كيف استطاعت الحكومة تأمين رواتب الموظفين لعام 2016 ؟!

بعد أن خرج وزير المالية هوشيار زيباري في وسائل الإعلام مصرحا بان الحكومة غير قادرة على دفع رواتب الموظفين ابتداءا من بداية نيسان المقبل ، ظهر رئيس مجلس الوزراء السيد حيدر العبادي في مناسبات عديدة ليطمأن الجمهور بان رواتب الموظفين لعام 2016 مؤمنة بالكامل ، وصحيح إن هناك من الناس لا يعولون على كلام المسؤولين بشكل كلي ولكن قدرا من الارتياح ساد الشارع العراقي بعد هذه التصريحات وتصريحات أخرى من جهات حكومية تحتوي على نوع من الثقة وفحواها بان من يروج بعدم قدرة الحكومة على تامين الرواتب إنما يرتكب مغالطة كبيرة هدفها إضعاف الثقة بين الحكومة والشعب ، ومما زاد الأمر اطمئنانا إن العبادي في معرض تعليقه على أزمة دفع الرواتب في إقليم كردستان قارن بين الحالة في المركز والإقليم ، إذ طرح سؤالا كيف استطاع المركز من تأمين رواتب موظفيه ولم يفعل الاقليم ذلك رغم قيام الاقليم بتصدير النفط ؟، وبشكل يعطي الاطمئنان بان الرواتب مؤمنة بالفعل وان كانت هناك توقعات بزيادة الاستقطاعات عند الضرورة القصوى بما لا يزيد عن 5% مما هي عليه الآن ، وإذا صدقنا حكاية تامين رواتب ومخصصات الموظفين طيلة أشهر السنة الحالية فالسؤال الذي يبحث عن جواب هو كيف استطاعت الحكومة من تدبير الرواتب رغم إن أسعار النفط لم ترتفع بعد والإنتاج النفطي المحلي يراوح مكانه رغم التفاؤل غير المقترن بالأفعال ؟ ، وأسباب طرح هذا السؤال معقولة بعد أن ترك بعض الخبراء والمستشارين إنطباعات سوداوية عن الوضع المالي الذي يمر به العراق وما تشكله الرواتب من أعباء ثقيلة لان الدولة تتكفل بدفع رواتب 7 ملايين من الموظفين والمتقاعدين ، والأمر الآخر الذي يشجع على السؤال هي حالة فقدان قناعة المواطن بقدرة الحكومة على إدارة الأزمة المالية الحالية في ظل انخفاض أو انعدام الكفاءة وقلة البدائل وانتشار الفساد الإداري وعدم القدرة على اتخاذ قرارات حكومية حازمة بسبب القيود التي تفرضها المحاصصة والتوازن السكاني ، ناهيك عن انشغال البلد بحرب معقدة ووجود العديد من الخلافات والاتهامات الداخلية والتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية ، وقضايا أخرى باتت معروفة للجميع ومنها رغبة بعض المتنفذين في توسيع أوجه الصرف رغم الضائقة المالية وتعدد مراكز القوى في الداخل بحيث يشعر المواطن أحيانا بان هناك أكثر من حكومة أو جهة تتولى إدارة البلاد .

ورغم كل ما ذكرناه ، فانه يمكن القول بان الرواتب وبعض النفقات الحكومية باتت مؤمنة خلال السنة الحالية ، ولا يعني ذلك بان الحكومة سوف تستطيع الإيفاء بجميع التزاماتها التي وردت في قانون الموازنة الاتحادية لسنة 2016 بجانبيها التشغيلي والاستثماري اذ ستكون معسرة لكنها غير عاجزة كما توقع البعض ، فقد اقتنعت أو تكيفت مع الإيرادات الحالية المنخفضة لتصدير النفط بالأسعار السائدة عالميا ( رغم إن العراق يبيع نفطه بأقل من تلك الأسعار بكثير ) وهي بحدود 3 مليارات دولار شهريا ، كما توفرت للحكومة 14 مليار من موازنات السنوات السابقة إذ تم تتبع التخصيصات غير المصروفة والسلف المقدمة للوزارات والمشاريع وهي تمثل حسابات جارية في المصارف أو اعتمادات أو خطابات ضمان وتتحقق إيرادات غير نفطية تزيد عن 12 تريليون دينار عن الضرائب والرسوم وغيرها ، كما قام البنك المركزي العراقي ببيع 17 تريليون دينار من حوالات الخزينة لصالح الحكومة ، وتم أيضا حصر بعض الإنفاقات كتأجيل تحويل حصة إقليم كردستان البالغة 17% من صافي تخصيصات الموازنة الاتحادية مادام الاقليم يصدر النفط على هواه وليس من خلال سومو ، وتم أيضا تمويل بعض إنفاقات الحشد الشعبي والنازحين من خلال إستقطاعات الموظفين والمتقاعدين بنسبة 3% والتي توفر قرابة 2 تريليون دينار ، ومما لا يخفى على الجميع فان هناك إنفاقات مستحقة وواجبة الدفع كمستحقات شركات جولات التراخيص العاملة في العراق التي هي بحدود 15 مليار دولار والمتبقي من تعويضات حرب الخليج الثانية لصالح الكويت والبالغة قرابة 5 مليارات دولار ومستحقات شراء الأسلحة وغيرها من الالتزامات ، وطرق معالجتها أما البحث عن قروض خارجية أو حوالات دولية أو تحويلها إلى قروض لحين السداد بفوائد يتم الاتفاق عليها من خلال الحلول الرضائية مع الأطراف المعنية ، وفي كل الأحوال ستبقى هذه المبالغ عبئا واجب الإيفاء به للتخلص منه سيما وان بعضها أرقاما تتراكم عاما بعد عام كاستحقات شركات التراخيص ومشتريات الأسلحة ، فهذه الديون ليست من النوع الذي يمكن أن يخضع للتسوية في نادي باريس لأنها ديون تقابلها ضمانات والدائنون من حقهم استخدام الضمانات المقدمة بعد انتهاء الآجال المتفق عليها ، أما كيف سيتم التخلص من هذه الأحمال فان المخطط المالي العراقي لا يزال يعول على عودة أسعار النفط للارتفاع لغرض قدوم إيرادات من شانها تخفيف هذه الالتزامات ، إذ إن هناك توقعات بان أسعار النفط ستعاود ارتفاعها إلى 50 – 60 دولار لكل برميل في الربع الأخير من العام الحالي وبداية العام القادم لارتباط ذلك بمجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية .

