أوروبا تكتشف نظرية ابن خلدون مجددا.. القارة العجوز بين حاضر زاهٍ ومخاوف من مستقبل مظلم

 

 

العراق تايمز: كتب الدكتور ناجح العبيدي..


تعيش أوروبا وبالتحديد قسمها الغربي عصرها الذهبي بالمعنى الحقيقي للكلمة. فالسلام مستتب منذ أكثر من 7 عقود. وشبح الشيوعية الذي كان يجول في القارة بحسب كلمات كارل ماركس، تبدد بسحر ساحر في لحظة تاريخية مفاجئة. وفوق ذلك يتمتع الغرب بتفوق واضح في عناصر القوتين الاقتصادية والعسكرية. فدول الاتحاد الاوروبي وحدها تحقق نحو ربع الناتج المحلي الاجمالي العالمي رغم أن سكانها لا يشكلون سوى 7% فقط من سكان العالم. وبهذا تعيش في هذا الجزء الصغير نسبيا من العالم فئات شعبية واسعة في بحبوحة اقتصادية لم تعرفها البشرية من قبل. بل ونجد الكثير من مواطني هذه البلدان يشغلون أنفسهم بقضايا تدخل في باب البطر بالنسبة لسكان العالم الفقير. بيد أن هذه الازدهار غير المسبوق لا يمنع الكثيرين من التحذير من سيناريوهات ليست متشائمة فحسب، بل وتبدو وكأنها أفلام من عالم الخيال. وبدأت هذه المخاوف تلقى سوقا رائجا، خاصة لدى أوساط اليمين واليمين المتطرف وذلك بالتزامن مع تفاقم أزمة اللاجئين والمهاجرين وتدفق مئات الالاف من السوريين والعراقيين والأفغان والأفارقة الهاربين من وليات الحروب والباحثين عن حياة أفضل في "أرض الميعاد".


شبح سقوط روما


يحذر كتاب وصحفيون وسياسيون وحتى مؤرخون معروفون من أن أوروبا الغربية قد تتعرض لمصير يشابه مصير القسم الغربي من الامبراطورية الرومانية التي انهارت في القرن الخامس الميلادي وهي في عز تألقها. ويجب القول هنا بإن معظم هؤلاء يواجهون تهمة الترويج للأفكار اليمينية والعنصرية ، خاصة وأن مثل هذه الطروحات تتلقفها بشكل خاص القوى والاحزاب الشعبوية والمعادية للأجانب. ولكن مثل هذه التهمة لا تنطبق على الجميع. وهنا يمكن الإشارة الى المؤرخ الألماني البارز "ألكسندر ديماندت" الذي كتب مئات الابحاث والكتب عن الامبراطوية الرومانية وعن لغز "سقوط روما". هذا المؤرخ تلقى مؤخرا طلبا من مؤسسة كونراد-أديناور التابعة لحزب المستشارة الالمانية ، الحزب المسيحي الديمقراطي لكي يكتب مقالا لمجلة المؤسسة حول سقوط روما. وفي خطوة نادرة رفضت المجلة نشر المقال بحجة أنه يتضمن مقارنات وأفكارا يمكن أن يُساء فهمها في ظل الجدل المحتدم في ألمانيا حول موجة تدفق اللاجئين والمهاجرين. طبعا الصحف الأخرى لقت في ذلك فرصة سانحة لإثارة الجدل وقامت بنشر المقال. ويشير المقال بوضوح الى أن أباطرة روما كانوا يتبعون سياسة الباب المفتوح إزاء الوافدين ويرحبون بالغرباء طالما أنهم كانوا يقدمون فروض الطاعة للعرش ويساهمون في ادامة وتنمية ثروة روما ومظاهر الترف فيها. ولكن في فترة لاحقة فُتحت الحدود لاستقبال أعداد متزايدة من القبائل الغوطية والجرمانية التي كان أفرادها يوصفون حينها بالبرابرة. وبحسب المقال فقد عجزت روما عن استيعاب هذه الموجات البشرية الأمر الذي ادى الى تفكك أجهزة الدولة وفي نهاية المطاف الى سقوط روما المدوي الذي سبق الصعود الجامح للاسلام.

