لن نتحدث هنا عن عميدة الأدب العربي (نازك الملائكة)، ولا عن مسلسل ملائكة تشارلي في حلقاته الهوليودية المتلفزة، ولا عن شجاعة ملائكة الرحمة في مستشفيات فلورنس نايتنجيل، ولا عن براءة الملائكة التي أنجبت ملك الغرام (كيوبيد)، ولا عن ملائكة الفردوس المحلقة بأجنحة النور، وهي تطوف في جنات الخلد بأكواب وأباريق وكأس من معين، ولا عن الملائكة التي رسمها ميخائيل أنجلو تحت سقوف كاتدرائيات المتعة والعذاب، ولا عن أي ملائكة من ملائكة المعابد الزرادشتية أو الهندوسية القديمة، فحديثنا هذه المرة سيقتصر على ملائكة الحكومة أو حكومة الملائكة، التي تمسك الآن بصولجانات الحكم والتحكم، والتي أدخلتنا عنوة إلى خيمة السيرك السياسي، وربطت مصيرنا ببندول التأرجح الحضاري، فسقطنا في قعر التصنيفات العالمية المعنية بتقييم نزاهة البلدان وأمنها واستقرارها، حتى لم يعد وراءنا وراء بين الشعوب والأمم.
لسنا مغالين إذا قلنا إننا نمر اليوم بمرحلة تقشفية قلقة، تمثلت بسلسلة من التعديلات الطارئة على سلم رواتب الموظفين، تلتها موجة من قرارات الاستقطاعات المتوالية، وموجة أخرى من القرارات الضريبية والجمركية، أعقبتها حزمة من قرارات التقنين والترشيد وتقليل النفقات، ثم تحول أبناء الخايبة إلى آلة نقدية متخصصة بتعويض النقص الحاد في ميزانية الحكومة الملائكية، ومتخصصة بدفع فواتير التقصير والعجز المالي، وهكذا تحولنا بمرور الأيام إلى فئات مُجبرة على التضحية بآخر فلس من مواردنا الذاتية الضعيفة من أجل تغطية نفقات الملائكة والعفاريت والمردة. كانت مستشفياتنا مجانية، ومدارسنا مجانية، ونحظى من وقت لآخر بتخفيضات مالية وإعفاءات رسمية شاملة، ثم هبطت علينا ملائكة السياسة من سماوات التعالي الطبقي لترسم لنا مسارات معتمة بالاتجاه، الذي يجعلنا نقدم الهبات والقرابين المالية السخية بذرائع ومبررات لم نسمع بها من قبل. حتى بات من المرجح أن نشهد في الأيام القادمة اختفاء الفوارق بين أجور الخدمات، التي تتقاضاها مؤسسات القطاع العام، والأجور المماثلة لها في خدمات القطاع الخاص. نحن هنا ندفع النقود، وهناك ندفع النقود. وهنا نسدد الفواتير، وهناك نسدد الفواتير. مطالبون بدفع فواتير الماء والكهرباء والغذاء والدواء، ومطالبون بدفع تعويضات الشهداء والجرحى والمفقودين، ومطالبون بتغطية نفقات المقاومة الوطنية ضد الإرهاب، وتسديد أجور تنقلاتنا، ونحن الذين يتعين علينا التضحية بالغالي والنفيس من أجل ضمان بقاء ملائكة الحكومة في أبراجهم الفوقية، ويتعين علينا أن نرعى شؤونهم ونلبي رغباتهم، فالملائكة هي التي تفكر وهي التي تقرر، وما علينا إلا التنفيذ والطاعة.
بات كل شيء عندنا بثمن، فالفرح له تسعيرته، والحزن له تسعيرته. الولادات الجديدة لها تسعيرتها، والوفيات المباغتة لها تسعيرتها. حتى العبادات وطقوسها المتشعبة صارت عندنا بثمن، فالثراء أحياناً هو الذي يحدد درجات التقوى في المسارح المفتوحة لممارسة الرياء، وهو الذي يضمن لك العيش الرغيد في بلد التسديد والتقسيط، وما عليك إلا التفكير بالدفع العاجل أو الآجل لداكين الملائكة، الذين وصلت رواتب بعضهم التقاعدية إلى عشرات الملايين. |