اتفاقية الجزائر خطأ استراتيجي ساق العراق والمنطقة لحروب كارثية

في عام 1937 عندما كان العراق تحت سيطرة الاستعمار البريطاني تم توقيع اتفاقية مع ايران حددت بموجبها نقطة في شط العرب كحدود مائية بين البلدين ولكن النظم الايرانية المتعاقبة رفضت ذلك الترسيم الحدودي واعتبرته ترسيماً مجحفاً ومخططاً له من قبل القوى العظمى وعدتها بالضد من مصالحها واصرت طهران بأن الحدود المتفق عليها مع الدولة العثمانية في عام 1913 هي الحدود الرسمية بين البلدين ولكن النظام البعثي الذي استحوذ على السلطة عام 1968اثر انقلاب دموي بدعم واسناد اجهزة مخابرات اجنبية وبمساعدة القوى الشوفينية في المنطقة ابلغ حكومة الشاه بعد عام من الانقلاب على ان شط العرب هي مياه عراقية ولم تعترف بالاتفاقية المسبقة بين البلدين.
بعد وصول البعث الى السلطة وتوقيع اتفاقية 11 آذار عام 1970 مع القيادة الكوردية وبعد مرور اربعة اعوام عليها اصبحت قضية كركوك نقطة الخلاف الجوهرية في المفاوضات بين القيادة الكوردية ونظام البعث ، وحاولت القيادة الكوردية بزعامة الخالد مصطفى البارزاني أقناع النظام في المضي قدما بتفيذ الاتفاقية الا ان مساعيها و محاولاتها لم تلق آذاناً صاغية و لم تجد نفعا مما ادى الى انهيار الاتفاقية وفسخها من قبل النظام من جانب واحد واستئناف القتال ضد قوات البيشمركة في جميع خطوط التماس وقصف القرى والقصبات والمدن الكوردية بالمدفعية والطائرات ولم يبق خيار امام الشعب الكوردي وقيادته سوى التصدي لقوات النظام والدفاع عن حقوقه المشروعة وفعلا اندلع القتال بين قوات البيشمركة والنظام البعثي العنصري وتمكنت قوات البيشمركة بدعم واسناد شعبي منقطع النظير من
السيطرة على معظم المدن والقصبات الكوردستانية والتصدي للقوات الغازية ودام القتال حوالي عام كامل انهك النظام عسكريا واقتصاديا وارغمه على البحث عن مخرج من ذلك الفخ الذي وقع فيه وكانت نتيجته توقيع اتفاقية الجزائر السيئة الصيت في 6 /3/1975 التي وقعها صدام حسين وشاه ايران برعاية الرئيس الجزائري الراحل هواري بوميدين وبمباركة امريكية وبحسب الاتفاقية تنازل النظام عن اراض حدودية برية عراقية و ممر شط العرب المائي لشاه ايران بالكامل مقابل تخلي الاخير عن الدعم اللوجستي للثورة الكوردية وغلق حدود بلاده امامها.
لقد كان لتوقيع تلك الاتفاقية والمؤامرة الاقليمية الدولية المشتركة ضد تطلعات الشعب الكوردي للعيش بحرية وكرامة على ارضه تداعيات وتأثيرات كارثية على العراق وايران اللذين وقعا الاتفاقية وكذلك على شعوب ودول المنطقة نوجزها بما يأتي :
*الحرب العراقية الايرانية
بحسب الاتفاقية الموقعة ، تنازل النظام الصدامي عن شط العرب بالكامل وبعض المناطق الحدودية العراقية لأيران مقابل تخلي طهران عن الدعم اللوجستي للثورة الكوردية واغلاق حدوده امام قوات البيشمركة التي لم يكن امامها منفذ آخر لوصول السلاح والامدادات العسكرية والغذائية و كانت اتفاقية الجزائر احدى الاسباب الرئيسة للحرب العراقية الايرانية التي اندلعت صيف عام 1980 واستمرت لمدة ثماني سنوات ، خلفت وراءها مئات الالاف
من الضحايا من كلا الجانبين فضلا على خسائر اقتصادية كبيرة تقدر بمئات المليارات من الدولارات نتيجة استمرار الحرب بالاضافة الى الدمار الهائل الذي لحق بعشرات المدن والقصبات والاف القرى القريبة على حدود البلدين
ناهيك عن حرق عشرات الابار النفطية في كلا الجانبين وتوقف الحياة الاقتصادية في بعض الموانئ العراقية والايرانية.
* استمرار الحرب ضد الشعب الكوردي في جنوب كوردستان
بعد شهور قليلة من توقيع اتفاقية الجزائر الخيانية والانتكاسة التي تعرضت لها الثورة ، بادرت القيادة السياسية للحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة البارزاني الخالد والراحل ادريس بارزاني والرئيس مسعود بارزاني الى لملمة الجروح واعادة هيكلية القيادة العسكرية وتنظيمات الحزب وقوات البيشمركة بتشكيل مفارز عسكرية لاستئناف الكفاح المسلح ضد النظام البعثي في ظروف قاسية للغاية اذ كان نظام الشاه يراقب بشدة أي نشاط سياسي وعسكري للكورد ضد النظام من خلال جهاز مخابراته المعروف ب(السافاك) لكن برغم كل الصعوبات والمضايقات انتشرت مفارز قوات البيشمركة في جميع مناطق كوردستان متخذة من الجبال والوديان والطبيعة الطبغرافية لكوردستان مقاراً لها للتصدي لقوات النظام.
