نزلت الشمس من سمتها قليلا وراحت أشعتها تنعكس على الأسلاك الشائكة، ورأيت عددا من الجنود يقضون حاجتهم وراء الدبابات الجاثمة وراء الأسلاك، ماخلا ذلك فلاشيء غير السراب إيان تفر العين من محدودية المخيم، سراب متصل، صحراء مهولة. * * * * * لم تكن أرض المخيم منبسطة بالكامل، ليس هناك الكثير من الصعوبة في تمييز ذلك، إذا مالمرء تفحص الأركان جيدا: أُقيمت خيام على قطع من الأرض مرتفعة نسبيا، لاسيما في الجهة الجنوبية الغربية منه، وخيام غيرها أُقيمت على منحدرات وقطع من الأراضي المنخفضة، أرض لاتتشابه حتى في (4 كم) إذ تراوحت بين صخرية ورملية ومن الحصى أو ممزوجة من هذه كلها، على اننا كنا احرارا في تلك المساحة الوجيزة من ارض المخيم في البقاء او الانتقال، ولعلها كانت الحرية الوحيدة الممنوحة لنا في الصحراء اللانهائية! * * * * * كانت خيام العوائل مقامة بين خيام العازبين، حيث لم يكلف الجنود الأمريكيون والسعوديون أنفسهم عناء عزل الخيام عن بعضها البعض، ولم يقيموا وزنا لمتطلبات النساء والأطفال، اي انهم يجهلون طبيعة بنية المجتمع العراقي من جهة، ومن جهة اخرى هو الاهمال والحط من قدرنا. فبنوا الخيام في نظام عشوائي حتى بدت كأنها نثرت نثرا: هنا خيمة تقيم فيها عائلة مكونة من ستة أفراد، تحيط بها بضعة خيمات يقيم فيها العزاب، وهناك في مكان آخر خيمة للعزاب محاطة بخيام للعوائل على سبيل المثال. على أن واحدة من أشد المشاهد إيلاما وأذى لكرامة الانسان في المخيم كانت المراحيض ، فقد أقيمت أربع مجاميع من المراحيض (كل مجموعة تتألف من مرحاضين) على جانبي الشارع الرئيسي، وبحسبة بسيطة لايتحملها العقل فقد صار لكل (3750) لاجىء مرحاضا واحدا فقط! لو كان الأمر يتعلق بالرجال حسب لهان الأمر، لكن النسوة كن يشعرن بالخجل مرتين: مرة عندما يقفن بالطابور أمام المرحاض بين رجال لم تسبق لهن معرفتهم، وهو مستنكر ومقبوح في التقاليد العراقية، أعني وقوف المرأة في الطابور لغرض قضاء الحاجة، ومرة ثانية عندما يدخلن وهن غير مطمئنات لا إلى الباب المغلق بمسمار يمكن لهبة ريح أن تخلعه من مكانه، ولا إلى المرحاض نفسها التي تشبه النعش المنتصب عموديا جوار نعش مثله والإثنان مصنوعان من الخشب المليىء بالثقوب!! * * * * * نودي لصلاة الظهر فخرج أزيد من ثلاثة أرباع أبناء مدينتي إلى حسينية قريبة، وكانت هذه عبارة عن خيمة كبيرة تتألف من عدد من الخيام الصغيرة المربوطة إلى بعضها البعض، هناك أمَّ الجميع رجل كان معروفا بورعه وتقواه في مدينتنا، قبل أن يعرف في المخيم، وسمعت صوته في مكبرة الصوت يوصي المصلين بالصبر على المصيبة وتقوى الله والاكثار من الصلاة. * * * * * قبل حلول المساء انتدبني عدد من أبناء مدينتي لإدارة مخزن الطعام وتوزيع الأرزاق بدلا من السعوديين، وهؤلاء ملوا من توزيعها فألقوا المهمة على عاتق اللاجئين يديرونها بأنفسهم بعدما تكاثرت اعدادهم وبنوا خيامهم وسادت حالة من الاستقرار النسبي. قبلت في الحال واشترطت أن يكون ذلك مؤقتا، ريثما يأتي من هو قادر على إدارتها أحسن مني، وذهبت مع الشبان من ابناء مدينتي الى المخزن فإذا هو خيمة صغيرة مقامة على ناصية الشارع الرئيسي، كان السعوديون كدسوا فيها أنواعا من المعلبات وأواني الطبخ والخبز في أكياس النايلون.
|