حالة الضرورة في القانون |
حالة الضرورة من أكثر الموضوعات اثارة وتعقيدا في القانون. هي نظرية شاملة شملت جميع فروع القانون ، حيث لعبت دورا بارزا في القانون المدني والقانون الجنائي والقانون الإداري. حالة الضرورة هي الحالة التي يجد فيها الإنسان نفسهُ في ظرف أو موقف يهدده بخطر ما ، لا يمكن تلافيهِ أو الخلاص منهُ ألا بارتكاب جريمة، وتسمى الجريمة عندئذ بــ (جريمة الضرورة Delit Necessaire). وهي حالة لا تنعدم فيها الإرادة كليا وإنما يضيق فيها مجال الاختيار وقتها إلى أدنى حد بحيث تميز بين شران: أما الهلاك أو الإصابة بضرر جسيم وأما مخالفة القانون وارتكاب جريمة. وقد تكلم قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، عن حالة الضرورة في المادة 63 منه قائلا:” لا يسأل جزائيًا من ارتكب جريمة ألجأته إليها ضرورة وقاية نفسه أو غيره أو ماله أو مال غيره من خطر جسيم محدق لم يتسبب هو فيه عمداً ولم يكن في قدرته منعه بوسيلة أخرى، وبشرط أن يكون الفعل المكون للجريمة متناسبًا والخطر المراد اتقاؤه، ولا يعتبر في حالة الضرورة من اوجب القانون عليه مواجهة ذلك الخطر”. والأمثلة كثيرة على حالة الضرورة منها: حالة راكب من ركاب السفينة الغارقة، نجّا وهو مُتشبث ومُمسك بقطعة خشب طافية في البحر لا تسمح ألا بحملهِ، وأبعد شخصاً آخر أراد أن يتشبث بها فأدى ذلك إلى وفاتهِ. وقد تتسع حالة الضرورة لصور لا يتحقق فيها الحرج أو التأثير في إرادة الشخص، وذلك فيما لو كان الخطر غير محدق بالشخص نفسه أو من يهمه أمرهم، كمثل حالة طبيب الذي يقضي على حياة جنين في ولادة عسيرة لإنقاذ حياة الأم. وطالب الطب في قرية ليس بها أطباء يقوم بإجراء عملية جراحية عاجلة لإنقاذ حياة مريض…..الخ. والواقع أن الشخص في الأمثلة المذكورة لم يتصرف تحت تأثير ضغط مُعين على إرادتهِ وإنما على أساس تغليب مصلحة على مصلحة أخرى. والغالب في حالة الضرورة أنها ليست من عمل الإنسان فقط، وإنما هي وليدة قوى الطبيعة كالحروب والكوارث الطبيعية التي هي ظروف اضطرارية واستثنائية، ويتعين على من يهدده الخطر أن يتصور الوسيلة إلى تفاديه مستوحيا من الظروف المحيطة به. الأوضاع التطبيقية لحالة الضرورة: تاريخ البشرية حمل للإنسان عبر مختلف عصوره صدى وأنين المآسي والويلات والكوارث التي حملت بين ثناياها الكثير والكثير من الألم والحرمان والجوع والفقر للإنسان. سنين مضت وسنين نعيشها وسنين قادمة والإنسان ما زال يتذوق من مرارتها سواء كان مصدرها قوى الطبيعة من زلازل وبراكين وفيضانات، أو كان مصدرها الإنسان نفسه وما يقوم ويخط به من حروب وفتن وانقسامات! هكذا كان حال البشرية وما يزال باختلاف أشكاله طالما الأفعال قائمة وشبح الموت يخيم بضلاله على الحياة والوجود. وهذه بعض من الأحداث التي حدثت قديما وتبرر حالة الضرورة فيها:ــ اولا- القاطرة البحرية الفرنسية الامادوز: بتاريخ 2/7/1816 كانت القاطرة البحرية العسكرية الفرنسية