ثمة أعضاء غادرت الجسد بفضل حنان الديناميت وسهو مردوخ عن عباده. جمعوها في طشت وسيدفنونها بفتوى بمقبرة خارج مدينة . أعضاء تعود لعشرات من البشر الفانين من دون رغبة وقناعة أن العمر انتهى . لكن كابول قررت ذلك وثمة فرمان وقعه رجل بلحية رمادية قال : أن بابل بلد ينبغي أن لا تطول سعادته وان لا يفاخر أنه هزم الإسكندر بالهيضة وأن نبوخذنصر أسكن نصف أورشليم في حي الصفيح وأن الحلة بلدة النخلة والكحلة وكاتبة جيدة لقصيدة حلم جلفية تهادت بحنان شهواني ومضت تعانق ظل الأسد الجاثم فوق رجل مسترخ لسيف الإمبراطور ومستغيثا برأفة الآلهة وسيارات الإسعاف. طشت الخردة مصطلح جديد لم يعرفه العالم سوى في العراق وهو عبارة عن آنية من النحاس كبيرة يسمونها في العراق (طشت ) ، ويستخدم لغسل الملابس . إلا أن طشت الخردة لا يستخدم كما عرف عن هذه الآنية بل استخدم لتجميع أعضاء بشرية لا يعرف أصحابها وجمعت متناثرة من مكان الذي تنفجر به السيارات المفخخة . عين طفل ، ذراع شيخ ، عضو ذكري لشاب ، ثدي امرأة ، إصبع لا يعرف جنسه مازال فيه خاتم عرس ولكن ليس من الذهب ، ضفيرة محناة . جزء من قدم يمنى ، يد مقطوعة ولكنها ليست يد أبي الفضل العباس (ع) ، أعضاء كثيرة ، أنوف، ألسنة ، شفاه علوية فقط ، حوض ما يزال يرتدي لباس داخلي لطفل رضيع ، كلها جمعت في هذا الطشت حين رفعت الجثث الممزقة ولم يبق إلا هذه اللقُط . انتخى أناس وجمعوها في طشوت . لقطٌ ولكنها ليست أثرية فهي تتوسل بمن يدفنها بهدوء بعيدا عن جسدها الأصلي الذي تأمل أن تجتمع معه في يوم الحشر وينادى على من كان السبب ليتم الجزاء ، أما اللقطة الأثرية فهي غنية جدا وحالما تعبر الحدود سيكون منزلها متحف اللوفر أو بنسلفانيا وتباع باليورو . فيما أعضاء الجسد العراقي المجتمعة في طشت الخردة تتحاشى أشعة الشمس وامنية أن تدفن سريعا قبل أن تتعفن أو تترك عرضة للعبث وايدي السراق والمشعوذين ممن يستخدمونها كتعاويذ في طقوس السحر والشعوذة ، لهذا يتمنى البعض من ضعاف النفوس شراء الطشوت بحجة دفنها تبركا وطلبا للحسنة ولكنهم يضعونها في ثلاجة ثم يبيعونها إلى أناس يظنون أن أرواح هؤلاء المنكوبين باقية في بؤبؤ العين وقد ملكت قوة سحرية خارقة . هذا طشت واقعي وليس طشت خيالي كما بساط الريح . مصطلح أطلقه أهل الحلة على تلك الآنية يوم فجر انتحاري سيارة مفخخة بحشد هائل من البشر في مدينة الحلة قبل أشهر فتطاير في الهواء كحمامات مذبوحة أجساد البشر وتداخلت تكوينات بنيتها وافترقت منها أجزاء وتبعثرت في المكان لتصبح من دون هوية. واحد فقط عرف يد أخيه لأن ساعته ( الستزن ) ما زالت في معصمه. وأم عرفت ضفيرة ابنتها من العطر التي كانت قد عطرت به جسدها قبل أن تذهب لتكمل أوراق تعيينها معلمة . فيما صرخ أحدهم ذلك بؤبؤ عين أخي . سأله أحدهم : كيف عرفت . قال أنه ينظر إلي . وهكذا تصبح المشاعر دليلا للتعرف على هوية عضو فقدَ الانتماء إلى جسد بملامح كاملة .