صفحات من دفتر لاجئ عراقي في مخيم رفحاء: حينما زار مخيمنا ممثل الأمم المتحدة شعرنا بأننا لسنا منسيين الحلقه الواحد و العشرون


قام السيد (السيد دير شتويل) بزيارة مخيمنا بعد حوالي ثلاثة اشهر من وصولنا إلى أراضـي المملكة، وكان لزيارته وقع خاص ومريح علينا، شعرنا بأننا لسنا منسيين تماما بل إن ثمة جهة دولية (وهي الأمم المتحدة) ترعانا، تسمع صوتنا وتدافع عن حقوقنا ووجودنا، بعدما أشاعتْ الأشهر الماضية المملّة في المخيم اليأس والقنوط في النفوس، وصار واجبا عليـنا تقديم فروض الطاعة والولاء إلى أولي أمرنـا، أعني قيادة المخيم العسكرية، عبر تنفيذ الأوامر الصادرة إلينا : الأكل والشرب والنوم!
وانتظار التسفير القسري إلى العراق!
يدا رائد وعرابي مطلقتان في المخيم.
تسود حالة من الرعب جراء التسفير القسري.
زادت قيادة المخيم ليوم الزيارة كمية المياه الصالحة للشرب، وضرب خباء كبير خارج الأسوار زيّن والباب الرئيسي بالأعلام الملونة. في ذلك الخباء المكيّف بأجهزة التبريد والذي يلذّ لأي ابن أنثى - في هجير الصحراء- أن يستمتع فيه بإغفاءة ولو ساعة من عمر الزمن، جلس الرجل في إحدى الزوايا (على الأرض) كأنه راهب منقطع لسماع الأهوال، وراح يصغي بصمت لطوابير من العراقيين والعراقيات (حضر مترجمون من المخيم).كان دير شتويل الذي تجاوز السبعين بقليل لا يتحدث بل يصغي، عيناه تلمعان وراء نظارتين سميكتين تبصران جرائم النظام في الهواء الطلق ومن أفواه الضحايا أنفسهم، أخبره أهل الأهوار عن حملات الجيش العراقي والحزبيين ضد جباشاتهم وقراهم، سواء ما كان منها داخل الأهوار أو المتناثرة على ضفافه، عن تجفيف أهوارهم وقطع أرزاقهم وذبح أبنائهم وغير ذلك كثير، ثم جاء دور أبناء المدن فأخبروه عن أضرار البلاد من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب: أضرار البشر خاصة وكذلك أضرار الإقتصاد والزراعة والحيوانات والمصانع والخراب أجمعه! كان السيد شتويل الذي يكنّ له اللاجئون كل الود والإحترام، اصطحب معه ابنه في تلك الزيارة، وراح ابنه الشاب ذو الخامسة والعشرين من العمر تقريباً يتفحص الوجوه المتعبة، المنتظرة دورها في طوابير طويلة تتشاغل في الحديث أو التدخين أو الإسترخاء تحت مكيف الهواء ( وهي فرصة عزيزة على القلوب! ) حتى يحين الدور، ثم بعد وقت قصير استلَّ الشاب (كاميرته) من جيبه وراح يسجل تلك اللحظات المأساوية التي جمعته ببشر من الجهة الأكثر تضرراً من الطغيان في العالم.كان يشعر بأسى لاحدود له وهو يلتقط صوراً للجنود السعوديين المدججين بالسلاح والعصي الكهربائية، وقد أحاطوا باللاجئين العراقيين، داخل الخباء وخارجه
تحت نظرات الحراس وعناصر الإستخبارات رجوتُ أحد الأصدقاء ممن يجيدون الإنكليزية ( مهندس – ابن عم الشيخ حسين الشعلان)، وكان موجوداً معنا نحن الخارجين من المخيم لمقابلة السيد شتويل، رجوت هذا الصديق أن يترجم ما أقوله لأبن دير شتويل، قلت له بعد أن حييته: يخبر اللاجئون والدك بأخبار العراق وكم كان بودي أن أخبره بأخبار المخيم، على أي حال أود أن تنقل للسيد الوالد بضع كلمات إذا سمحت لي بذلك، قال بأدب: تفضل..وأخبرته في الحال عن الخروقات شبه اليومية للقوات السعودية ضد أهلنا في المخيم ، لاسيما التسفير القسري إلى العراق، ثُم عرجتُ على شحة المياه الصالح للشرب خاصة في فصل الصيف، وكذلك انتهاء صلاحية الكثير من المواد الغذائية.
اذاعة نداء الأهل
ثلاثة عوامل حملت عددا كبيرا من اللاجئين للعودة إلى الوطن:
1- ضغط القوات المسلحة السعودية على اللاجئين، وكذلك ضغط مكتب الاستخبارات والشرطة واستهتارهم بحياتنا إلى حد التسليم إلى المخفر الحدودي، وشعور اللاجئين المستمر بالمهانة والذل.
