من الرابح ومن الخاسر من غزو العراق؟

 

في منطق الحروب هناك رابح وخاسر، هناك قاتل وضحية، في الحرب على العراق لم يكن هناك طرفان .. بل طرف واحد هو أميركا وحلفاؤها، خططت ونفذت أقذر مشروع تدميري ضد العراق الذي اختار طريق الحياة منذ تأسيس دولته عام 1921. يسجل التاريخ أن الغزو الأميركي للعراق واحتلاله قلبا موازين القوى في المنطقة، فالعراق لما يمتلكه من أهمية استراتيجية، كان حاجزاً جيوسياسيا بين الخليج العربي وكل من إيران وتركيا، وبسقوطه تحت الاحتلال انهار هذا الجدار، تحت رغبة إيرانية جامحة في تحقيق مشروع التمدد في المنطقة وخصوصاً الخليج بسهولة. ولم تعد إيران تكلف نفسها بتسويق شعارات مثل «تحرير القدس يمّر عبر كربلاء» التي طغت خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980 -1988 كغطاء لمحاولاتها في غزو العراق بتكاليف بشرية ومادية باهظة، في حين قدمت أميركا لإيران هذا الهدف الكبير بلا ثمن. فتح انهيار العراق الأبواب أمام أخطر تدهور سياسي وإنساني للعالم العربي في القرن الواحد والعشرين الذي يفترض في النظام الديمقراطي العالمي أن يكون أوصل الإنسانية إلى مرحلة النضج وقطف ثمار الحرية وتدفق المعلومات والمعرفة إلى البشرية جمعاء، دون فوارق دينية أو مذهبية، لا أن تستنبت وتنمو وتزدهر الصراعات الطائفية والعرقية في العراق الذي يفترض أن يكون أكثر بلدان المنطقة تحضراً ومدنية، ثم تسّوق منه إلى المنطقة. يقول «هانز بليكس» كبير مفتشي أسلحة الدمار الشامل في العراق في تصريحات لشبكة CNN الأميركية قبل أيام «لقد كان الهدف من الحرب تحويل العراق إلى قاعدة صديقة تسمح للقوات الأميركية بالتدخل في إيران وقت الحاجة، ولكنها بدلاً من ذلك منحت إيران حليفاً جديداً في بغداد». لقد انتقل تنظيم القاعدة إلى العراق بعد انتكاسته في أفغانستان إثر واقعة 11 سبتمبر 2001 التي نشأ وكبر في تضاريسها وجبالها بفضل المخابرات الأميركية لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، لقد نما الطفل المدلل وتمرّد على صانعه، وهكذا أخذ يتمدد من العراق إلى الشام والمغرب العربي واليمن. وبعد عقد على كارثة غزو العراق يسود جدل متواصل داخل الولايات المتحدة الأميركية، بين مهندسي تلك الحرب وصناعها وبين أوساط الرأي العام الأميركي من مراكز بحوث ومحللين، عن جدوى هذه الحرب ومنافعها للشعب الأميركي. وهو جدل يشبه ما حصل للحرب في فيتنام قبل أربعين عاماً، وهذا الجدل يكشف عن فضائح لصالح الضحية شعب العراق .. في وقت يطبق صمت على سياسيي العراق السكارى بغنائم الحرب، أو صمت غير متعمد ناتج عن جهل وتخلف من قبل غالبية المثقفين المنشغلين بأزمة الحكم في العراق . نجد شهادات خطيرة من قبل مهندسي تلك الحرب بأنها لم تكن مبررة، المتعنت الوحيد عن الاعتراف هو بوش « الإبن « وشريكه « بلير «، حيث أوهم بوش الشعب الأميركي بأن الحرب على العراق ذات طابع ديني « فالرب هو الذي أمرني بها « ودعا بلير إلى مشاركته فيها، لأن ( ياجوج وماجوج هناك عند بابل ) وهو تسويق لصراع الأديان والحضارات، ومن نتائجه النمو السريع للتطرف الديني في العراق والمنطقة بقيادة تنظيم القاعدة وغيره. من الرابح والخاسر في غزو العراق واحتلاله؟ ولا نتحدث عن الخاسر الضحية شعب العراق الأبي بشبابه ونسائه وشيوخه، الذين سيسجل لهم التاريخ قدرتهم على الصمود وعدم الانهيار أمام تحالف قوى الشر والظلامية والتخلف. ومن دون شك فقد خسرت أميركا انفرادها ومكانتها في الهيمنة على العالم التي تمتعت بها في أوائل التسعينيات، واستفاقت روسيا من صدمة انكسار قطبيتها العالمية التي وجهتها لها الاستخبارات الأميركية من خلال غورباتشوف، لتلعب مجدداً في سوريا لعبة النفوذ التي تكشف مدى تراجع أميركا وخذلانها، ولعل هزيمتها في العراق قد أغلقت الطريق أمام دعاة الاحتلالات العسكرية في واشنطن، ومثال ذلك ما يحدث في سوريا من استنزاف للدماء دون أن تقرر الإدارة الأميركية حسم الأوضاع مباشرة، وفشلها في العراق له تبعات كبيرة بعدم التدخل المباشر، ولعله إحدى التبعات الإيجابية لهذا الفصل المظلم من التاريخ . لقد تراجعت استراتيجية القوة الناعمة (Soft Power) وانكفأت أميركا لمواجهة مشاكلها الداخلية . هناك من يقول إن أميركا هي الرابح لصالح الغير من غزو العراق .. فقد تمزقت دولة العراق ومؤسساتها وانهارت طبقتها العلمية والمعرفية وتفككت وحدتها الاجتماعية، وهذه نتائج غنمتها كل من إيران وإسرائيل، وهو هدف تاريخي ليس لأن العراق دعا إلى تحرير فلسطين، فجميع الأنظمة العربية الحاكمة كانت هذه الدعوة موثقة في جامعتهم وبياناتهم، وأصحاب الشأن ممثلي شعب فلسطين قبلوا ولاية إسرائيل لهم، فهذا الشعار استهلك من خلاله دعاة «المشروع القومي العربي» جيلين من الشباب بلا نتيجة، وتحول الآن إلى مادة لأحاديث الأطلال يشغلون وقتهم بها، ويمارسون دور المتفرج القاطف لثمار الأخطاء والخطايا. خصوصية العراق في الثروة والمعرفة والحضارة شكلت قاعدة نمو هائلة تغلق أبواب التشرذم الطائفي والعرقي، وهو هدف إسرائيلي ينسجم وكيانها، وهو ما يحصل اليوم، ولأن العراق شكل سداً أمام مشروع حلم الهيمنة الإيرانية، الذي تقطف ثماره الآن. لقد أنشأ الغزو الأميركي التحالف الذي تقوده إيران (إيران– بغداد– دمشق– حزب الله) وتطالب من خلاله الاعتراف بها كقوة نفوذ في المنطقة. فالرابحان الرئيسيان من غزو العراق هما إسرائيل وإيران . إذن مشروع تفكيك المنطقة وإعادة صياغة كياناتها طائفياً وعرقياً على يد زعاماته العقائدية والسياسية في التطرف الديني والمذهبي هو الرابح الأول. هناك رابحون ثانويون محليون وإقليميون، يمكن أن يأخذوا وصف «جناة غنائم» أكثر من معنى الربح الاستراتيجي… وهؤلاء يمكن تصنيفهم كفاقدي جاه ومصابين بالجوع القديم، حتى وإن بدت أرصدة الغنائم عالية ويتفاخرون بها في لياليهم الصاخبة، لكن غالبيتهم من ملتقطي قمامة شعب العراق الأبي. في زاوية الكلام الرقمي يطول الحديث، فهذه الكويت التي دفع حكامها عام 1990 الأزمة إلى حافة الهاوية التي يسرت لصدام مغامرته باجتياح الكويت، يستثمرون اليوم محنة العراق لجني مكاسب في تمدد دولتهم جغرافياً، حيث استولوا على ميناء «أم قصر» العراقي وضموه إلى محميتهم، وهم يعلمون أن أخذ الاعتراف تحت الظرف غير الطبيعي لا يلزم أصحابه مستقبلا، والحصول على أرقام خيالية حيث ربحت الشركتان الكويتيتان (أجيتي ومؤسسة البترول الحكومية) مبلغ 13،5مليار دولار من قوت العراق، إلى جانب شركة KBR وشركات أميركية أخرى تحت إدارة هاليبرتون التي يديرها ديك تشيني، يصل الرقم إلى 138 مليار دولار. والحكام الكويتيون في حاجة إلى وقفة تبّصر إن أرادوا العيش الآمن لأجيالهم المقبلة إلى جانب أشقائهم العراقييين، أما جناة الغنائم من العراقيين، فهؤلاء على حافات الطريق وزمنهم قصير. من الرابح ومن الخاسر من غزو العراق قصة بدأت ولن تنتهي..
الدكتور ماجد احمد السامرائي - لندن