساء قام الجنود السعوديون بتوزيع البطانيات وأواني الماء (الجليكانات)، اضافة إلى بعض الأنواع من الأطعمة الجافة، ثم دخلت إلى المخيم مقطورات المياه فملأنا أوانينا واستحمينا. هوامش ------------------ 1-شمس آذار الحلوة، 28 آذار بالضبط، شمس ربيع بلادي. 2-يعني الأنسحاب الثاني، الانسحاب الأول كان من ظاهر مدينة الناصرية وغربي نهر الفرات الى منطقة تل اللحم، أما الانسحاب الثاني فمن منطقة تل اللحم الى الصحراء بين العراق والسعودية حيث تعسكر قطعاتهم الخلفية. 3-أنجزت شركة(DROMEX) البولندية مشروع الطريق السياحي الذي يربط مدينتي الناصرية والبصرة، وتركت مجموعة من (الكرفانات) الخشبية كانت فيما مضى سكناً لعمال الشركة، لكنها أصبحت ملاجئ مؤقتة لنا نحن الهاربين والناجين من بطش الحرس الجمهوري وقوات الأمن الخاص. 4- ناحية صفوان مدينة حدودية ومنطقة جمارك ومكوس بين العراق والكويت، وقريبا منها عقد اجتماع شهير في خيمة سُميتْ فيما بعد خيمة صفوان، بين القادة العسكريين الأمريكيين والعراقيين (فبراير91)، ونظرا لوقوع ناحية صفوان تحت القصف طوال الحملة الجوية لقوات التحالف، واستخدامها بوابة مرور للدبابات والآليات العسكرية لتلك القوات، فقد هجرها ثلاثة أرباع سكانها. 5 -سيلتقي بنا في مخيم رفحاء بعد بضعة أشهر، اثر التعامل السيء من قبل (مضيفينا) السعوديين، ومنها عمليات الإبعاد القسري لعدد من اللاجئين إلى العراق، ونعرف أنه يدعى عبد المولى الصلح، ويشغل منصب المدير الأقليمي للأمم المتحدة بالرياض. ألهوامش 1 - حيدر وأحمد كما مرَّ معنا، وكان سبقنا شقيقان آخران هما حسن وميثم إلى مخيم الأرطاوية، من مكانين مختلفين غير مخيم صفوان، عاد ميثم إلى العراق بمساعدة أحد موظفي لجنة الصليب الأحمر، ليغادر بعد فترة قصيرة إلى سوريا فأوستراليا، أما حسن فقد التحق بنا في مخيم رفحاء بعد إجراءات لم الشمل.
|