عساكرنا |
ذات يوم يعود إلى قرابة 6 عقود مضت، وأنا تلميذ مدرسة ابتدائية، مرت تظاهرة جماهيرية، قريبا من المدرسة جعلتنا نهرب من الدوام ونلتحق بالمتظاهرين، ونهتف معهم مثل الببغاوات بسقوط الاستعمار ونوري السعيد، ونتغنى بحياة الوطن، ومع ان أياً منا، لا يمتلك ذرة من الوطنية، او يعرف من هو نوري السعيد، ولكن فرحتنا كانت بوسع الكون لأننا تخلصنا من الدوام، وقد تغلق المدرسة أبوابها بضعة أيام، ريثما تهدا الأوضاع السياسية، وبذلك نتحرر من لغاوي الدراسة والواجبات المنزلية وعصا المدير!! وفي ذلك الغضب العارم للتظاهرة، فاجأتنا الشرطة وهراواتها وسياراتها وساد المكان هرج مرج، وتشابك عنيف بالأيدي واعتقالات وطابوق وحجارة ورأيت بين الطرفين دماء تغطي الوجوه، وأجسادا ترفس من دون رحمة، وهربنا نحن الصغار كالجرذان المذعورة، غير أن احد العسكريين اعتراض طريقي، ووضع قدمه أمامي فسقطت وتدحرجت ولكنني نهضت وواصلت الجري بعد ان تركت الأرض، ما يكفي من الخدوش والكدمات على جسمي، ومن يومها لم أشارك في تظاهرة يقودها الوطنيون او العملاء او أعداء الحكومة او أنصارها، ولكن الاهم ان تلك الحادثة الطفولية خلفت عندي عقدة خوف ضد كل ما هو خاكي وزيتوني ومرقط وعسكري، فاذا صادفت شرطيا عند ساحة الرصافي يشتري علبة سجائر، اسرعت الخطى نحو ساحة التحرير!! في ظهيرة (عرفة) المبارك من العام الماضي، كنت على موعد مع احد الأصدقاء، وجرى الاتفاق أن آتي الى مبنى المسرح الوطني واتصل به حيث يكون في مكان قريب ونلتقي، ووصلت فعلا في الوقت المحدد، ولكنني فوجئت بأن النظارة الطبية ليست معي، ومن دونها لا يمكن أن ارى رقما من أرقام الموبايل، ولا حرفا من حروفه، ولم يكن امام المبنى غير بضعة عساكر يقومون على حمايته، ولأنه لا مفر من طلب مساعدتهم، قررت بشجاعة لا اتحلى بها، التغلب على عقدتي القديمة وتقدمت نحو أقربهم وألقيت عليه التحية ورجوته ان يتصل لي بالاسم الفلاني بواسطة الموبايل لكوني نسيت نظاراتي الطبية في البيت، وفيما نظر الجندي الشاب إليّ باستغراب كان رفاقه الجنود قد تراجعوا الى الوراء، وهم في وضع الاستعداد فمن يضمن أنني لا أريد ممارسة حريتي وتفجير نفسي في وسطهم؟! على اية حال، امن الشاب لي الاتصال، ولكنني لم استطع سماع صوت صديقي بسبب ضجة الشارع، وأبواق المركبات ولذلك لجأت اليه مجددا، ولطبت منه ان يفهم ما يقول صديقي، وأدى الجندي المهمة وهو غارق في الضحك واوضح لي ان صديقي ينتظرني في مكان قريب امام محل لبيع الكرزات وحين حاولت أن اشكره على موقفه النبيل، سبقني هو الى الاعتذار، لانه لو لم يكن في الواجب لأوصلني بنفسه إلى المكان المطلوب، ولكن الذي لم يعرفه الشاب، انه حررني من عقدة خوف طفولية، وهكذا ودعته مبتهجا وانا اتمنى لو كانت عساكرنا جميعها صورة من هذا الفتى الشهم! |