التقشف بمفهومه العام وتعريفه بين الناس يُقصد به صعوبة العيش وشح الموارد المادية ما يؤدي الى عدم كفاية حاجيات الإنسان وهو، في المعنى السياسي: برنامج حكومي ذو طابع اقتصادي، يستهدف الحد من الإسراف ومن زيادة الإنفاق على السلع الاستهلاكية؛ وتشجيع الادخار، والعمل على مضاعفة الإنتاج؛ علاجاً لأزمة اقتصادية، تمر بها البلاد. وسبق وأن مارست العديد من الدول تلك السياسة من أبرز تلك الدول هي إسبانيا وفرنسا وبريطانيا والمغرب والجزائر والسودان واليونان. و شهدت اليونان كثيرا من موجات الغضب الشعبي العارمة حيال تطبيق تلك السياسة وحرمان الشعب من جزء من الرفاهية المطلوبة. ولكن تبقى سياسة التقشف هي الحل الوحيد أمام أي دولة تعاني من مشكلة اقتصادية مثل العجز في الموازنة وانخفاض الإيرادات مقارنة بالنفقات العامة للدولة إلى أن تقوم تلك الدول بزيادة الإنتاجية وبالتالي زيادة إيراداتها حتى تخرج من تلك الأزمة.
في العراق الأمر مختلف تماماً فهو بلد ذو قروات نفطية كبيرة ويعد ثاني دولة في العالم من ناحية حجم المخزون النفطي والغازي الأحتياطي . لكن موقع العراق الجغرافي ووقوعه ضمن دوائر استعمارية فضلاً عن حكمه من قبل أنظمة لاتملك بصيرة كافية وعقلانية جعله يدفع ثمن باهض ناتج عن طمع تلك الدول الأستعمارية في ثرواته النفطية أذ حتى العام 1960 كان النفط العراقي مرهوناً للشركات الأستعمارية الأحتكارية ولأن مقومات الدولة لايمكن لها ان تستكمل دون موارد مالية تؤمن الحياة للشعب فأن محاولات التخلص من تلك الشركات كانت قد بدأت . وجاء القانون رقم 80 لسنة 1961 حيث مكن العراق من استرجاع 99.5% من مجموع مساحات امتيازات شركات نفط العراق والموصل والبصرة وترك لها مناطق عملياتها الفعلية المقدرة ب 0.5% وذلك بعد فشل المفاوضات الشاقة والمريرة التي استمرت حوالي ثلاث سنوات والتي شارك فيها الزعيم عبد الكريم قاسم بنفسه. لم يحدث اي تقدم يذكر بعد ذلك في العلاقات المتوترة بين الحكومة العراقية وشركات النفط في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم.
استمر الجمود في العلاقات بعد الانقلاب الذي قاده عبد السلام عارف في 8 شباط 1963 الى ان قررت حكومة طاهر يحيى التي جاءت في 22 تشرين الثاني 1963 الامتناع عن تعميق المجابهة مع الشركاث الثلاث وتهدئة الاوضاع في سبيل ايجاد تسوية الحكومة العراقية والشركات الأحتكارية . لكن التأميم قد حصل فيما بعد حيث أعلنه المرحوم أحمد حسن البكر ومع قرار التأميم ونتيجة للتحديات التي كانت تواجه العراق خوفاً من أن تقوم الدول الأستعمارية بأجراءات أنتقامية فرضت الحكومة العراقية آنذاك نظام التقشف من اجل انجاح قرار التأميم أذ اتخذت مجموعة من القرارات تهدف الى تأجيل بعض المشاريع وتقليل الأنفاق الحكومي والأعتماد على الناتج المحلي من الزراعة وبعض المنافذ الصناعية والمتتبع لتلك الآليات التي أتخذت يجد انها لاتسبب أي ضرر للمواطن فالتعليم والرعاية الصحية بقيت على مجانيتها فضلاً عن الخدمات المقدمة والتي كانت شبه مجانية كالماء والكهرباء والوقود وباقي الخدمات . وكان الهدف من التقشف في ذلك الوقت هو أنجاح قرار التأميم وقد نجح ..
اليوم وبعد عشرات السنين وفي نظام يقال عنه ديمقراطي تفرض حالة التقشف من جديد ولكن لسبب آخر وهو التغطية على عمليات النهب المنظم لموارد البلد الذي نفذته أحزاب السلطة والتي جائت من خلف الحدود لاتحمل رؤية لبناء بلد فتعمدت تدميره بشكل كامل حتى أوصلته الى حافة الأفلاس ولتفرض حالة تقشف تمثل وصمة عار في جبين تلك الأحزاب كونها جائت لتلغي مجانية التعليم ومجانية الخدمات الصحية وتزيد من الفوارق الطبقية والفقر والعوز .وهي في كل تلك السياسات تتعمد خرق الدستور بشكل واضح .
التقشف اليوم في العراق يمثل قصور واضح في عقلية السلطة فهي تعمدت وخلال اكثر من 10 سنوات على تبديد موارد البلد بدل من استثمارها وانشاء مشاريع ستراتيجية تغنيها فيما بعد عن النفط . التقشف اليوم يمثل مهزلة حقيقية لأحزاب استخدمت اكثر من 1000 مليار دولار ولم تحقق شيء سوى تحويل اغلب تلك الأموال الى حسابات وعقارات خارجية بينما تقشفها سيء الصيت يشمل المواطن ولم يسلم منه حتى شهداء الأرهاب حين يطلب من عوائلهم مبالغ مالية مقابل تسلم جثثهم . ورغم كل هذه الوحشية في التعامل مع البلد لازالت تلك الأحزاب تصر على انها هي الخط الصحيح بينما الشعب هو في المسار الخاطي . وكان مصير العراق قد وقع بين متناقضات التقشف فالأول جاء من اجل التأميم والأخير من أجل التهديم .. وتلك كوارث الزمن الرديء