ولا يخفى على أحد بأن هذه النظرية السائدة عن أسباب انهيار الامبراطوية الرومانية تشابه الى حد بعيد نظرية ابن خلدون عن الصراع بين الحضارة والبدواة ودوره في نشوء الدول وازدهارها وسقوطها. وهذا ما أكده المؤرخ البريطاني الشهير "آرلوند توينبي" في دراساته حول الحضارات والذي وصف ابن خلدون بأنه المفكر الألمع والأكثر ذكاء الذي أنجبته البشرية. وبغض عن التفسيرات المختلفة لسقوط روما فإنها تتفق أن الانهيار تزامن مع موجة نزوح لقبائل وشعوب غير متحضرة من شمال أوروبا. ومع الإقرار بأن الأحداث التاريخية لا تتكرر بتفاصيلها يحذر مؤرخون ومنهم الألماني "ألكسندر ديماندت" من أن أوروبا تعيش حاليا موجة نزوح مماثلة حيث شد مئات الالاف رحالهم صوب ألمانيا والنمسا والسويد وغيرها ضمن موجة تدفق لا تنقطع. ومن قبيل "الصدفة" فإن جزءا كبيرا من هؤلاء يأتي من مسقط رأس ابن خلدون في شمال إفريقيا ومن مناطق الشرق الأوسط التي جابها في القرن الرابع عشر. وإزاء ذلك لا تعاني أوروبا وألمانيا بالذات من تداعيات أزمة اللاجئين والمهاجرين فحسب وإنما تعيش أيضا حالة استقطاب حادة فيما يتعلق بطريقة التعامل مع الأزمة، إذ تنقسم اللآراء حول الهجرة بين مرحب ومحذر ورافض ومعادٍ وبين مهون من مخاطرها ومبالغ فيها.


القارة العجوز العاقر


في خضم الجدل المحتدم حول اللاجئين أُعيد تسليط الضوء على تصريح سابق ملف للنظر لبابا الفاتيكان فرانسيس . ففي كلمة لها أمام البرلمان الأوروبي في أواخر عام 2014 شبه الحبر الأعظم أوروبا بمرأة كبيرة السن عاقر لا تنجب أطفالا. وبعد أكثر من عام على ذلك تناقلت الصحف الألمانية والإيطالية حديثا جديدا منسوبا للبابا مفاده بأن المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل اتصلت به حينها هاتفيا وعاتبته على هذه الوصف. ورغم نفي المتحدث باسم المستشارة لهذا الاتصال إلا أنه أثار ضجة اعلامية كبيرة على خلفية موجة تدفق اللاجئين واكتسى نكهة خاصة نظرا لأن ميركل بالفعل لم تنجب أطفالا. فزعيمة أوروبا القوية والتي اختارتها مجلة فوربس في منتصف 2015 للمرة الخامسة على التوالي كأقوى سيدة في العالم بدأت تفقد بريقها وأصبحت ملامحه وجها تشابه أكثر ملامح العجوز العاقر بسبب الضغوط الداخلية والخارجية الكبيرة التي تتعرض لها على خلفية تعاملها مع أزمة اللاجئين. وهو ما ينطبق ايضا على القارة القديمة أوروبا التي تعاني من ظاهرة الشيخوخة في ظل التراجع المستمر في معدل الولادات وازدياد نسبة المسنين والمتقاعدين. ويرى المدافعون عن اللاجئين في انكماش عدد السكان مبررا مقنعا لاستقبال شباب أجانب بأمل ضخ دماء جديدة في مجتمع هرم. في المقابل يرد المحذرون من انفلات ظاهرة اللجوء بأن ذلك سيتوقف على مدى النجاح في دمج اللاجئين في المجتمع واستعداد المهاجرين أنفسهم لذلك وانخراطهم في سوق العمل ، مشيرين الى فشل تجارب سابقة في اندماج أعداد كبيرة من الجالية المسلمة على وجه التحديد.


