اوبرا، لمن؟!

يكافح العراقي كفاحاً جهادياً للحصول على القوت اليومي، يقف امام الدكاكين بالساعات، للحصول على ما يقيت يومه، هذه المهمة تستنزف جهد الجميع وتستحوذ على نشاطهم.فقد انتقل المجتمع العراقي في الالفية الثالثة الى العصور الاولى للمسيرة البشرية، عندما كان هدف الانسان استخلاص غذائه من براثن الوحوش الضارية، والحيوانات العملاقة، انه الآن يعيش في ذات الموقف، يجاهد كابطال الاساطير البابلية والسومرية حتى يحصل في نهاية اليوم على قليل من الغذاء و....
انسان العراق، معركته الاساسية القوت، والاستمرار حياً مهما كان الثمن، فليس لديه الوقت او المال او الفراغ لسماع قطعة موسيقى او قراءة كتاب او تأمل لوحة مرسومة!!
هذه الرفاهية الانسانية التي تعطي بعداً انسانياً للشر، غير متوفرة لساكني ارض النهرين الفقراء سييء الحظ. اما السعداء من بني الانسان الذين يسكنون بلاد الماء والخضراء والجمال... فان نداء المعدة ليس شغلهم الشاغل، فتلك قضية لا تشغل احداً، فالكل يأكل بدون جهد للحصول على السلع الغذائية المتوفرة في كل مكان وبأثمان في متناول الجميع الذين يعملون ويقبضون كل شهر، والعاطلون الذين يقبضون كل اسبوع من مال الحكومة!!
بلدان الماء والخضراء والجمال، لا توجد فيها لا مجاعات ولا دكاكين للتسوق المجهد، تنتشر فيها محلات خاصة تبيع اكل الكلاب والقطط، تبث اجهزة التلفزيون كل لحظة اعلانات عن طعام جديد للحيوانات.
مشاكل هذه البلدان هي الوفرة، ان لديها مخزوناً من النعم لا تعرف كيف تصرفه، لقد اصبح تخزينها عبأ على ميزانياتها!!
عراقنا، يفكر في القوت، وتلك البلدان مشغولة بالفن والرحلات والقيام بالمغامرات المثيرة لقتل الملل وشغل اوقات الفراغ.
ولأن مجتمعاتها رأسمالية، فأن كل شيء له ثمن، لذلك مهمة بعض الاصلاحيين من السياسيين والمفكرين توفير الموسيقى للناس والسعي لفتح ابواب المسرح للجميع.
تسعى هذه البلدان لتوفير الفن بالمجان او على الاقل باسعار معقولة ورخيصة في متناول الجميع، تتيح للناس العاديين مشاهدة فيلم في الاسبوع او الذهاب الى المسرح كل شهر ورؤية عرض اوبرالي كل عام.
الاصلاحيون في هذه البلدان، من رأيهم ان الناس لا تعيش فقط لتأكل، فذلك دور الحيوان... اما الانسان فالطعام لديه وسيلة للتمتع بالحياة، ومن رأيهم انه ليس بالبارغر والسمك يعيش الانسان، وانما بالموسيقى الجيدة والفن الرائع والترفيه النظيف.
لذلك، يرون ان لنسان هذه البلدان يعاني معاناة حقيقية، لان تذكرة السينما او المسرح وصلت الى اكثر من خمسة دولارات.
هذا الوضع في رأيهم غير جدير بحضارة الانسان رغم ان التلفزيون يقدم من حين لآخر بعض الالوان الفنية الراقية.
واذا كان زعماء الثورة الثقافية في الصين حطموا دور الاوبرا، لانها تقدم فناً ارستقراطياً غير شعبي وليس له علاقة بآلام الجماهير، فان تلك البلدان المتحضرة المتخمين بالطعام لا يوافقون حكومة الصين على هذا المنطق المتطرف ويرون ان الفن الجيد ليس له علاقة بالسياسة وان الانسان محتاج لفن الاوبرا كحاجته للماء والهواء.
كثير من مجتمعات الغرب تحب الاوبرا لكن العين بصيرة واليد قصيرة، فقد وصلت تذاكر دار الاوبرا في لندن والنمسا الى مبلغ خرافي للمقعد الواحد... شيء يثير الحقد الطبقي ويهدد السلام المجتمعي في هذه البلدان.
لذلك، لتضييق الفوارق بين الطبقات والقضاء على اية فرصة لظهور عناصر حاقدة تثير الفتن والحقد، يشغل بعض العقلاء انفسهم بحل هذه المعضلة التي بدأت جهات اجنبية خارجية تسعى للاصطياد في مائها العكر!!
ان قضية اوبرا لكل مواطن، مسألة شغلت بال بعض مجتمعات وحكومات البلدان المتحضرة، وأكثر المتحمسين لهذه الدعوة فنان اوبرا اسباني اسمه بلاسيدو دومنكو، يذكرنا حماسه بانصار العدل الاجتماعي في بداية القرن العشرين الذين رفعوا شعار- الطعام لكل فم والمدارس للجميع- انه تقريباً يقوم بنفس الشيء، يقدم معادلة ظريفة، فقد غنى لاثرياء الغرب اوبرا (عايدة) وصل ثمن التذكرة الى خمسة الاف دولار. وبما ان دومنكو يحرص على حق الجميع في الاستمتاع بفن الاوبرا، فقد قرر ان يشاهد فقراء بلدانه اوبرا (لابوهيم) مجاناً!!
لقد تجمع وقتها اكثر من ثلاثة الاف مشاهد في ساحة الكوفنت كاردن الشهيرة لرؤية دومنكو يمثل ويغني امامهم تتحرك صورته على شاشة كبيرة تنقل وقائع اوبرا (لابوهيم) التي يشاهدها اثرياء تلك البلدان وهم يرتدون ثيابهم الانيقة ويسترخون على مقاعد وتيرة في دار الاوبرا الملكية.
مجتمعات تلك البلدان المتحضرة محفوظة فلها دومنكو يجتهد في حل مشكلات الرفاهية، اما مجتمعنا فلا يوجد اي دمنكو له قلب او احساس يفكر في الاقتراب من مشكلات هؤلاء الذين دفعهم الحظ غير السعيد للسكن في العراق بدلاً من بلدان الغرب الاحتكاري !!
هل نلوم قوانين الجغرافيا المسؤولة عن هذه المعادلة وتوزيع البشر على خريطة الكون؟ ام ان الموضوع خارج نطاق الجغرافيا والخطوط وله علاقة مباشرة بالسياسة والظلم والعدل والانانية ونهب ثروات العراق والعراقيين؟!!