تنقل على متنها أكثر من 400 جندي وبحار، عندما جنحت وغرقت في عرض البحر، ولم تتمكن قوارب النجاة القليلة من إنقاذ سوى عدد ضئيل من الركاب، فقام الباقون بتصنيع من أخشاب الباخرة لوحة عائمة كبيرة اعتلاها حوالي مائة وخمسون شخصاً في غياهب الأوقيانوس دون طعام أو ماء تحت أشعة الشمس الحارقة، فدبّت المجاعة الجماعية في هذه القافلة البشرية ، فأخذ الناجون يتآكلون لدرجة أنه عندما تم العثور على اللوحة وانتشال من تبقى من الأشخاص على قيد الحياة والذين لم يتجاوز عددهم 15 فردا، واعترفوا هؤلاء أمام لجنة التحقيق العسكرية بإقدامهم على افتراس بعض قطع من أجساد رفاقهم وهم أحياء فلم يقدم أحد منهم إلى المحاكمة، بل حفظت القضية بحقهم دون متابعتها لعلة حالة الضرورة. ثانيا – حالة حادثة اليخت الانكليزي Lamignonette : في عام 1884 غرق اليخت البريطاني الضخم، فنجا من ركابهِ على زورق صغير ثلاثة رجال وملاح حدث. وبعد أن تاهوا في البحر لمدة ثمانية أيام، نفذ الطعام والشراب، فقام الرجال الثلاثة بالإقدام على قتل البحار الحدث وقتلهِ وتقطيعه إلى قطع وأكله. وصدف أن أنقذتهم باخرة حربية بعد 4 أيام من ذلك. ثالثا- حالة الباخرة الشهيرة تايتنك Titanic هذه الباخرة غرقت في عرض الأقيانوس نتيجة اصطدامها بجبل ثلجي عــــــــــــــــائم ليل 15/4/1912 بينما كان ركابها يقيمون حفلة دينية على متنها، وقد هلك في هذا الحادث أكثر من ألف وخمسمائة شخصاً بسبب تهافتهم واندفاعهم دون تنظيم على إنزال قوارب النجاة والاقتتال في سبيل الاستئثار بها، وقذف بعضهم بعضاً إلى عرض البحر، ولم ينقذ منهم نتيجةٍ لذلك، سوى العدد الضئيل من المسافرين الذين كانوا من جميع الجنسيات العالمية بسبب دعوة رسمية. رابعا- القضية المعروفة La femme Menard في الربع الأخير من القرن التاسع عشر شغلت الأوساط الحقوقية هذه القضية عندما أقدمت هذه المرأة على سرقة كمية من الخبز ليلاً من فرن مُجاور لمنزلها تكفي لإعالة أولادها الذين نال منهم الجوع، وقد أصدر أحد القضاة المغموري الشهرة آنذاك المدعو “ماجن أند” حكماً بإعلان براءة المدعى عليها مما أسند إليها، وقد أثارت هذه القضية عاصفة من العطف الشعبي على القاضي المُذكور الذي لقب بالقاضي الطيب. وقد صدق هذا القرار استئنافاً من قبل المحكمة العليا. هذا كان شرحاً مبسطاً ومختصراً لحالة أصبحت في الوقت الحاضر جزءاً لا يتجزأ من النظام القانوني لأي دولة ديمقراطية، لأنهُ بغير أعمال نظرية الضرورة سيكون من السهل تصور انهيار الأنظمة القانونية لأي دولة. فحالة الضرورة حالة ارتبطت بوجود الإنسان، وقد أخذت بها مُختلف التشريعات الحديثة، ولها أهميتها البالغة في كل أطوار الحياة الإنسانية ولها قيمتها كحالة وجدت لتبرير مواقف حدثت اضطراريا . وبالرغم من أهميتها لكن من جانب آخر لا يجب الإغفال عنها بل التشديد في تطبيقها لأنها قد تكون ملاذا للمجرمين للتخلص من العقاب من خلال أثبات أدعيتها وحالة تحققها.
|