وان ما يثير قلق البعض من المتحمسين والمتحسبين للقادم من الأيام ، هي الوسيلة التي ستخرج البلد من أزماته المالية في 2017 و2018 في ظل بقاء أسعار النفط على حالها أو ارتفاعها بشكل طفيف وعدم تغيير بنية وتركيبة الاقتصاد الوطني ، وهي مخاوف مشروعة لان الحكومة ربما تستطيع تجاوز الأزمة بالترقيع لما تبقى من العام الحالي ولكن قدراتها سوف تقل في الأعوام القادمة ، فالرواتب تزيد كل عام لارتباطها بالعلاوات والترفيعات وسياسة إيقاف التعيينات لا يمكن أن تستمر لأجل غير معروف ، والشارع العراقي قد لا يتحمل تغييرات راديكالية في موضوع تقليص عدد الموظفين أو تخفيض رواتبهم لان الكثير من الرواتب لا تغطي متطلبات الحد الأدنى من الحياة ، ونظرة ( الناصحين من الخارج ) للحكومة تقترن بالدعوة إلى عدم التعويل على ارتفاع أسعار النفط لان الأسعار سوف لا تعود إلى حالها قط ( أكثر من 100 دولار للبرميل ) فالتغييرات التي ستحصل فيها غير كافية على تغطية الالتزامات ، لذا لابد من إجراء تغييرات جذرية داخلية في طريقة إدارة الدولة والاقتصاد ومن خلال الاعتماد على التكنوقراط وإتباع إجراءات داخلية يتم إسنادها دوليا لمكافحة الفساد وردع الفاسدين واسترجاع الأموال المسروقة ، مع ضرورة إعتماد مصالحة وطنية حقيقية يتم من خلالها شطب بعض الأسماء التي تكررت خلال السنوات الأخيرة لان السياسة أساس النهوض الاقتصادي وليس العكس ، وان ما يهم المواطن ليس ما يجب أن يفعله السياسيون وإنما انعكاس أفعالهم عليه فهو يسأل هل نصرف أم ندخر هل نبيع أم نشتري وما هو شكل الحياة القادمة ؟ ، ولعدم وجود ما يمكن التبشير به إلى حد الاطمئنان الواثق فان كل عراقي يجب أن يتبع طريقة آمنة في توفير متطلبات حياته فلا عودة للوضع لما قبل 2014 لا من حيث الاقتصاد والسياسة ، لذا فان الكساد والفتور سيكونان من الحالات السائدة خلال الأشهر القائمة وينعكس ذلك حتما على البيع والشراء سيما بالنسبة للسلع المعمرة ، وحركة البناء والأعمار ستكون شبه متوقفة لان معظم النشاطات من هذا النوع ترتبط حركتها بالإنفاق الحكومي الذي سيبقى محدودا عدا عمليات إعادة الأعمار التي ستشهد فتورا بعد تحرير المناطق المحتلة وما يرافق ذلك من خراب كبير إن لم تمول بأموال خارجية ، ويجب إدراك حقيقة إن 2016 ورغم مرارة طعمه ربما سيكون ليس الاسوأ مثلما قد يكون ليس هو الأفضل من سنوات سياسات التلاعب بأسعار النفط التي تدار عالميا بإتقان تام .