طشت الخردة جزء من الكوميديا السوداء التي بدأت تلف وجودنا الوطني في واحدة من أحرج لحظات تاريخنا . غرباء يدفعهم هوس القتل ويعبرون الحدود في الليالي الحالكة. ولأنهم لا يجدون الأمريكي لأنه ما يزال نائما في ثكنته العسكرية او أنه عاد الى بلاده ، يقررون أن يقتلوا شابا تخرج للتو من الجامعة في طابور الفحص الطبي من اجل لقمة العيش وربما بعد دزينة من السنوات والادخار يحصل على زوجة . لكن عضوه الذكري تزوج الآن طشت الخردة الذي صار له وسادة وسريرا وغرفة نوم أبدية . لم أقرا عن هذا الطشت في أية حرب وأية حكاية شعبية وأية أسطورة ولم أسمع عنه في سوق الصفارين والحمامات الشعبية ولكني سمعت عنه من ألسنة أهل الحلة وفسره لي الدكتور مالك المطلبي عندما كنا في ملتقى الكويت للشعر العربي عن ماهية وطبيعة هذا الطشت العجيب . وكلما أسمع خبر انفجار سيارة مفخخة أتذكر هذا الطشت وأتساءل كم من الطشوت سيحتاج الوطن ، وأن سوق الصفارين سينتعش حتما وسوق المشعوذين أيضا ، إذ مع كل انفجار ستتطاير أعضاء لا حصر لها وستضطر فرق الإنقاذ والمحسنين والشرفاء إلى جمعها في تلك الطشوت ثم يؤخذ بها فتوى الدفن ، وقليل من الناس من يتعرف على هويتها عندها تؤخذ إلى الجسد الأصلي وتدفن معه وفي ذلك مفارقة أن تجد ثديا مسجى قرب صاحبته وهو غير ملتصق بصدرها وسترى المخيلة الشعبية تذهب إلى أسطرة هذا المشهد حيث سيقول بعض من حضر الدفن أن الثدي مازال يدر حليبا وينزف دما في نفس الوقت .تلك هي قصة طشت الخردة . يكاد يكون لوحة سريالية تفننت بها مخيلة دالي الذي طالما تخيل هكذا عوالم . لكن طشوت دالي من صنع خياله الجنوني وطشوت الخردة العراقية صنيعة واقع مؤلم ومؤثر وعجيب . تلك طشوتنا كان من المؤمل أن نغسل بها ثياب المدرسة والعرس والبدلات العسكرية ولكننا نغسل بها الآن دموعنا وفي ذلك أسطرة لهذا الحزن الذي أتمنى أ فيسبوك تمتع العراقيون بعد سقوط الدكتاتورية بقدر كبير من حرية التعبير والنشر وصدرت صحف ومجلات عديدة بدون قيود ولا رقابة حكومية على ما يكتب فيها ، ولكن كل هذه الحرية بدت غير كافية لأن هناك آراء وأفكار تبقى خاضعة لرقيب غير مرئي و(تابو) مجتمعي محافظ وحتى متزمت يرفض الخوض في ثوابته الثقافية والعقائدية التي ، هي الأخرى، وجدت لها فضاء واسعا من الحرية في نطاق النشر والممارسة ، المخيف في هذا ( التابو) إنه لا يتورع عن استخدام العنف لإسكات من يتجرأ على ثوابته ولو بالنقد الموضوعي والدراسة الرصينة، لذا وجد الباحثون عن فضاء أرحب للتعبير والاطلاع ، وجدوا ضالتهم في مواقع التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العالمية، التي هي أيضا من النعم التي حلت علينا بعد التغيير وأشهرها (الفيسبوك) حيث يستطيع ان يدخل بأمان باسمه أو تحت اسم مستعار، يقرأ، يشاهد، ويستمع لما يحب، ينشر خواطره وأراءه بحرية تامة لا يمكن ليد الرقيب أيّا كان أن تنال منه بل بالعكس يستطيع هو ان ينال من الرقيب و( التابوهات) التي طالما خنقته وضيقت عليه عقودا طويلة. وقد أنشأت مواقع وصفحات متميزة تهتم بنشر ومناقشة أفكار لا يمكن مناقشتها عبر الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى، انضم لهذه الصفحات المئات من محبي المعرفة والاطلاع من مختلف البلدان من مختلف التوجهات الفكرية والعقائدية ،وتنشر عبرها مقالات ومقاطع (فديو) لمحاضرات أساتذة كبار في علوم الطبيعة والاجتماع وغيرها .هكذا غدا ( الفيس بوك) عالم فسيح لا حدود له تجاوز عدد المشتركين فيه مليار شخص وهو مستمر بالاتساع والتمدد، كما هو الكون، والتحديث للإفادة من التطور المتسارع للتكنلوجيا الرقمية المذهلة. بخطوات قليلة على (النت) تصبح عضوا في هذه الشبكة وقادرا على السياحة في فضاءاتها المليئة بالعجائب والغرائب ، ومهما يكن ما تبحث عنه ستجده بمتناول (إصبعك) ، ولكن عليك الحذر من المقالب والمطبات فأسماء وصور الشخوص ليست دائما حقيقية وهم ليسوا بالضرورة (خوش أوادم).
|