هاربون من الحروب أم غزاة؟


حالة الانقسام الحاد في أوروبا تتجلى أيضا في الجدل حول أسباب اللجوء. وترى الكثرة الغالبة أن الحروب والقمع في سوريا والعراق وأفغانستان وليبيا وغيرها هي السبب الرئيسي لتفاقم مأساة النزوح. ومن هنا لا تزال ميركل تصر على رأيها بأن حق اللجوء السياسي المكفول في الدستور الألماني لا يعرف حدا أعلى . لكن القوى الشعبوية والمعادية للاجئين وللاسلام ترى أن الأغلبية هم لاجئون اقتصاديون وتحذر من أنهم سيصبحون عالة على دافعي الضرائب والنظام الاجتماعي. وأنضم الى هذه الجوقة عدد من سياسيي دول أوروبا الشرقية وفي مقدمتهم الرئيس التشيكي "ميلوس زيمان" الذي وصف تدفق اللاجئين بأنها عملية غزو منظمة واتهم جماعة الأخوان المسملين بالوقوف خلفها. ويقول "زيمان" إن هذه الجماعة المنتشرة في العالم عاجزة عن خوض حرب مع أوروبا ولهذا اختارت طرقا أخرى ومنها موجة الهجرة للسيطرة تدريجيا على أوروبا على حد تعبيره. ودفع ذلك الكثيرين من الصحفيين والنشطاء والسياسيين لوضع الرئيس التشيكي في خانة "نظرية المؤامرة". و بالتأكيد يساهم تهديد داعش باحتلال روما في انتشار نظرية الغزو لدى أوساط عديدة ومنها حركة "وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب (بغيدا)" المعادية للاسلام. من جهته لا يتردد المؤرخ "ديماندت" في القول بإن تدفق اللاجئين حاليا لا يختلف عن موجات النزوح البشرية الكبرى التي عرفها التأريخ وإن دافعها الاساسي كما في السابق هو الضغط القادم من بلدان فقيرة وكثيرة السكان على شعوب مترفة وتنجب القليل من الأطفال. ولكنه يؤكد أيضا على الفارق الاساسي وهو أن مهاجري اليوم ، وبعكس القبائل الرحل سابقا، غير مسلحين، مضيفا في نفس الوقت بأن ذلك يجعل القضية أكثر تعقيدا. غير أن كثيرين يشيرون الى حقيقة تكاثر الجالية المسلمة في أوروبا عن طريق النمو الطبيعي وجلب العوائل. ففي المانيا مثلا جاء في ستينات القرن الماضي سبعون ألفا من العمال الأتراك لكي يتولى الأعمال الشاقة في المصانع والمناجم الألمانية. وبعد ثلاثة عقود فقط أصبحت الجالية التركية تضم أكثر من مليوني نسمة. ويبدو أن الحكومة الألمانية بدأت تعي خطورة ذلك ولذلك تراجعت عن منح اللاجئين وبما فيهم السوريون حق لم شمل العائلة. ومع ذلك تشير تقديرات قديمة نسبيا الى أن عدد المسلمين في أوروبا سيتجاوز في علم 2030 حاجز الأربعين مليونا. ولا يستبعد أن يصبح العدد حينها أكثر من ذلك بكثير في ضوء موجة النزوح الحالية. ومن الواضح أن من بين هؤلاء المسلمين الوافدين منْ يحلم بأسلمة أوروبا.