وفي عام 1979اثر سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الاسلامية في ايران ونتيجة لأندلاع الحرب بين الدولتين التي لامجال لذكر اسباب اندلاعها في هذا المقال ، سنحت فرصة ثمينة للقيادة الكوردية لفتح جبهات القتال على مصاريعها ضد النظام لتحرير القرى والقصبات والمدن الكوردية الحدودية وفعلا اندلع القتال في معظم المناطق الكوردية وكانت نتيجتها الانفالات السيئة الصيت واستخدام الاسلحة الكيمياوية والبايولوجية المحرمة الدولية واتباع سياسة الارض المحروقة من قبل النظام وقتل وابادة كل كائن حي
على ارض كوردستان مما خلف وراءه مئات الالاف من الضحايا بين المدنيين وقوات البيشمركة والجيش العراقي ومن ثم قيام الانتفاضة الشعبية في مدن ومحافظات كوردستان في ربيع 1990 وما رافقها من احداث دموية و معاناة ومآس وجوع وفقر نتيجة فرض حصار مزدوج على الشعب الكوردي الاول الحصار الدولي المفروض على العراق باسره والثاني حصار النظام وسحب دوائره الخدمية من المحافظات والمدن الكوردية لخلق فراغ اداري وخدمي كورقة ضغط على القيادة الكوردية.
*احتلال الكويت
احتلال الكويت ايضا كان احد اسبابه اتفاقية الجزائر الخيانية ، لأن لولا الحرب العراقية الايرانية التي استنزفت اقتصاد البلدين وخاصة العراق الذي خرج بديون قدرت حينها بعشرات المليارات من الدولارات للدول والشركات الاجنبية التي دعمته خلال سني الحرب والتي كما اسلفنا كان احد اسبابها الرئيسة توقيع تلك الاتفاقية ، لما كان صدام يغامر بدخول الكويت واحتلاله بغية ضمه للعراق كمحافظة جديدة ومن ثم استخدام امكانياتها الاقتصادية الهائلة لدعم الاقتصاد العراقي المنهار بعد الحرب ضد ايران التي كلفت البلدين خسائر بشرية كبيرة بالاضافة الى خسائر مالية واقتصادية هائلة دفع العراق ثمنها حتى بعد سقوط الصنم امتثالا لقرارات مجلس الامن الدولي بشأن تحرير الكويت.
* الانتفاضة الشعبانية في داخل العراق
لقد كان لأنهيار الجيش العراقي في الكويت ودحره بصورة مذلة من قبل قوات التحالف الدولي وبتفويض من مجلس الامن الدولي اثرا بالغا على الوضع
الداخلي في العراق مما هيأ الارضية المناسبة للشعب العراقي للقيام بانتفاضة شعبية عارمة في شهر شعبان المبارك من عام 1991 ضد النظام الذي ادخله في حروب عبثية و خنق كل صوت حر وابي ينادي بالحرية والوطنية ، حيث قامت الجماهير المنتفضة في المحافظات الجنوبية بالهجوم على مقار المنظمات الحزبية والامنية القمعية للنظام وتمكنت خلال ايام قلائل من السيطرة على زمام الامور وطرد ازلام النظام منها وكانت لتلك الشرارة الاثر البالغ في مناطق اخرى من البلاد حيث اكتسح الشرفاء والوطنيون من ابناء العراق الغيارى من كل المحافظات والمدن اوكار النظام في عقر دارهم وحاصروا النظام في زاوية ضيقة على وشك الانهيار التام ، لولا اعطائه الضوء الاخضر من قبل القوى الكبرى باستخدام الطائرات والسمتيات لقمع الانتفاضة الشعبية الشعبانية المباركة بعدما صدر قرار من مجلس الامن الدولي بمنع استخدام الطائرات والسمتيات .
وقد كلفت قمع الانتفاضة الالاف من الضحايا وخاصة بين النساء والاطفال والشيوخ العزل الذين دفنوا في المقابر الجماعية بعد تصفيتهم بشكل جماعي فضلاً على تدمير البنى التحتية للخدمات فيها بالكامل مما اضطر اهالي تلك المناطق القيام بالهجرة الجماعية نحو دول الجوار المختلفة.
*حرب الارهاب الطاحنة ضد الارهاب بعد سقوط الصنم
ان سقوط النظام الصدامي المقبور كان بمثابة كارثة بالنسبة لأزلام النظام وقيادات البعث المنهارة وحتى لبعض الاطراف الاقليمية ، مما دفعها الى التعاون والتنسيق مع قيادات التنظيمات الارهابية التكفيرية من القاعدة ومشتقاتها واخرها تنظيم داعش الارهابي لشن حرب طاحنة ضد الشعب العراقي وزعزعة الامن والاستقرار عبر المفخخات والاغتيالات واحتلال بعض
المدن والقصبات ومن ثم سقوط الموصل والرمادي بيد تلك الجماعات ،اذ تعد تلك الحرب ايضا حلقة اخرى من سلسلة جرائم البعث المباد واستمرارا للنهج الذي وضعه نظام البعث لان معظم قيادات الارهاب هم اما من قيادات حزب البعث المنحل التي لبست عباءة الدين والطائفية او كبار ضباط الجيش العراقي السابق الذين تضرروا نتيجة لسقوط النظام.
نستنتج من تلك المعطيات ان ماحدث من حروب وكوارث و ويلات وقتل جماعي للشعب العراقي بجميع مكوناته و استخدام الاسلحة المحرمة الدولية والمقابر الجماعية و تدمير الاقتصاد العراقي والبنية التحتية وما نعاني اليوم من سوء الخدمات واوضاع ماساوية كان احد اسبابها الرئيسة هو توقيع اتفاقية الجزائر الخيانية والتي ما زالت تداعياتها مستمرة وسوف تستمر اذا لم تتغير عقلية فرض السلطة بالقوة على الشعب العراقي بجميع مكوناته القومية والدينية والعرقية.