2- الحوار بين اللاجئين وذويهم في العراق عبر تبادل الرسائل بين الجانبين، وتلك كان يحملها المتسللون إلى الوطن (سنتحدث عن ذلك في سطور قادمة)، ويعودون بعد أيام بأجوبتها التي قد تحث عددا من اللاجئين على العودة السريعة، وذلك لأسباب منها شعور البعض منهم بعدم جدوى البقاء في المخيم، أو مشاكل اجتماعية تحدث لزوجة اللاجىء من طلاق غيابي أو نفقة، أو صورة لأم لاجىء أو لأبيه يراها فتبعث في نفسه الحزن والأسى، فيطلب العودة مهما كلف الثمن.
3- اذاعة نداء الأهل التي تبث برامجها ساعات طويلة من بغداد يوميا، وكانت تتخللها الأغاني الشجية التي تضرب أعمق الأوتار في النفس العراقية : العودة إلى حضن الأم المهجور، وإلى الأهل والأقارب والشوارع المشتاقة لخطوات الغائب وغيرها. وكان عدد كبير من اللاجئين يدمن سماع تلك الإذاعة، فحملت أفواجا من اللاجئين إلى العراق، بتسهيلات من موظفي لجنة الصليب الأحمر الدولية في الأشهر الأولى، ثم لما تشكل مكتب للمفوضية السامية فيما بعد تشارك مع الصليب في تنظيم العودة . إذا كانت الإذاعة لم تتمكن من نفوس أغلبية اللاجئين، وتعيدهم إلى العراق، فهي على الأقل فعلت فعلها في نفوس عدد منهم، وهو عدد غير قليل، وبسببها تشكل تيار مناهض لقضية الخلاص من الصحراء والهجرة إلى دول بعيدة. وراح المدمنون على سماع الإذاعة يعترضون أحيانا على فكرة التوطين ولايحبذونها في الظاهر، ويعيقون من يعلن اسمه في (لوحة الأمم المتحدة) لغرض المقابلة وتحديد الدولة المضيفة، وزيادة على ذلك يشوهون صورة إعادة التوطين ويصورونها على أنها خيانة للوطن!
لم يكن هؤلاء جادين لأن معظمهم يعيشون الآن في الدول التي كانوا يرفضون إعادة توطينهم فيها‍‍‍!
المتسلِّلونَ إلى الوطن
إنقضى فصل الصيف وحلّ فصل الشتاء، وقدّرنا أن ثمة أصيافاً ستأتي لامحالة تعقبها شتاءات، ونحن في الصحراء: تتبدل الفصول علينا ونبقى نراوح فيها، ولاحتى متر واحد خارج المخيم.
ضيوف ولسنا ضيوفاً، لاجئون ولسنا كذلك!!
دبّ الملل في نفوسنا صغاراً وكبارا منذ زمن بعيد، فالحكايات أصبحت مكرورة مملولة فقدت بريقها وغطاها المحُل، وضغوطات القوات المسلحة السعودية لم تتوقف بل زادت إلى الحد الذي صرنا نخاف فيه على أرواحنا! خلال تلك الأيام الصعبة غامر إثنان أو ثلاثة لاجئين ليلا( في غفلة من الحراس )، قطعوا الأسلاك الشائكة وتسلّلوا إلى العراق، حاملين معهم صوراً ورسائل من لاجئين إلى ذويهم، ثم مالبث المتسللون أن عادوا بعد أسبوع واحد تقريباً ومعهم صور ورسائل جوابية، وبضع كلمات من أمهات اللاجئين أسرّها المتسللون في آذان أبنائهنّ. وتشجعت مجموعة ثانية بعد أيام وتسللتْ أيضاً، ثم عادت بمثل ماعادت به الأولى. بمرور النصف الأول من السنة الأولى بلا حلول لمشكلة بقائنا في الصحراء، كثرت أعداد المتسللين حتى صارت الصور والرسائل تجارة رابحة لاتخلو من روح المغامرة والخطر والتسلية، صار البريد يخضع لمنافسات المتسللين وتسعيرة السوق!، وماتبع ذلك من إرسال الوساطات وتبويس اللحى لغرض تخفيض السعر!. وتبدلت وظيفة بعض المتسللين من ناقل رسائل وأشجان إلى ناشر دعايات وأقاويل، حتى وصل الأمر بهؤلاء المتسللين إلى أنهم بدأوا ينشرون الإشاعات بين صفوف اللاجئين، من مثل: تحولَ النظام عن سياسته القمعية ونهجه الدكتاتوري، ويخطو هذه الأيام خطوات جدية نحو الحرية والديمقراطية! لقد أثرت تلك الدعايات على الكثير من البسطاء، ما حدا بهم إلى طلب العودة الرسمية إلى العراق، بتسهيلات من لجنة الصليب الأحمر الدولي ومكتب الأمم المتحدة.
ثم توضحت الصورة أكثر فأكثر عندما حمل عدد منهم رسائل من أجهزة الأمن والمخابرات العراقية والحزبيين إلى شيوخ العشائر من اللاجئين، وكذلك إلى بعض الشخصيات، تحثهم على ترك المخيم والعودة إلى العراق!.