أوروبا بين "العصبية" والتسامح


يرى ابن خلدون في قوة العصبية الدعامة الاساسية لنشوء الدول وديمومتها ومنعتها. وإذا ما ضعفت هذه العصبية نتيجة انتشار مظاهر "الترف والدعة" فإن بوادر "الهرم" ستدب في مفاصل الدولة وتنكسر "شوكتها" وتضعف قدرتها على "الممانعة" و"والمدافعة" أمام الطامعين. وبلغة مشابهة يشير استاذ التأريخ "ديماندت" في معرض حديثه عن سقوط روما الى ظاهرة ما يدعى بالانحطاط المتمثلة في مجتمع منغمس في الرفاه ومتطلع للحياة الفردية السهلة والذي لم يستطع مقاومة القبائل الجرمانية البربرية التي تدفقت عبر الحدود هربا من القحط والجوع. وعن مغزى ذلك لحاضر ألمانيا يطالب المؤرخ "ديماندت" بضرورة مراعاة التبعات الطويلة الامد للهجرة والتخلي عن سياسة الحدود المفتوحة وتحديد عدد المهاجرين كشرط لنجاح عملية الاندماج. وهنا يؤكد "ديماندت" أن الاندماج لا يقتصر فقط على تعلم اللغة والعمل ، رغم أهميتها، وإنما يعني بالدرجة الأولى الالتزام بقيم المجتمع وتقبل عاداته وتقاليده. وفي هذا السياق يشير بشكل خاص الى مبدأ علمانية الدولة وتقبل الوافدين الجدد لمبدأ أن الدين قضية شخصية. بيد أنه يشكك بفرص نجاح ذلك في ظل التحديات الكبيرة للاسلاميين والاصوليين. في المقابل لا يزال حزبا اليسار والخضر ونشطاء كثيرون يطرحون مفهوم "المجتمع متعدد الثقافات" ويرون أن مجرد الالتزام بالدستور الالماني ومبادئة يعد كافيا للاندماج. أما على الصعيد العملي فهناك الكثير الذي يؤيد فرضية التنازل أمام المطالب المتزايدة للمسلمين في ألمانيا وإصرارهم على فرض "قيم إسلامية" لا يمكن القول بإنها تنسجم مع أفكار التنوير الأوروبية. فمن الملاحظ أن الحجاب الاسلامي مثلا يفرض نفسه تدريجيا في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية وداخل أجهزة الدولة وأصبح يُنظر له على أنه تعبير عن "حرية" المرأة في اختيار ملبسها. وهناك قضاة ألمان لا يستبعدون تطبيق بعض جوانب الشريعة الاسلامية في بعض القضايا الشخصية مثل الطلاق والارث في تناقض واضح مع مبدأ تساوي الجميع أمام القانون الأمر الذي يشجع على قيام مجتمعات موازية. بل ويتم التهوين والسكوت عن تجاوزات وجنح يرتكبها مسلمون، والهدف من ذلك هو عدم صب الماء في طاحونة اليمين المتطرف والحركات المعادية للأجانب. كل هذه الاشكاليات في العلاقة بين الوافدين والمجتمع المستقبل تبرر طرح التساؤل عن مدى قدرة قيم التنوير والتسامح الأوروبي على الصمود أمام "عصبية" الانغلاق والتشدد والتكفير وسياسة فرض الأمر الواقع من قبل حركات الاسلام السياسي المنتشرة في أوروبا والمدعومة من السعودية وايران وتركيا؟ أم أن الاستقطاب الحالي نتيجة تدفق الملايين من المهاجرين سيؤدي الى تقوية الحركات اليمينية المتطرفة والقوى العنصرية والنازية على حساب القوى الديمقراطية؟ وهل ستذهب قيم الحضارة الأوروبية ضحية لصراع مرشح للتفاقم بين اسلاميين متشددين ويمينيين عنصريين؟


وبغض النظر عن احتمال وقوع هذا الصراع فإن من المؤكد أن شبح سقوط روما سيبقى يخيم على الجدل السياسي في أوروبا. وربما يستلهم أبناء الجالية المسلمة في أوروبا الفكر العقلاني لأبن خلدون للتوصل الى "عصبية" جديدة تساهم في إغناء الحضارة الأوروبية وحفظها من الزوال.